اعادة ترتيب الاولويات في السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي

      التعليقات على اعادة ترتيب الاولويات في السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي مغلقة

د. فراس حسين علي الصفار

رئيس قسم ادارة الازمات /مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء

آذار-مارس 2019

تعد السياسة النقدية الاداة الرئيسة لتدخل البنك المركزي في النشاط الاقتصادي لأي دولة سواء كانت دولة متقدمة او دولة نامية بغية تحقيق أهداف معينة في مقدمتها الاستقرار السعري، زيادة معدلات النمو في الاقتصاد، زيادة الاستخدام للموارد المتاحة، معالجة الخلل في ميزان المدفوعات، المساهمة في تقليل البطالة، وترتبط الإصلاحات في مجال السياسة النقدية بكافة السياسات التي من شأنها أن تساهم في زيادة مستويات قدرة السياسة النقدية في تحقيق أهدافها الرئيسية. حيث تتفق العديد من الدراسات الحالية أن السياسة النقدية لابد وأن تهتم بشكل رئيسي بتوفير بيئة محفزة للنمو الاقتصادي في الأجل الطويل من خلال توفير الاستقرار السعري الذي يساهم في زيادة مستويات الثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين ودعم مستويات الاستهلاك والاستثمار.

في هذا السياق، تؤكد العديد من الدراسات وجود علاقة منضبطة وعكسية بين معدل التضخم والنمو طويل الأجل، حيث أن ارتفاع التضخم يؤثر سلبا على النمو الاقتصادي ويؤدي إلى زيادة مستويات عدم اليقين ويضعف مستويات القدرة الشرائية ومن ثم يؤثر سلبا على الاستهلاك والادخار لا سيما بعد تخطي معدل التضخم لمستويات محددة. كما أن التقلبات الكبيرة في معدل التضخم تُضعف الآليات السعرية وتعمل على خفض مستويات الانتاجية والنمو الاقتصادي. في المقابل، خلصت دراسات أخرى إلى أهمية وجود قدر مقبول من معدلات التضخم لدفع النمو الاقتصادي ومن ثم وجود علاقة طردية بين المتغيرين لا سيما في الاقتصادات المتقدمة حيث يؤدي ارتفاع الأسعار إلى انخفاض الأجر الحقيقي للعمالة بما يحفز المنتجين على تشغيل عدد أكبر من العمال وزيادة الانتاج.][1][

الية انتقال أثر السياسة النقدية الى النشاط الاقتصادي

يمكن ان ينتقل أثر السياسة النقدية الى النشاط الاقتصادي من خلال ما يعرف بقنوات السياسة النقدية التي عن طريقها يصل اثر السياسة النقدية الى الهدف النهائي وتتأثر الية انتقال اثر السياسة النقدية بشكل قوي بالمتغيرات التالية:

  • مرونة المتغيرات الاقتصادية.
  • مرونة المتغيرات بهيكل النظام المالي بالدولة.
  • هيكل الاقتصاد الكلي.
  • الاوضاع الاقتصادية بشكل عام

ويتجه عدد من الاقتصاديين الى التمييز بين ما يعرف:

  • انتقال أثر السياسة النقدية من منظور النقود ومن هذا المنظور تؤثر السياسة النقدية في جانب الطلب على الموارد المالية (الطلب على الائتمان) من خلال التغيرات بسعر الفائدة.
  • انتقال اثر السياسة النقدية من منظور الائتمان ومن هذا المنظور فأن انتقال اثر السياسة النقدية يتم من خلال التأثير في المعروض من الموارد المالية (عرض الائتمان) ويبنى منظور النقود على قناة سعر الفائدة اما منظور الائتمان فيؤكد على دور الوساطة المالية او البنوك في تأثير السياسة النقدية على النشاط الاقتصادي حيث تؤدي البنوك دورا هاما باعتبارها اكبر مؤسسات الوساطة المالية في الاقتصاد .

قنوات انتقال أثر السياسة النقدية الى النشاط الاقتصادي

أولا : القناة التقليدية لمعدلات الفائدة (المنظور النقدي) وهي قناة تقليدية لانتقال اثر السياسة النقدية الى هدف النمو، ان السياسة التقليدية تعمل على ارتفاع اسعار الفائدة الاسمية مما يعمل على ارتفاع سعرها الحقيقي ومنه ارتفاع تكلفه راس المال وهذا ما يؤدي الى تقليص الطلب على الاستثمار ومن ثم انخفاض الطلب الكلي ومنه النمو.

ثانيا : قناة سعر الصرف تستخدم هذه القناة للتأثير على الصادرات من جهة ومن جهة اخرى تستعمل الى جانب معدلات الفائدة في استقطاب الاستثمار الاجنبي.

ثالثا : نظرية توبن James Tobin  تشرح هذه النظرية كيفية تأثير السياسة النقدية في الاقتصاد من خلال تأثيرها في تقييم الاسهم .

اذ تؤثر السياسة النقدية في اسعار الاوراق المالية من خلال انخفاض عرض النقود الذي يؤدي الى انخفاض الفوائد او عجز الارصدة النقدية لدى القطاع العائلي الامر الذي يترتب عليه اتجاه وحدات القطاع العائلي نحو سوق الاوراق المالية لبيع ما لديها من اوراق مالية او عدم شراء اوراق مالية وهو ما يعني انخفاض الطلب على الاوراق المالية واتجاه اسعار هذه الاوراق الى الانخفاض ويؤدي هذا الانخفاض في اسعار الاسهم ومن ثم انخفاض القيمة السوقية ومن ثم انخفاض الاستثمار ثم الدخل.][2][

السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي

خلال المدة السابقة مارس البنك المركزي العراقي سياسة مسك العصا من الوسط لتحقيق التوازن بين تناقضين الاول : اقتصاد الدولة ومسايرته لهذا الاقتصاد الريعي الكبير والاخر : مجاراة السوق الحر، وهي سوق باهتة تخدم النشاط التسويقي الداخلي وحركة الاموال نحو الخارج بغض النظر عن النتائج المرجوة في بناء انموذج اقتصادي يولد حركة تدفقات داخلة وخارجة بالعملة الاجنبية بمنأى عن هذه الثنائية او الاستقطاب الشديد بين اقتصادين مختلفين ( الدولة والسوق ) وبين تدفقين (تدفقات بالعملة الاجنبية داخلة يوفرها اقتصاد الدولة و تدفقات خارجة من تلك العملة يستميل عليها القطاع الخاص باتجاه واحد خارج الحدود دون النظر الى الخلف).  واستخدم سياسة تدخل في سوق الصرف لبلوغ مستوى مستقر في سعر صرف الدينار العراقي في محاولة كانت ناجحة في اختبار ادواته للتصدي للتوقعات التضخمية منطلقاً من مفهوم ان السياسات النقدية العصرية هي السياسات التي تحسم فن ادارة التوقعات.][3][

وتواجه السياسة النقدية في العراق جملة من التحديات والضغوط الاخرى اهمها :(العجز في صافي الايرادات غير النفطية، عجز الموازنة العامة للدولة، عجز ميزان المدفوعات من غير النفط، عوامل خارجية تضعف دور أدوات السياسة النقدية التقليدية في التحكم في عرض النقد).

إن معرفة طبيعة نفقات الدولة وإيراداتها وما تمثله نسبة العملة المحلية مقابل الإيرادات المحلية ، تشكل المدخل المهم للتعرف على هيكلية وخواص الاقتصاد والمالية العامة للدولة، إن الظاهرة العامة التي تهيمن على هيكلية الاقتصاد والمالية العامة هو إن الدولة تعتمد في تغطية نفقاتها على الدولار النفطي المتأتي من تصدير النفط وبنسبة تزيد على 90 % ، مما يؤشر الى خلل هيكلي لا يحقق الاستقرار المالي والاستدامة المالية ، ويؤشر الى عجز السياسة المالية في خلق توازن ضروري بين ايرادات الدولة بالعملة المحلية ونفقاتها بالعملة المحلية ، ويؤشر ايضاً الى غياب كبير للقطاعات الاقتصادية الحقيقية وتنوع إنتاجها.][4][

ضعف دور ادوات السياسة النقدية التقليدية في التحكم في عرض النقد

عادةً ما تستخدم السياسة النقدية ادواتها التقليدية للتحكم في عرض النقد، والتي منها:

  • عمليات السوق المفتوحة (بيع وشراء السندات، الإيداع الاسبوعي والشهري)
  • سعر إعادة الخصم مقابل إعادة خصم الأوراق التجارية وحوالات الخزينة.
  • سعر الفائدة

إن عدم وجود سوق مالية فعالة، وتدني نسبة العمق المالي ( نسبة رؤوس أموال الشركات المساهمة الى الناتج المحلي) لا تتعدى 2 % ، وظاهرة الاقتصاد النقدي والميل الى الاكتناز بدل الادخار ، وضعف الوعي العام ، هذه البيئة تضعف من دور أدوات السياسة النقدية في تأدية مهامها وتحقيق أغراضها في التحكم في عرض النقد او توجيهه بما يخدم الاهداف الاقتصادية .

لذلك تلعب نافذة بيع العملة (بيع الدولار مقابل الدينار) دوراً اساسياَ في:

  • تعقيم فائض النقد (منعاً للتضخم)، المتأتي من نفقات الموازنة العامة للدولة بشكل أساس.
  • المحافظة على استقرار سعر الصرف، باعتبار البنك المركزي المحتكر الطبيعي للعملة الأجنبية (الدولار النفطي).
  • تمويل التجارة الخارجية وتحويلات المستثمرين والأغراض الاخرى.

وعلى هذا الاساس تنعمت السوق الوطنية بأسعار صرف مستقرة واستقرار في المستوى العام للأسعار وهبوط التضخم الى المرتبة العشرية الواحدة بعد ان بلغت معدلاته مراحل عالية، فضلا عن ارتفاع احتياطيات البنك المركزي من النقد الاجنبي الى المرتبتين العشريتين من حيث القيمة الدولارية وهي الاعلى في تاريخ البلاد. ولكن لم يستطع البنك المركزي من حسم التناقض بين اقتصاد السوق وتطلعاته وفردانيته باتجاه الربح إزاء تطلع اقتصاد الدولة وفردانيتها في البحث عن الربح الاجتماعي وهي تفتقر للرؤية الاقتصادية لحركة النظام الاقتصادي في العراق. فهكذا معادلة معقدة وضائعة جعلت الاقتصاد الوطني والبحث عن حلول له بمثابة سفينة اقتصادية بلا ربان، فارتفاع او انخفاض سعر صرف الدينار العراقي هو ليس نتاج ضعف او قوة في القطاع المالي للدولة (المالية العامة والبنك المركزي ) ولكن هو نتاج لمن يحسم الصراع ويمسك بدفة الربان وبأي اتجاه في مياه الاقتصاد العراقي المندفعة نحو مصباتها خارج الحدود ؟][5][

الخلاصة: يحتاج البنك المركزي الى التفكير بجدية لتحقيق اهداف اخرى غير الاستقرار في سعر الصرف او استهداف التضخم، وانما عليه التفكير بالهدفين الاخريين الاستخدام الشامل وتوازن ميزان المدفوعات واللذان يعدان من اهم اهداف البنك المركزي في العالم سابقاً. اذ ان وجود قدر مقبول من معدلات التضخم ستسهم بالتأكيد في زيادة النمو الاقتصادي، ومن ثم انخفاض الأجر الحقيقي للعمالة بما يحفز المنتجين على تشغيل عدد أكبر من العمال وزيادة الانتاج. فضلاً عن ان تخفيض سعر الفائدة الحقيقي والاسمي سيودي لتنشيط الاستثمار خاصة في الاجل القصير، ان الادوات التي يمتلكها البنك المركزي قادرة على التأثير في النشاط الاقتصادي عبر مجموعة متنوعة من القنوات. مع عدم اغفال هدف الاستقرار السعري كونه يعد من اولويات البنك المركزي العراقي.

الهوامش

[[1]]  محمد اسماعيل وهبة عبد المنعم، دور الإصلاحات الاقتصادية في دعم النمو في الدول العربية، صندوق النقد العربي، الامارات العربية المتحدة ، فبراير، 2018، ص17.

  [[2]]سامي خليل ، النظريات والسياسات النقدية والمالية، الجزء الاول ، شركة كاظمة للنشر والترجمة والتوزيع، الكويت ،1982، ص 172-ص182.

[[3]] مظهر محمد صالح، المعادلة الضائعة في الاقتصاد العراقي : من يحسم التناقض بين اقتصاد الدولة وهيمنة السوق الحر، بحث منشور على الموقع الرسمي للبنك المركزي العراقي.

[[4]] علي محسن اسماعيل، السياسة النقدية التحديات وسبل مواجهتها، بحث منشور على الموقع الرسمي للبنك المركزي العراقي،2017.

[[5]] مظهر محمد صالح، المعادلة الضائعة في الاقتصاد العراقي : من يحسم التناقض بين اقتصاد الدولة وهيمنة السوق الحر، مصدر سابق