الآليات الاستراتيجية لبِناء السلام في مُحافظة نينوى

      التعليقات على الآليات الاستراتيجية لبِناء السلام في مُحافظة نينوى مغلقة

 

 

م. د مروان سالم العلي

تدريسي في كلية العلوم السياسية بجامعة الموصل

 

تُشكل قضية “بِناء السلام” إِحدى أَبرز المُعضِلات التي تواجه الدول المأزومة بالصِراعات، ولاسيما في مرحلة ما بعد الحرب. ذلك أَنَّ السلام -كمعنى يستهدف أمن ورخاء وسكينة المُجتمعات- ليس خياراً يسيراً كما إِشعال الحرب، لأنه يتطلب إِحداث تغييرات عميقة في سلوك الأَطراف المُتنازِعة، وأبنيتهم الاجتماعية المُنتِجة للعنُف، بِما يدفعهم إلى التعايُش والتفاعُل السلمي مع آخرين يختلفون عنهم في الأهداف والمصالح. فقد تطور مفهوم بِناء السلام مِن السلام السلبي قديماً )أي غياب الحرب والنِزاعات والصِراعات)، ليشمل السلام الإِيجابي (أَي غياب الاستِغلال، وإيجاد العدل الاجتماعي والقضاء على الفساد). وثبت تاريخياً أَنَّ بِناء السلام والتعايُش السلمي وكيفية إشاعتهُما فعلياً في مرحلة ما بعد الصِراع, بين الفئات المُتحارِبة داخل الدولة, هو عمل مُضنٍ وطويل وشاق جداً, فالخطوط الفاصِلة بين السلام والحرب لم تعد واضِحة، فالسلام لم يعد يعني غياب الحرب والعنُف فقط، بل يعني توفير بُنيات تحتية وآليات فعالة على المستوى الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي والسياسي لضمان استمرار السلام، فالسلام يتطلب العمل مِن أَجل العدالة، فلا سلام بِلا عدالة ولا عدالة بِلا تضامُن.

ويمكن القول؛ إن تحرير مدينة الموصل مِن سيطرة تنظيم داعش ومسارها، لن تُحدد مُستقبل المدينة فحسب، وإنما ستُحدد شكل العِراق ومُستقبله، لأن المخاطر الكبيرة التي ستعقب تِلك المعركة والتخطيط لها، سيلقي بظلاله على مُستقبل هذا البلد. فكيف يتحقق الاندِماج والتعايُش السلمي والسلام في مُجتمع تعددت أَديانه وتنوعت ثقافته وتباينت أفكاره كالعراق والموصل تحديداً؟. ولا شك؛ إِنَّ الإجابة على تِلك الإِشكالية تحتاج مِن ضمن ما تحتاج اليه رؤيةٌ استراتيجيةٌ شامِلةٌ وحقيقية وبعيدة عن رموز الصِراعات وبوصلة الأَزمات، واتباع آلياتٌ وإجراءاتٌ مِنها آنية ومِنها مُستقبلية. عليه إِنَّ نشر ثقافة حقوق الإِنسان ومُفردة التسامُح والتعايُش السلمي والحكُم الصالح في مؤَسسات الدولة وبين ابناء الشعب العراقي على نحوٍ عام والمُجتمع الموصلي على نحوٍ خاص، وتبني الإِصلاح بأَنواعه، ومُكافحة الفساد بأنماطه كافة، تُعد مِن الآليات السلمية لبِناء السلام في العِراق والموصل خاصةً.

وشهدت الموصل عبر تاريخها أحداث كثيرة، بيد أنها لم تشهد حدثاً حرك كوامن وآثار سلبية مثلما مرت على المدينة والمُحافظة خِلال احتلال داعش، ودُفعت ضريبة باهِظة نتيجة هذا التنوع الديني والعرقي والطائفي. وفي أية قِراءة لطبيعة التبايُن والتعدُد في نينوى فأنَّ النتيجة الأَساسية: هي تنوع ديني: إِسلام ومسيحية وايزيدية، تنوع عرقي: عرب وكرد وتركمان وشبك، تنوع طائفي: سنة وشيعة.

وشكل هذا المزيج المُتباين صورة طيبة ومُشرِقة لِمُحافظة تتسع وتستوعب جميع هذه المكوِنات، لكِنه مع احتلال داعش تعرض هذا الخليط ليس للتهجير فحسب بل لزرع خِطاب الكراهية بين أَطرافه، وما تحتاجه المُحافظة أكثر من أَي وقتٍ مضى، تفعيل إِدارة هذا التنوع بِما يرسم صورة جديدة عن المُحافظة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على هذا التنوع مِن التشتُت والضياع. وبِما يجعل مِن التعايُش يرتكز على جُملة مِن المُتطلبات الأساسية التي يحتاجها لإدامته فضلاً عن تشخيص تِلك الإِشكاليات التي تصيب كيان التعايُش بالشرخ.

فبعد انطلاق عمليات تحرير الموصل واقتراب تحريرها بسواعد أَبناء العراق الغيارى، برزت على السطح آثار الاحتلال الداعشي وما قام به مِن عمليات قتل وتخريب وتدمير للبِناء والإِنسان. وإِذا كانت عملية إِعادة البِناء المادي تحتاج الكثير مِن الموارد المالية في ظرف اقتصادي يعج بالتحديات، فأَن المناطق المُحررة تحتاج أنَّ تكون لها الاولوية في العُمران وإِعادة البِناء. نقول رغم أنَّ البِناء المادي له صعوباته وتحدياته، بيد أنّ بِناء الإِنسان وإعادة تأَهيل الخراب الثقافي والتربوي الذي تعرض له أَبناء المناطق المُحررة على أَيدي المُحتلين يحتاج جهداً استثنائياً على المستوى الثقافي والتربوي وكذلك السياسي وفق تبني آليات استراتيجية سلمية ثقافية- اجتماعية وسياسية واقتصادية وأَمنية وما إِلى ذلك.

  1. الآلية الاستراتيجية الاجتماعية – الثقافية

لا جِدال إِنَ بِناء السلام في مُحافظة نينوى والمناطق المُحررة الأُخرى لا يمكن أَنَّ يقوم به جهد حكومي لوحده، بل يستلزم جُهداً مِن المُجتمع المحلي كالمؤسسات التربوية والتعليمية ومؤَسسات المُجتمع المدني والعشائر ورجال الدين ووسائل الإعلام، وجميع مؤسسات الضبط الاجتماعي التي تلعب دوراً كبيراً في تشكل الوعي والرأي العام. إذ تقع الموصل في مُقدِمة تحديات ما بعد التحرير، لأنها تُشكل عِراقاً مُصغراً في تنوعها الديني والطائفي والعرقي. وقد تعرض هذا التنوع إِلى تشويه وفقدان الثِقة بين أبناء المُحافظة بسبب ما زرعه المُحتلون مِن ثقافة نابِذة للآخر ومُعادية له بل قاتلة لِكُل من يُخالفها هذا الإرث مِن العِداء والاحقاد والضغائن يحتاج الكثير مِن الجهود لتضميد الجِراح، ليس جِراح الاجساد، بل جِراح الارواح والعقول، فضلاً عن الذاكِرة التي زرعت فيها حوادث الايام الماضية الكثير من الآلام.

كُل هذا يحتاج مُكاشفة ومواجهة آلام الماضي بالإِصلاح والمُصالحة. فمن أجل بِناء السلام لا بُد مِن إجراء عمليات اعتراف مُتبادل بين المكونات الدينية والطائفية والعرقية مِن أَجل التأسيس لبيئة مِن السلام والتعايُش، والاعتراف بالتنوع والحق بالاختلاف. مِن هُنا علينا الانطلاق في برنامج ثقافي إِعلامي وربما سلسِلة مِن الحوارات السياسية، مِن أجل تأَكيد ثقافة التسامُح ونبذ ثقافة الثأر والانتقام المُتجذرة في الثقافة العِراقية على نحوٍ كبير. رُبما يشمل هذا البرنامج المُتضررين مِن تنظيم داعش لإِيصالهم إِلى قناعةٍ مفادها أنَّ من هجرهم وصادر أَو استولى على أَموالهم وبيوتهم واراضيهم  ليس أَهل الموصل، بل هُناك فكر وافد وثقافة غريبة على المُجتمع الموصلي الذي عاش التنوع والتعدُد مِنذُ عشرات السنين.

وفي المُقابل ومِما لا شك فيه أن لتعليم حقوق الإِنسان لِكُل فرد مِن أَفراد المُجتمع وإِدخالها في ثقافته وتحويلها إلى واقع، مردوداً كبيراً في تعزيز فهم حقوقه أولاً، واحترامها والحِفاظ عليها والشعور بالكرامة والحُرية ثانياً مِما يدفعه إلى المُشاركة بفعالية في تنمية وطنه وحفظ السلام وبِنائه وهذا ما أَيدته التجربة. ونشر تِلك الثقافة هي عملية متواصِلة وشامِلة تعمُ جميع صور الحياة، ويجب أَنَّ تُنفذ إلى جميع أَوجه المُمارسات الشخصية والمهنية والثقافية والاجتماعية والسياسية. فبِناء السلام يُقصد بِه تهيئة المُجتمع وبِناءه لدعم وتبني ثقافة السلام ومُمارستها، ويشمل هذا التربية والتعليم ودعم ثقافة حقوق الإِنسان والتنمية الاقتصادية والتعدُدية والتسامُح وقبول الآخر وتعزيز التوافق بين الفرد ومُجتمعه وبين الفرد والبيئة.

ومِن هُنا نؤكد على مبدأَ التسامُح الذي يعد مسؤولية تُشكل عِماد حقوق الإِنسان والتعدُدية الثقافية والديمُقراطية وحكُم القانون. فالتسامُح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمُنا ولأشكال التعبير وللصفات الإِنسانية لدينا. وهو الفضيلة التي تُيسر قيام السلام، ويسهم في إِحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب. التسامُح يعني الإِقرار بأن البشر المُختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولُغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهُم الحق في العيش بِسلام وهي تعني أيضاً أَنَّ آراء الفرد لا ينبغي أنَّ تُفرض على الغير. والتسامُح يعني الإِقرار بأن البشر المُختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولُغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهُم الحق في العيش بِسلام وهي تعني أيضاً أَنَّ آراء الفرد لا ينبغي أنَّ تُفرض على الغير. والتعليم هو أنجح الوسائل لمنع اللاتسامُح. ومِن هُنا ينبغي ايلاء عناية خاصة لتحسين إِعداد المُعلمين، والمناهج الدِراسية، ومضامين الكتُب المدرسية والدروس وغيرها مِن المواد التعليمية بِما فيها التكنولوجيات التعليمية الجديدة بغية تنشئة مواطنين يقظين مُنفتحين على ثقافات الآخرين، يُقدِرون الحُرية، ويحترمون كرامة الإِنسان والفروق بين البشر.

  1. الآلية الاستراتيجية السياسية والقانونية

  إِنَّ التعايُش السلمي وبِناء السلام في مدينة الموصل يحتاج من ضمن ما يحتاجه، إِلى إِدراك عدد مِن المُتطلبات التي يكتمل بها ويأتي في مُقدِمتها المُتطلبات السياسية والقانونية، إِذ لها اثر كبير في التعايُش، فسياسياً دعونا نقول؛ انه من دون عمل سياسي يدرك معنى مُشاركة الجميع ويتجاوز خِطاب الكراهية ويقبل باللُعبة السياسية كونها فوز وخسارة فانه لا يمكن أَنَّ يكتمل التعايُش، كما أَنَّ تفعيل المُشاركة السياسية والقبول بتوزيع السلطة يعد مُستلزماً أساسياً لاكتمال التعايُش. أَما الجانب القانوني فان تطبيق القانون وعد التمييز وإِشاعة ثقافة احترام القانون تُشكل عامِلاً ومُتطلبا أساسياً، فضلاً عن تفعيل موضوع العدالة الانتقالية لِمُحاسبة مُنتهكي الحقوق ودُعاة الكراهية ومروجيها عبر تِلك القوانين، مِما يفضي إِلى ايجاد ارضية سليمة لأي تعايش في الموصل بعد التحرير. أَي نفهم مِما سبق أَنَّ الآلية السياسية تقوم على الأسُس التالية:

  • ترويج ثقافة السلام والتعايُش السلمي

اليوم نحنُ في محافظة نينوى نحتاجُ إِلى مُفردة التعايُش السلمي وتطبيقاتها أكثر مِن أي وقت مضى، إِذ أنَّ مدينتنا فيها مِن الطوائف والاثنيات والعرقيات الشيء الكثير من عرب وكرد ومسيحيين وشبك وايزيديين وصابئة ومندانيين وسنة وشيعة، فإِذا لم يكُن هُناك تعايُش سلمي بين كُل هذه الفُسيفساء الجميلة في العراق عامة ونينوى خاصة، فلن نضمن استقراراً مُرتكزاً في العراق ومبنياً على معاني الصدق والإِخلاص لأبنائه، ولكن تطبيق التعايُش بين هذه الطوائف يتطلب التركيز على عِدة نِقاط مُهِمة تُعد الكفيلة بإِنجاح التعايُش السلمي بين العراقيين واهالي نينوى ثُم بِناء السلام:

  • يكون هُناك تحاور بين كُل الطوائف والقوميات مبنياً على المصالح المُشتركة لا على مصلحة طرف دون أخر. هذا التحاور سيصنع جواً مِن الحُب والتعايُش بعيداً عن كُل المُشاحنات والاتِهامات.
  • أَنَّ تخرج توصيات مِن هذه الحِوارات بين الطوائف والقوميات وأنَّ تدخل هذه التوصيات حيز التنفيذ لا أَنَّ تبقى حبراً على ورق وهذه التوصيات تتضمن أَموراً عِدة مِنها : التأكيد على وحدة العراق والعراقيين. وعدم التفريق بين الوان الطيف العراقي حسب العرق أو الطائفة أَو المذهب. والتأكيد على نبذ الإِرهاب والمُنظمات الداعِمة له ومِن كُل الجهات. والتأكيد على النقاط المُشتركة ونبذ نِقاط الخِلاف بين الوان الطيف الموصلي.
  • أنَّ تُبنى أجهزة الدولة على أساس الكفاءات بعيداً عن المُحاصصات الطائفية التي تُثير النِزاعات.
  • أَنَّ يكون رِجال الدين طرفاً أَساسياً ومُشارِكاً فعالاً في المؤتمرات والحِوارات والتركيز على مسالة مُهِمة ألاَّ وهي دور الدين في التسامُح وإشاعة مفاهيم الرأفة والرحمة.
  • إِشاعة المفاهيم الدينية الصحيحة بين أَفراد المُجتمع وطبع الكُتيبات والكُراسات التي تحث على مناهج التعايش ونشرها بين طوائف الشعب الموصلي عامةُ وفي الوسط الجامعي خاصةً.
  • نشر ثقافة إِدارة التنوع التي تُعد مِن أهم الأبعاد السياسية التي تخلق وتُأسس الساحة السياسية للتعاطي بموضوعية مع الرأي المُخالف، وتحترم قدرات المُعارضة لتوظيفها إِيجابياً.

وعليه ولغرض بِناء السلم الاهلي في نينوى عامةً والموصل خاصةً يجب التعامُل مع النِزاعات الداخلية بشمولية وعلى جميع المستويات لتسويتها، واصبح التركيز على مفاهيم بِناء السلم وتمتين أسسهُ عبر آليات وعمليات ومؤسسات تفضي إِلى وضع حلول عملية لإِنهاء النِزاعات وقلع جذورها. ولتجاوز حالة العجز في بِناء السلم الاهلي ثمة حاجة إلى سيناريوهات:

  1. تمكين الدولة العراقية في بِناء السلام المُستديم في الموصل عِبر عقد مؤتمرات خارجية لكسب الدعم الدولي والاقليمي لتلك المدينة.
  2. تطوير الهياكل الوطنية لإيجاد هياكل تُنمي القدرات المحلية للإدارة لإرساء الحكُم الرشيد في الموصل.
  3. مُعالجة الاوضاع مع دِول الجوار كونها أقرب الجهات المُغذية للنِزاعات الداخلية.

يبدو أنَّ السيناريو الأخير مُهِم، كونه يقطع امداد الاثنيات في الدولة الخارجة مِن الحرب بعوامل قد تكون مُشجِعة لاستمرار عمليات التدمير في مُجتمعاتها، والعمل على خلق مؤسسات ثقافية تُركز على الثقافات المحلية ونشرها في المُجتمع لكي يحصل التمازُج الثقافي ما بين الثقافات المُتعددة داخل المُجتمع الموصلي لترميم الفجوات التي ظهرت في مرحلة تحرير المدينة.

ب) تبني مفهوم الحكُم الرشيد في مؤسسات مُحافظة نينوى عبر إِدارة الشؤون العامة بطريقة مُحددة تتصف بالرشادة. ويُشير التعريف إِلى عناصر ومعايير مُحددة للحكُم الرشيد، ومِنها:

  • سيادة القانون: أَي أَنَّ يكون القانون مرجعية الجميع، سائد ومُطبق على جميع المواطنين دون استثناء.
  • الاستِجابة لمطالب المواطنين: أَي أَنَّ تكون أَولويات وهموم المواطنين مسموعة وتصل إِلى المسؤولين في مواقع أتخاذ القرار. وأَنَّ يعمل المسؤولون على الاستِجابة لهذه الأولويات خِلال وقت زمني مُلائم.
  • المساواة: هذا المعيار يعتمد أساس الإِنصاف والمساواة في توزيع موارد الحكومة للمواطنين دون استثناء، أو اعتبارات شخصية، وأَنَّ تكون الحكومة عادِلة ومُنصِفة حين الإِيفاء بالتزاماتها.
  • المصلحة العامة: أَي تفضيل مصلحة المواطنين والمُجتمع على المصلحة الشخصية لبعض الأَفراد، مِن خِلال إِجراءات واضِحة ومُحددة يعتمدها كُل من يعمل في الحكومة.
  • المُشاركة: أي ضمان حق جميع المواطنين بإِبداء الرأي، والمُشاركة في صنع القرار، سِواء كان مُباشرة أو عبر مُمثلين مُنتخبين. وتتطلب المُشاركة ضمان للحُرية السياسية، والانتخابية، والتعبير.
  • اللامركزية : إِنَّ مفهوم اللامركزية يعني عدم وجود صلاحيات مُطلقة بيد أي شخص أو هيئة، بل توزيع الصلاحيات والقدرة على أتخاذ وتنفيذ القرارات بين السلطات. أَي أَنَّ تكون السلطات الأساسية الثلاث )التشريعية، التنفيذية، والقضائية) مُنفصِلة في مُمارسة مسؤولياتها، وواجباتها.

وتُشكلّ قيم النزاهة ونظُم المُساءلة والمُحاسبة، ومبادئ الشفافية أساس تحقيق الحكُم الرشيد في نينوى وكالاتي:

  • النزاهة؛ هي مجموعة القيم المُتعلقة بالصدق والأمانة والإِخلاص في سلوك العاملين في العمل، وفي العلاقة مع الآخرين. أي مُعاملة الجميع بعدالة ودون تمييز، أو انحياز، وان يتصرف بمهنية وموضوعية في إِدارة الشأن العام المسؤول عنه.
  • المُساءلة؛ أَي أَنَّ مِن المُفترض على كُل موظف رسمي في هيئة حكومية أو مؤسسة عامة أن يجيب بِكُل وضوح عن كيفية التصرف، واستخدام الموارد والصلاحيات التي وضعت تحت تصرفه، وقراراته وسياساته، وأن يكون مُستعداً لتحمُل المسؤولية المُترتبة عن هذه القرارات ونتائج سياساته.
  • الشفافية؛ أَي وضوح العلاقة ما بين السلطة والجمهور، والإِفصاح عن السياسات العامة المُتبعة بجميع أنواعها، كالإِدارية، والمالية وسياسات التوظيف، والوضوح في عمليات أتخاذ وتنفيذ القرارات.
  1. الآلية الاستراتيجية الاقتصادية

   للتعايُش السلمي مُستلزمات تتعدى منظومتها القيمية والسُبل المنهجية التي تسلكها، لتتركز على توفير سُبل العيش، فمن دونها فإننا سنكون أمام مُجتمعات الفقر، والتي تتسم بتفشي العنُف فيها عصابات الجريمة المُنظمة، فضلاً عن إمكانية تسلُل أفكار الكراهية إِليها بسهولة. لهذا فان توفير وِعاء للعيش قادر على تلبية حاجات الفرد اليومية يمر عبر بوابة الاقتصاد مِن توفير فرص عمل واستثمار للموارد البشرية والمادية، علاوة على الأمن الغذائي والضمان الاجتماعي.

تتسم مُعظم المُجتمعات العربية بأنها مُجتمعات ريعية وهذا الريع مُتأتي مِن النفط والغاز كمورد أساسي لها. وهذا التوصيف ينطبق على المُجتمع الموصلي. إذ يُشكل الريع النفطي المورد الأساسي وجل اعتماد الدولة والإدارة المحلية يقع في الجزء الأكبر مِنه على ذلك. لذلك فثمة أزمات تدور في تلك المُجتمعات على الريع والسيطرة عليه واحتكار أَمواله وموارده ولأن الدولة لدينا هي المالك الأساسي لهذا الريع فهي تقوم بتوزيع ذلك الريع على شكل هبات ومنح وامتيازات وتُمارس عبرها التسلُط وتبث ما تشاء مِن خِطاب الكراهية وانتقاص مِن المُخالفين لتوجهات القائمين على سدة الحكُم. لذا فان مُجتمعات الريع تعيش على تراتُبية تعايُش ظاهري قائم على تِلك المنح والهِبات ويرتهن التعايُش بوجود تِلك الهِبات. لذا فان التعايُش سيبدو فيها بأوهن أحواله وعندئذ سيتصاعد خطاب الانتقام وتبدأ سموم الكراهية تنفث مِن أَصحاب النفوذ والانتهازية .

وتتميز مُحافظة نينوى بمواردها الطبيعية، يُضاف إليها قدراتها البشرية التي تتسم بتنوع أنشطتها الاقتصادية والتجارية، وهذا يؤهلها لأن توفر مُستلزم التعايُش بوجهه الاقتصادي، بيد أنَّ انخفاض ذلك النشاط الاقتصادي، فضلاً عن تزايد اعتمادها على الريع الذي توفره الحكومة المركزية، جعل مِن عملية توزيع الريع مثار تنافُس وتناحُر بين أطراف كثيرة، مِن هُنا فان تعزيز أُفق الاستثمار واقتصاد السوق يعد وسيلة مُهِمة لزيادة اعتماد الفرد– المواطن على ذاته ويُقلل مِن اعتماديته على ريع الدولة الذي يكون خاضع لطبيعة ومزاج القائمين على سدة الحكُم .كما تعد البطالة آفة تأكل التعايُش السلمي وجيوش العاطلين عن العمل والمشحونين بدعاوى الانتقام مِن الوضع الاقتصادي، تُشكل البيئة التي تنمو فيها خِطابات الكراهية والرفض بِما يشكلهُ مِن قلب لموازين القوى، حتى وأنَّ كانت على حِساب كيان التعايُش وهو ما يُجسد إِرهاقاً مُتزايداً لأي خِطاب يبني آماله على استِمرار التعايُش، وحالةٌ كهذه استُفحِلت في الموصل وكان الثغرة التي تسلل مِنها خِطاب داعش إِلى قلوب العاطلين عن العمل وبنى لهُم وعوده الزائفة بضمان الجنة، وتم عبرها دق اسفين في نعش التعايُش في الموصل، لذلك فأَنَّ التحذير الأساسي يصدر اليوم مِن إمكانية إِعادة تجربة جيوش العاطلين عن العمل إِن لم يتم إِيجاد قنوات لتصريف طاقاتهم عبر عالم الأعمال والفرص والسوق أو فرص العمل التي توفرها الدولة عبر دمجهُم بمؤسساتها المُختلِفة.

مِما سبق يبدو؛ إِنَّ الموصل انتقلت مِن أَهم محنة مرت عليها عبر تخلصها مِن احتلال داعش، بيد أَنها اكتشفت أَنَّ ثمة جروح ندبت على جسدها مِن دمار للبُنى التحتية والمادية والبشرية علاوة على ضنك العيش وانعكاسات ذلك على جميع مناحي الحياة. وحاجتها اليوم قبل أَي شيء هي ترميم الذات عبر توفير فرص العمل وزيادة حجم الاستثمار وربط مناطق المُحافظة بالطرق والجسور التي فجرها داعش، والتي كانت مِن نتائجها تقطيع أوصال المُحافظة بانقطاع وسائل التنقل بين مناطقها، إِذ أَنَّ واحِدة مِن أَبرز المُستلزمات التي وفرتها مُجتمعات التعايُش هو وجود شبكة كبيرة مِن الطرق والجسور وسكك الحديد التي عززت وسائل التواصل بين أَبناء مناطق تِلك المُجتمعات، فضلاً عن أَنها كانت وسيلة مُهِمة للحِوار والتعارُف.

  1. الآلية الاستراتيجية الأَمنية

لا شك في القول؛ “إِنَّ بِناء الأَمن الوطني العِراقي وتوظيف استراتيجية حقيقية له، أَضحت رديفاً لِبناء الدولة العِراقية وبِناء السلام، لاسيما بعد بروز تهديدات إِقليمية كُبرى مِنها؛ عربية ومِنها تُركية ومِنها إِيرانية للتدخُل في الشأن العراقي على الرغم مِن محاولة بعضهُم تخفيف حدتها أو تجميل نواياها، ومثلها عربية، الأمر الذي يجعل العِراق مطمعاً للحِسابات الإِقليمية لا ساحة لتصفيتها كما يحدثُ اليوم”. وتجاوزاً لازمةٍ كهذه بدت الحاجة ماسةً ومُلِحةً إِلى إِصلاح الأَجهزة العسكرية والأَمنية، والانتقال بها إِلى استراتيجيات عمل تتناسب والمرحلة المُقبلة “مرحلة ما بعد تنظيم داعش” عبر:

  • تطوير العقيدة العسكرية العِراقية وتعزيزها لدى أفراد المؤسسة العسكرية العِراقية، وإِبعادها عن الصِراعات السياسية، وترسيخ الوحدة والهوية الوطنية العراقية في تكوينها، التزاماً بنص(المادة9/ أولاً: أ، ب مِن الدستور العراقي2005): “أـ تتكون القوات المُسلحة العِراقية والأَجهزة الأَمنية مِن مكونات الشعب العِراقي، بِما يُراعي توازنها وتماثلُها دون تمييز أو إقصاء، وتخضع لقيادة السلطة المدنية وتدافع عن العِراق ولا تكون أَداةً لقمع الشعب العِراقي ولا تتدخل في الشؤون السياسية ولا دور لها في تداول السلطة”. ب. يُحظر تكوين ميليشيات عسكرية خارج إِطار القوات المُسلحة”. كما يجب العمل على توظيف تلك العقيدة بنسق أداء قتالي وطني خالص موحد قادر على حفظ النِظام وفرض هيبة القانون وإِدراك المُهددات الحالية والمتوقع مِنها مُستقبلاً، وعِبر ذلك يتم التخطيط للمُستقبل على أَنَّ لا يكون العِراق ساحةً للمعركة، وعنصراً هشاً في الاستقرار الإِقليمي.
  • المُشاركة العِراقية الفاعِلة في الأمن الإِقليمي والدولي الجماعي وبلورة مُدرك استراتيجي عراقي يأخذ على عاتقه واجب تحديد ما ينبغي أنَّ يكون عليه العِراق أَهدافاً ومصالحاً حالاً ومُستقبلاً في ظل صياغة العقيدةُ العراقية أَعلاه”.
  • التركيز على وحدة القيادة والقرار في عمل الأَجهزة العسكرية والأمنية، وتكامُلها في أَدوارِها.
  • تقليل عدد أَفراد القوات المُسلحة العراقية، والتركيز على رفع كفاءتها تدريباً وتجهيزاً، لتكون مُنسجِمةً ومُتطلبات المرحلة الراهِنة وتجنُب الإنفاق العسكري غير المُبرر.
  • تهيئة الظروف المُلائمة لحصر عمل المؤَسسة العسكرية بحماية الأمن الوطني للعراق، ومنع تواجدها في المراكز السكانية داخل المُدن بهدف تقليل عسكرة المُجتمع العراقي في مرحلة ما بعد داعش. مِما يتطلب تهيئة مُتطلبات تولي أجهزة وزارة الداخلية والأجهزة ذات العلاقة إِدارة الملف الأَمني داخل المدن والعمل على حصر السِلاح بيد الدولة ومنع أَي مظاهر مُسلحة خارج إِطارها.
  • تفعيل قانون العقوبات العسكرية بغية تعزيز روح الانضباط وتحمل المسؤولية، وتجنب ارتكاب الأَخطاء.
  • اعتماد النزاهة والمهنية والاستقلالية في تولي المناصب داخل صفوف القوات المُسلحة.
  • توعية أَفراد المنظومة العسكرية والأَمنية بثقافة حقوق الإِنسان والديمقراطية ومُحاسبة من ينتهك معاييرها، بغض النظر عن المُسببات.
  • تنظيم الوضع القانوني للحشد الشعبي وبقية الفصائل المُسلحة، لتكون جزءً مِن المنظومة الأَمنية للدولة.

مِما سبق يبدو؛ إن عملية بناء السلام في مدينة الموصل تحتاج عدة مُدخلات اساسية، وهذه المُدخلات تحتاج إِلى آلية مُعينة، كأن تكون لجنة، أَو خلية أزمة، أو أية آلية أُخرى مُقارِبة، وتكون لها وظائف مُحددة مِنها على سبيل المِثال تجميع الموارد وإِسداء النصُح واقتراح استراتيجيات مُتكامِلة لبناء السلام والانتعاش بعد داعش، وبلورة تعاون مُكثف بين الأطراف السياسية والأمنية والإنسانية والتنموية. وإِن هذه الآلية ينبغي أن تُسلم بأن التنمية والسلام والأمن وحقوق الإِنسان أموراً مُترابطة يُعزز كُـل مِنـها الآخر، وان هُناك دائماً حاجة إلى اتباع نهج مُنسق ومُتسق ومُتكامل لبِناء الـسلام والمُـصالحة في مرحلة ما بعد انتهاء داعش بهدف تحقيق السلام المُستدام. وانها ربما تحتاج إلى استِحداث مؤســسة أو جِهاز مُكرس لتلبيــة الاحتياجــات الخاصــة عبر عملها مع المؤسسات الاخرى ذات الصلة واصحاب المصلحة يكون هدفها الأساس الخروج بِمُجتمع مُتعافى تماماً مِن مُخلفات داعش الفكرية والسلوكية. وان المسؤوليات والمهام المنوطة لهذه الالية (لجنة أو خلة أزمة) هو تعزيز التنسيق فيما بين المؤسسات الاخرى، وعلى رأسها الحكومــات المحلية بِكُل مستوياتها، حيثمـا وجـدت، ومُساهمة فاعِلة للمُجتمع المدني والمُنظمـات غـير الحكوميـة، بِمـا فيهـا المُنظمـات النسائية، في جهود بِناء السلام، والتأكيــد هُنا على أَهميــة دور المــرأة في بِنــاء السلام، وأَهميـة مـُشاركتها علـى قـِدم المـساواة في جميـع الجهـود المُتعلِقـة بـصون السلام والأمـن وتعزيزهمـا وانخراطهـا التـام في ذلـك، وايضاً ضـرورة زيـادة دور المـرأة في اتخـاذ القرارات المُتعلقة بمنع الصِراعات وتسويتها وبِناء السلام.