الاخفاق والتخبط الحكومي يثير تذمراً واسعاً في العراق

      التعليقات على الاخفاق والتخبط الحكومي يثير تذمراً واسعاً في العراق مغلقة

 

الدكتور حيدر فوزي الغزي

باحث في قسم الدراسات القانونية

مركز الدراسات الاستراتيجية/ بجامعة كربلاء

تشرين الثاني-نوفمبر 2019

هزت العراق أيام من الاحتجاجات بدأت من (1-10-2019) وتجددت يوم (25-10-2019)، حيث تظاهر الآلاف من الشباب في أجزاء مختلفة من البلاد ضد الفساد والبطالة وضعف الخدمات العامة، وردت قوات الأمن باستخدام خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وقتل العشرات من المحتجين وجرح الآلاف، فالمظاهرات التي كانت بلا قيادة هي التحدي الأكبر الذي يواجه حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.

ويجرنا الحديث في هذا المقال الى ان هناك فرق بين مطالب المتظاهرين وبين الحاجات الفعلية التي لم يدركوها، والتي كانت سبباً فعلياً في تظاهرهم، لذا ينبغي التفريق هنا بين تقصير الحكومات المركزية والحكومات المحلية لان لكل منهم صلاحيات واسعة.

اولاً: تقصير الحكومة المركزية:

التقصير الحكومي واضح بدءً من الحكومة المركزية الى الحكومات المحلية، فكلتا الحكومتين لم تأخذ دورها منذ انتخابهم في عام (2005) وليومنا هذا، ولعل من الانصاف ان لا نتهم الحكومات المركزية التي خاضت صراع مرير مع التنظيمات الارهابية من بداية تغيير النظام السياسي الى نهاية عام (2017) بالتقصير الكلي، كونها كانت منشغلة وتدور رحاها في فلك الملف الامني الذي كان يفرض عليها اعطاء الاولوية للاستقرار والحفاظ على ارواح المواطنين، متحدية بذلك السيناريوهات الامريكية في دعم الارهاب ودول الجوار السيء ودول الخليج التي عاثت بارض العراق فساداً وقتلا وتمثيلاً بأبنائه، ولم يقف مع العراقيين في هذه المحنه غير اعتمادهم على قدراتهم الذاتية والتضحية بأنفسهم من اجل نيل الاستقرار، على اعتبار ان العراق بلد تعرّض للاحتلال من عام (2003) الى بداية عام (2012)، ولم يكن القرار السياسي بيد الحكومة وان كانت منتخبة، لان الاحتلال لا يمكن ان يترك الدولة المحتلة تعمل باستقلال ووفق رؤيتها والا لما سميت محتلة، اما بعد ان نال العراق استقلاله بانسحاب القوات الامريكية رسمياً وانتهاء عهد تنظيم القاعدة نهاية عام (2011)، فلقد بدأ معه مسلسل المظاهرات وظهور الجماعات المتطرفة داعش ومثيلاتها والذي جرّ البلد الى معترك داخلي ثان، لم ينته الا بنهاية عام (2017) وتحرير محافظات الموصل والانبار وصلاح الدين، اما اهم مؤشرات التقصير في الحكومة الاتحادية فهو:

1-فرض الضرائب العالية والغير مبررة والرسوم على الاملاك الخاصة والعقارات والمنافذ الحدودية والاستيراد وقانون المرور الجديد دون ان يكون هناك انصاف ومراعاة للمستوى المعيشي للمواطن، وكأن الحكومة واقطابها تعيش في عالم (وذلك فعلاً) ومواطنيها في عالم آخر.

2-ارتفاع اسعار الفائدة بالنسبة للقروض من المصارف الحكومية علاوة عن المصارف الاهلية التي تصل الى (9%) سنوية اي ما يعادل (25%) عن قيمة القرض الكلية، والذي حدد حركة القطاع الخاص وحرم فئات وشرائح كبيرة من الاستفادة منها في تحسين ظروف العمل وايجاد فرص عمل للشباب العاطلين.

3-فرض تصليح السيارات المتضررة خارج العراق والمستوردة عبر الاردن والامارات مما حرم شرائح الفنيين والحرفيين من فرص العمل، وتسبب ذلك في هدر العملة الصعبة وخروجها الى خارج الحدود.

4-التراخي وغض الطرف عن وضع اقليم حكومة كردستان العراق واستنزافها لثروات العراق، وتصديرها للنفط الخام من حقول الاقليم وبدون رقابه على صادراته، والذي يقابله التخصيصات الكبيرة للإقليم من الموازنة الاتحادية العامة للدولة العراقية من رواتب الموظفين والبيشمركة دون مراعاة للمناطق المحرومة في وسط وجنوب العراق، علماً ان ثروة العراق تتركز في محافظات البصرة وميسان وذي قار وواسط،

وهناك اخبار عن عزم القوات الكردية استغلال هذه المظاهرات وتحشيد قواتها لإعادة سيطرتها على المناطق المتنازع عليها خصوصاً في كركوك، مع انشغال الحكومة الاتحادية بمشاكل المظاهرات.

ثانياً: تقصير الحكومات المحلية:

اعتقد ان اللوم والتقصير يقع على الحكومات المحلية بنسبة (90%) لما تملكه من الصلاحيات الواسعة، والتي لم تأخذ دورها كحكومات منتخبة خصوصاً في المحافظات التي تشهد اليوم تظاهرات عارمة اي محافظات الوسط والجنوب، والتي لطالما كانت مستقرة امنياً ولو بنسبة كبيرة، لان التنظيمات الارهابية لم تتمكن من العمل في هذه المحافظات لعدم وجود حاضنات ومأوى بسبب الاختلاف الفكري بين العقيدة السائدة في هذه المحافظات والفكر الارهابي المتطرف، لذلك كان على الحكومات المحلية العمل بطريقة التخطيط الاستراتيجي وقراءة المستقبل لمعرفة ما تحتاجه للمرحلة المقبلة بدلاً من السقوط في الهاوية بفعل الجهل في الاداء الحكومي والخدمي، ولعل ابرز الملفات التي تشير الى فشل الحكومات المحلية وعجزها عن العمل فيها هي:

1-ملف الاراضي والاسكان:

فشلت الحكومات المحلية في محافظات وسط وجنوب العراق من تفعيل ملف الاسكان وبناء المجمعات السكنية او حتى توزيع قطع الاراضي على المواطنين الذين لا يملكون سكناً مريحاً، لا بل ذهبت في كثير من الاحيان الى محاربة المواطنين الذين يسكنون في العشوائيات ومناطق المتجاوزين، متناسية بذلك دورها وواجبها تجاه مواطنيها في حل مشاكلهم واحتوائهم خصوصاً بعد مرور (16) عاماً على تغيير النظام السياسي، علماً ان عمر الحكومات المحلية هو اطول من الحكومات الاتحادية، على اعتبار انها تشكلت مباشرة بعد سقوط النظام السياسي عام (2003) وقبل الانتخابات المحلية.

2-فشل الحكومات المحلية في توفير فرص العمل:

بسبب من محاولة الفوز في الانتخابات، ذهب المرشحون في كل دورة انتخابية محلية في المحافظات وبضمنهم العاصمة بغداد الى استدراج المواطنين والشباب للاغراض الانتخابية وتوظيف الغالبية منهم في مؤسسات الدولة، دون الاهتمام بتدريبهم وصقل مواهبهم وتوجيههم حسب مؤهلاتهم، لا بل بدا عامل الاستثناء من الضوابط حاضراً في توظيف المواطنين الموالين للاحزاب والكتل السياسية، وترك الآخرين المستقلين منهم لينالوا مصيرهم ويلقوا حتفهم في براثن البطالة والاهمال الحكومي، لذا فقد فشلت الحكومات المحلية في زج القدرات البشرية في معامل منتجة حتى وان كانت غير رابحة، فشلت في استثمار الطاقات البشرية في استصلاح آلاف الهكتارات للاغراض الزراعية وتنمية ثروة البلد، وفشلت في تشغيل المعامل الموجودة اصلا والتي عطّلتها ايادي الاحتلال الامريكي، بل ووضعت حظراً على بعضها بعدم تشغيلها.

التغيير الحكومي في القيادات الامنية:

يبدو تخبط الحكومة العراقية واضحاً من خلال اجراء التغييرات في القيادات الامنية في المحافظات، وهو محاولة لسحب التوتر النفسي الذي يعيشه المتظاهرين تجاه القيادات الامنية من جهة، والاتهامات التي وجهت اليهم في توجيه العصا نحو المتظاهرين من جهة اخرى، ولا تخلو ايدي المتظاهرين من اصابع الاتهام بسبب التعرّض لأفراد القوات المسلحة وقوات مكافحة الشغب واستخدام الحجارة وزجاجات البنزين وحرق اطارات السيارات تجاه القوات الامنية.

فقد اجرت الحكومة العراقية تغييرات في القيادات الامنية في يوم (26-10-2019)، حيث كلفت اللواء ماجد فالح نعمه بقيادة شرطة بغداد، وكلفت اللواء حسن هاشم قائداً لشرطة واسط، وكلفت العميد عبد الوهاب السعيدي لقيادة شرطة محافظة ذي قار، وغيرها من التغييرات التي بدت واضحه كإجراءات رد الفعل وليست اجراءات مدروسة.

اطلاق الدرجات الوظيفية العاجلة:

لجأت الحكومة العراقية الى فتح باب التعيين على الوزارات العراقية كردة فعل للاحتجاجات الشعبية بصورة مفاجئة، فلم تشهد الوزارات تعيين الخريجين من حملة الشهادات العليا والاولية منذ سنوات، ولكن بعد موجة الاحتجاجات هذه فتحت الحكومة باب التوظيف وبدون استثناء بالنسبة لحملة الشهادات العليا، فلقد اصدر مجلس الوزراء قراراً يقضي بتعيين حملة الشهادات العليا استثناءً من تعليمات الموازنة المالية العامة للدولة العراقية لسنة (2019)، وكذلك تعيين خريجي الكليات الهندسية على ملاك وزارة الدفاع وبأعداد وصلت لغاية يوم (27-10-2019) الى (500) درجة، وهذا يعني بان هناك امكانية للتوظيف ولكن الحكومة العراقية لا تملك الرؤيا الحقيقية لدراسة اوضاع البلد وليست لها امكانية ادارة الملفات التي يحتاجها المواطن.

 

موقف الامم المتحدة:

اكد الامين العام للأمم المتحدة (أنطونيو غوتيريش) وقوع انتهاكات كبيرة لحقوق الانسان من قبل قوات الأمن العراقية تسببت بسقوط (42) شخصاً، ودعا الى ضبط النفس بعد ان رافقت التظاهرات اعمال عنف من المتظاهرين قوبلت بردة فعل من قبل الاجهزة الامنية المكلفة بحماية المؤسسات الحكومية.

الصمت السياسي والحكومي:

نلاحظ بان الاصوات الحكومية والسياسية قد تخافتت، فلم يجرؤ اعضاء مجلس النواب ولا الوزراء بالتصريح او الحديث عن اسباب هذا الاحتجاج الشعبي، الا بعض الاصوات الخجولة مثل كلمة رئيس مجلس الوزراء التي تحدث فيها بصورة لا تتماشى مع متطلبات الحال وكأنه بعيد عن المواطن ويبدو ان هذه هي الحقيقة،

ومن جانب آخر حمّل عضو مجلس النواب هشام السهيل الحكومة العراقية مسؤولية ما حدث من حرق لمؤسسات الدولة وسقوط الضحايا والذي اوعزه بسبب القصور الحكومي في حماية المواطنين وبسبب دخول بعض المتعطشين للدماء والذي اخرج المظاهرات عن سلميتها وبدأ يقتل ويهاجم ويحرق مؤسسات الدولة ويقتل المتظاهرين بهدف تشويه سلمية التظاهرات من جهة وتشويه صورة القوات الامنية من جهة اخرى،

وفي الحقيقة يبدو ذلك من الصعوبة حيث لم تتمكن القوات الامنية من فرز المتظاهر السلمي عن غير ذلك، وهذا ما سيتسبب بمزيد من اراقة الدماء وفقدان السيطرة عن سلمية المظاهرات.

لقد خرجت المظاهرات عن سلميتها في بعض المحافظات، فقد تسبب دخول بعض المجاميع المسلحة التابعة لجهات سياسية في محافظة ميسان وترافقها بعض العشائر مطالبة بالثأر لأبنائها الذين قتلوا يوم الجمعة (25-10-2019) والتي باتت تجوب الشوارع متحدية القوات الامنية بعد الاحداث الدامية والاشتباكات خلال تظاهرات يوم الجمعة وحرق مقرات الاحزاب السياسية باستثناء مقرات بعض الاحزاب النافذة في المحافظة، مما تطلب الاستعانة بقوات امنية ساندة من محافظة واسط.

وقد اثار مقتل مدير مكتب عصائب اهل الحق في ميسان (وسام العلياوي) وشقيقه (عصام العلياوي) موجة عنف مع المتظاهرين بعد ان تجمع المتظاهرين امام هيئة الحشد الشعبي ومطالبتهم باخلائها، وهذا يدل على ان المظاهرات قد بدأت بالانحراف عن السبب الذي خرجت من اجله، لان مطالبهم كانت الوقوف بوجه الفساد والفاسدين وليس تصفية حسابات سياسية.

تطور الموقف في العاصمة بغداد وبعض المحافظات:

بدت معالم التوتر واضحة بعد ان فرضت بعض المحافظات حظراً للتجوال نتيجة توسع اعمال العنف وحرق المؤسسات الرسمية، فلقد فرضت محافظات ذي قار وكربلاء وميسان وديالى والبصرة، حيث طالبت قيادة شرطة البصرة يوم (26-10-2019) بغلق المحال التجارية عبر مكبرات الصوت بعد اتساع دائرة العنف، وانتشرت قوات مكافحة الارهاب في بغداد لحماية المنشآت السيادية والحيوية بعد ورود معلومات استخباراتية بان هناك مجاميع تحاول حرق محطات وقود السيارات ومعامل تعبئة قناني الغاز السائل ، لشل حركة المرور واحداث فوضى وازمات تمس حياة المواطن اليومية.

ونحن نقول اذا لم تعي الحكومة العراقية خطورة الوضع الحالي وتتدارك المشكلة، فان محافظات وسط وجنوب العراق سوف تذهب باتجاه استخدام العنف كوسيلة اخيرة لتعويض الحرمان الذي تعانيه منذ سنين، وستخسر الحكومة اكبر داعم لها خلال الفترات السابقة، ولن تجد لها ناصراً يذب عنها بعد ان وقفت على قدمها بفضل تضحيات ابناء الجنوب..