مقارنة الأولويات الاستراتيجية لِكُلٍ من تنظيمي “داعش” و”القاعدة”

      التعليقات على مقارنة الأولويات الاستراتيجية لِكُلٍ من تنظيمي “داعش” و”القاعدة” مغلقة

 

الباحث: م. حسين باسم عبد الامير

قسم الدراسات السياسية/ مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء

آيار/ 2019

أهداف “داعش” الكبرى

سعت التنظيمات السلفية الجهادية الى محو الحدود القومية وتفكيك النظام السياسي الإقليمي الحالي من اجل انشاء مجتمع وكيان سياسي اسلامي في قلب الشرق الأوسط وإعادة تشكيل المشهد الاستراتيجي فيه.

لقد اعتمدت الاستراتيجية الكبرى لتنظيم “داعش” أساسا على العمل العسكري من اجل انتزاع السيطرة على الأراضي والمدن من الدول الحديثة، ومن ثم إقامة الخلافة عليها. وبهذا تميّز تنظيم “داعش” بتهديده لنظام الدولة الحديثة –أي الدولة القومية- على الصعيد الميداني الذي ترجمه عبر تمكُنه من إقامة كيان وهيكل سياسي على مناطق جغرافية في سوريا والعراق. إذ تمكن ذلك التنظيم الإرهابي سابقا من السيطرة على منطقة معينة أمتدّت فيما بين كِلا البلدين، كما وامتلك جيش تقليدي، وحاول حماية وتمديد كيانه. والى أن تمت هزيمة تنظيم “داعش” في كانون الاول/2017، إلا انه حافظ حتى اللحظات الأخيرة له على هذا الطابع. غير أن “القوات الأمنية العراقية المُشتركة” عزمت على تبديد أهداف وأحلام “داعش” وتمكنت من احتلال موضع الصدراة بين الأطراف المحلية والإقليمية والدولية التي تكفلت حماية وجود الدولة الحديثة في منطقة الشرق الأوسط.

الأولويات الاستراتيجية لتنظيم “داعش” بالمقارنة مع تنظيم “القاعدة”:

توجد مجموعة من التناقضات وعلى كلا المستويين الفكري والعملي بين التنظيمات السلفية الجهادية. فمن حيث الهدف النهائي، يشتركون كافة، كما تقدم، بالسعي الى إزالة نظام الدولة الحديثة وبناء مجتمع وهيكل سياسي جديد عابر للحدود القومية ومحكوم بنظام ديني على أساس الخلافة التاريخية. إلّا إن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” يختلف مع باقي الحركات والتنظيمات السلفية الجهادية ولاسيما “القاعدة” في تحديد الأولويات والاستراتيجيات التي يعتمدها من اجل تحقيق هدفهم المُشترك.

فعلى سبيل المثال انتاب تنظيم القاعدة رغبة كبيرة في انشاء نموذج ديني على أنقاض الدولة الحديثة، غير انها ظلت منظمة إرهابية متفرقة على نحو كبير. فلم تتمكن القاعدة من التحكم وبشكل مستمر بمنطقة ما. فقد كانت باستمرار حركة من دون مكان. وذلك خلافا لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وبالتالي فإن الرؤية السياسية لـ”داعش” تستند الى فرض الخلافة الاسلامية بالقوة والاعتماد على النجاح العسكري في اخر المطاف. وهذه المنهجية تُميز تنظيم “داعش” عن تنظيم القاعدة والتنظيمات الجهادية السلفية الأخرى التي تؤمن بأن “الإمارات” الدينية والقبول الاجتماعي يجب أن يسبق الخلافة.

وهكذا تتجلى أهم التناقضات في أولويات واستراتيجيات كل من الدولة الإسلامية وباقي التنظيمات السلفية الجهادية الاخرى وابرزها القاعدة حول إقامة الخلافة وإزالة نظام الدولة الحديثة بالتالي:

  • وضعت التنظيمات السلفية الجهادية (التكفيرية) وعلى رأسها القاعدة الأولوية في نشاطاتها العالمية ضد الغرب “العدو البعيد”. لذلك لم تعمل على اشعال الجهاد في سوريا والعمل على تحرير فلسطين وقتال اتباع المذهب الشيعي بالرغم من كونها قضايا مهمة لهم، غير انها ستعرقلهم عن الهدف الأكثر مباشرة وهو قتال “العدو البعيد“.(1)

وبالرغم من تكفير القاعدة للمذاهب الإسلامية غير السنية كالشيعة مثلا، واعتبارها إياهم ليس أكثر من مذاهب ضالة ومنحرفة، وبالرغم من ان التنظيم يؤمن بأن المواجهة معهم هو أمر حتمي، إلا أن القاعدة عملت على تأجيل هذه المواجهة لئلا تنصرف عن مواجهة العدو البعيد. (2)

بيد أن تنظيم “داعش” جعل من “العدو قريبا“، فقد قرر التنظيم بان الشيعةوباقي الأقليات– فضلا عن العديد من الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط بأنهم العدو الرئيس، وبذلك يكون قد عمّق الصراع الطائفي في العراق وسوريا.

  • ان تركيز التنظيمات السلفية الجهادية وعلى رأسها القاعدة على شن الجهاد العالمي ومهاجمة أهداف غربية كان يعني أنها لم تشعر بالاهتمام الفوري بالتعرض لوجود نظام الدولة الحديثة -أي الدولة القومية- واستبدالها بإقامة دولة الخلافة. بل ان تنظيم القاعدة اعتمد منهجية تطورية لبلوغ هدفه النهائي ممثلا بإقامة “الخلافة” على أنقاض الدولة الحديثة. (3)

منذ عقود، أنشأ تنظيم القاعدة فروع صغيرة ومتناثرة سعت الى تشكيل كيانات إقليمية صغيرة تعرف “بالإمارات” كتلك التي تواجدت في افغانستان. وفي هذا الصدد، فقد تفتّقت أنّوية الإمارات الإسلامية منذ ربيع العام ١٩٩٤ من قندهار أفغانستان، وامتدت في العقد الأول من الألفية الثالثة الى محافظات الانبار وديالى في العراق، والرقّة في سوريا، وغروزني في الشيشان، وقبائل في الجزائر، إذ استعادت هذه المناطق “نظام الإمارات” التي تشكلت في التاريخ الإسلامي داخل الخلافة العباسية، ومثلت انشقاقات داخلية في عملية بعثرة لكيان الدولة القومية وكتعبير احتجاجي على تكوينها وأيضا كتهديد لمصيرها. وأن هذه الإمارات وظفت مفهوم “التمرد على الدول القومية” من اجل إعادة تشكيل الأمة الإسلامية على قاعدة الخلافة.(4) وكان ينظر اليها على انها مرحلية وسوف تؤدي الى انشاء الخلافة في نهاية المطاف. وهكذا فقد اعتمدت القاعدة على منهجية تطورية لبلوغ الخلافة.

بينما تمرّدَ تنظيم “داعش” على منهج تنظيم “القاعدة” الرامي الى مواصلة التغيير تدريجيا. إذ أن استراتيجية “داعش” الكبرى تقوم أساسا على العمل العسكري  – كما اسلفنا – من اجل انتزاع السيطرة على الأراضي والمدن من الدول الحديثة، ومن ثم إقامة الخلافة. عندئذ يتضح بان ” داعش ” يتبنى منهجية فورية وليست تطورية في سبيل إقامة خلافته، هدف الجهاديين النهائي.

  • سعت القاعدة الى تشكيل وبناء رابطة بين جموع المسلمين ومشروعها الجهادي. فقد نظرت القاعدة الى الشعوب الإسلامية بأنها جاهلة بطبيعة الحال فيما يتعلق بالدين وغير مستعدة لقبول الشريعة الإسلامية من دون التوجيه الديني والقبول الاجتماعي لمفاهيم القاعدة الجهادية. وهكذا أفترضت القاعدة بأن التعاليم الدينية والقبول الاجتماعي يجب أن يسبق السيطرة المادية، ونتيجة لذلك أجّل تنظيم القاعدة مسألة التحدي الفوري للحدود القومية فيما بين بلدان المسلمين واستبدالها بدولة الخلافة لحين تحقق هذا الشرط وحصولها على التأييد المجتمعي.

فمثلا، عندما أصبح “أبو مصعب الزرقاوي” زعيما لتنظيم القاعدة في العراق بعد اجتياح التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة والاطاحة بصدام حسين في العام 2003، سعى الزرقاوي في العام 2004 الى إقامة الخلافة بما يشكل خطوة مهمة في تحدي نظام الدولة القومية في المنطقة من قبل تنظيم القاعدة.(5) وهذا ما دفع بقيادة القاعدة الى توضيح ان الوقت ليس مناسبا، إذ ان المسلمين ليسوا مستعدين لذلك بعد. فقد جادل “الظواهري” بانه لو ثبت بأن القاعدة في جزيرة العرب غير قادرة على توفير الأمن والخدمات الكافية وأداء وظيفة الدولة، فان هذا الفشل سوف يعيق تطبيق الحكم الإسلامي، ومن ثم سوف يؤدي هذا الإخفاق الى تقويض المؤسسة الجهادية. وهكذا فان تنظيم القاعدة –من وجهة نظره الخاصة- يعتقد بان المجتمع المسلم يجب ان يكون مُستعدا بشكل صحيح من خلال الدعوة والإرشاد قبل فرض الشريعة وإقامة الخلافة.(6)

وخلافا للقاعدة -التي رأت أن الظروف لم تكن مهيأة للحكم وفق الشريعة أو إقامة الخلافة بعد- أعرب تنظيم “داعش” عن الشعور بالحاجة الى كليهما وبإلحاح. ولم يكترث “داعش” كثيرا بالتأييد الشعبي ولديه القليل من التسامح إزاء الاعتراض عندما يتعلق الأمر بعقيدته. فتنظيم “داعش” يؤمن بأن إقامة الخلافة وإزالة الحدود القومية يجب أن تجري فورا. كما ان اتهم قياديوا “داعش” تنظيم القاعدة بـ “السعي خلف إرادة العامة” وبذلك يتم تقويض سلطة الله لأنهم –أي القاعدة- يجبرون الحركة الجهادية بالخضوع لرؤية القاعدة الجماهيرية بدلا من القواعد الإلهية –تبعا لمنهجهم الفكري- وبهذا إتّهم قياديوا “داعش” القاعدة بأنها تسعى للركون إلى الإرادة الشعبية، بدلا من الالتزام بشريعة الله.

  • وبالرغم من تكفير القاعدة للمذاهب الإسلامية غير السنية كالشيعة مثلا، واعتبارها إياهم مذاهب ضالة ومنحرفة، وبالرغم من ان القاعدة تؤمن بأن المواجهة معهم هو أمر حتمي، إلا أن تنظيم القاعدة عمل على تأجيل هذه المواجهة لئلا تنصرف عن مواجهة العدو البعيد ولئلا ينفر المسلمين جراء عملياتها القائمة على العنف والتطرف.

إذ يبدو بأن تنظيم القاعدة كان مهتم بعدم تنفير المسلمين من الفروع الجهادية للقاعدة التي استخدمت العنف المفرط من دون تقشف. حتى انه وفي بعض الحالات دعا إلى شكل من أشكال الانفراج مع المجتمعات غير المسلمة أو السُنية، بما في ذلك الشيعة والمسيحيين.(7) فبالرغم من رؤية تنظيم القاعدة للشيعة بأنهم مرتدين ضالين، الا ان الظواهري يقول “يجب على تنظيم القاعدة في المرحلة الحالية القيام بوعظهم (كما يجب ذلك تجاه المذاهب المنحرفة الأخرى) بدلا من قتلهم، إلا إذا بادروا بالقتال أولا.” (8)

وبشكل قاطع رفض تنظيم “داعش” منهج تنظيم القاعدة الرامي الى عدم تنفير المسلمين عبر استخدام العنف بشكل انتقائي، وبدلا عن ذلك تبنى عناصر “داعش” منهج العنف المتفشي في سبيل تقويض نظام الدولة الحديثة. فقد قاموا بعرض الكثير عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعية كالإنترنت من الصور ومقاطع الفيديو التي تتضمن مشاهد حرق الناس أحياء وقطع الرؤوس والإعدام الجماعي للسجناء وممارسة عقوبات أخرى مثل الجلد علنا. وعلاوة على ذلك، فقد وصف كل من يعارض مذهبه ومنهجه بأنه كافر. هذا التعريف الواسع للتكفير سمح لداعش في تبرير توسيع رقعة قتل المدنيين والمعارضين.

ومن ثم، فإن التناقضات آنفة الذكر وعلى كلا المستويين الفكري والعملي بين تنظيميّ “داعش” و”القاعدة” الإرهابيين تُمثل أهم وأبرز الأولويات الاستراتيجية المتناقضة بين كُبريات التنظيمات السلفية الجهادية.

الهوامش:

(1)- Jon B. Alterman. “Religious Radicalism after the Arab Uprisings”, Center for Strategic and International Studies, 2015. p16.

 

(2)- Ayman Al-Zawahiri. “General Guidelines for Jihad,” As-Sahab Media, 2013, https://azelin.files.wordpress.com/2013/09/dr-ayman-al-e1ba93awc481hirc4ab-22gener%C2%ACal-guidelines-for-the-work-of-a-jihc481dc4ab22-en.pdf

 

(3)- Jon B. Alterman, Op cite, p17.

 

(4)- فؤاد إبراهيم. ” السلفية الجهادية في السعودية”، دار الساقي، الطبعة الأولى، 2009. ص18.

 

(5)- لزيادة التفاصيل حول مساعي الزرقاوي في إقامة الخلافة عبر تأسيس “مجلس شورى المجاهدين” بأعتبارها الجبهة الأساسية لقيادة الجهاد في “الدولة الإسلامية في العراق” أنظر “فيشمان”:

Brian Fishman. “Re¬defining the Islamic State: The Fall and Rise of Al-Qaeda in Iraq,” New America Foundation National Security Studies Program Policy Paper, August 2011, http://goo.gl/BWjaHk  .

 

(6)- Ayman Al-Zawahiri. “General Guidelines for Jihad,” As-Sahab Media, 2013, http://goo.gl/IjGCzr

 

(7)- Andrew Wander. “How Suicide Bombings Shattered Iraq,” Al Jazeera, October 24,2010,https://www.aljazeera.com/secretiraqfiles/2010/10/20101022161025428625.html;“Mastermind of Iraq Yazidi Attack Killed: U.S. Military,” Reuters, September 9, 2007, http://goo.gl/jFyJsG .

 

(8)- Ayman Al-Zawahiri. Op cite.