ما بعد العاصفة :  توابع  التصعيد الأمريكي – الإيراني في العراق

      التعليقات على ما بعد العاصفة :  توابع  التصعيد الأمريكي – الإيراني في العراق مغلقة

أ.د. سامر مؤيد عبد اللطيف

مدير مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء

لقد كانت رسالة واشنطن الى طهران باغتيال الجنرال قاسم سليماني والحاج ابي مهدي المهندس بالقرب  من مطار بغداد الدولي فجر يوم الجمعة (3 كانون الثاني من العام 2020 ) شديدة اللهجة وعميقة الدلالة مفادها (لا تطمعوا بصمتنا وصبرنا ) . بيد أن المنازلة بين الخصمين  لم تنته عند هذه الرسالة ولا بالرد العسكري الايراني المحسوب على قاعدتي ( حرير وعين الاسد ) في العراق فجر (يوم الاربعاء  7 كانون الثاني من هذا العام)  ، بل ان حدودها في حسابات الزمان والمكان ستمتد بسعة وعمق الحسابات الاستراتيجية للطرفين ، ومن ثم لن تكون الا حلقة في شوط المواجهة الممتدة بين الطرفين .       ولما كان العراق – لسوء الحظ والتقدير – يمثل الخط الأول والساحة المثلى للمواجهة بين الطرفين بحسابات المنطق والمصالح الاستراتيجية والمؤشرات الواقعية ، فان هذه المواجهة لن تكون قصيرة الاجل ومحدودة الاثر ، باعتماد ذات الحسابات المنطقية والاستراتيجية والارتكان الى حجم المصالح والغايات التي ينشدها الطرفان في هذا البلد الجريح ؛ فما ينشده الطرف الامريكي  في هذا الوطن العريق بعد إتمام السيطرة المنفردة عليه ، يتجاوز حدود  الهيمنة على مخزون الطاقة المتوافرة فيه ولاسيما بعد اكتشاف المزيد من مستودعات الغاز الطبيعي والنفط في المنطقة الغربية ، والتحكم بعد ذلك في اسواق الطاقة وأسعارها ، كما لا يقتصر على الوصول القريب الى أهم المنافسين الاقليميين في الشرق الاوسط وحماية أهم الحلفاء فيه تتقدمهم إسرائيل ودول الخليج  ، وقطع الطريق على أهم المنافسين الدوليين في الوصول الى البحر الابيض ونقصد بهم (الصين وروسيا)  او إحكام الطوق الشمالي على أهم مناطق الطاقة وتأمينها ، وكذا إحكام الطوق الجنوبي للمنافس الاوربي حتى يبلغ الطموح الصهيواميريكي في إقامة الشرق الاوسط الجديد ضمن خطوط الهويات الفرعية والمصالح والرؤية الامريكية  .      على الجانب الايراني هناك الطموح العقائدي بإتمام الهلال الشيعي ، وتصدير الثورة الاسلامية الى دول العالم الاسلامي برمته ، والخروج من طوق العزلة الدولية وتامين العمق الاستراتيجي الايراني مع إحكام ذات الطوق على أهم مناطق الطاقة وتهديد حلفاء امريكا في المنطقة ، وفي الوقت عينه الاستقواء بالمحور الروسي- الصيني لطرد النفوذ الغربي ، دون التقرب لدائرة المصالح الايرانية في المنطقة .     إن إتساع نطاق المواجهة وتعقد شبكة المصالح المتقاطعة بين الطرفين ، تتنوع أدوات وقنوات الصراع واليات إدارته ، ومثلما يمتلك الطرف الامريكي أنصاره غير المضمونين في الحلبة السياسية العراقية  ، بعد أن انقلب عليه غالب من تبقى من القادمين معه الى حكم العراق ، وحتى هذه الاقلية المناصرة لواشنطن في المطبخ السياسي العراقي، تجد نفسها محاصرةً بقوى ضخمة ومددجةً بالسلاح والاعوان من حلفاء طهران في هذا المطبخ ، وهو الامر الذي أجادته طهران قبالة التردد الامريكي في خلق قنوات ومستويات متنوعة من الانصار المؤيدين بمباركتها ودعمها  . وبينما كانت خطى العم سام على طريق إنجاز أهدافه ، غير مستقرة ولا مستمرة ؛ وهي مشكلة جميع الادارات الامريكية في كل العهود والمناطق، كانت خطى الجانب الايراني واثقة ومدروسة بعناية وحذر باتجاه أهدافها حتى إمتلكت ناصية التأثير البالغ في الايقاع السياسي العراقي عبر منافذ شتى ، الامر الذي صعب مهمة واشنطن في استرجاع العراق الى دائرة نفوذه ، باستثناء مدخلين لايستهان بأثرهما المستقبلي ، المدخل الاول يتمثل بالتواجد العسكري الامريكي المباشر في المحاور الامنة في غرب العراق وشماله فضلاً عن الحضور القريب من مقر الحكم في بغداد ، الامر الذي ينطوي على إحتمالية إعتماد منطق القوة في فرض الارادة او التهديد بها مستقبلاً إذا ما تعرضت المصالح الامريكية للخطر أو حتى مساندة أي تحرك – رسمي او شعبي-  بإتجاه ضمان هذه المصالح ، أو إستهداف اي قيادة ترفع لواء المقاومة لواشنطن .     أما المدخل الثاني  فمجاله القوة الناعمة والجيل الرابع من أجيال الحروب وأسلحتها ، عبر التأثير في الوعي والراي العام بوسائل التواصل الاجتماعي والاعلام سبيلاً لإحراج الخصوم وتعظيم المصالح وحمايتها ، وهذا ما تحصل فعليا للإدارة الامريكية وتمكنت به محاصرة وإحراج مرتكزات النفوذ الايراني في الشأن العراقي ، مع إستثمار الاستياء الشعبي من الاداء الحكومي ، الذي سيكون خاصرةً رخوةً وذراع القوة الذي ستشده واشنطن مع كل أزمة أو تهديد تتعرض له من قبل خصمها اللدود في العراق .      وحتى مع إفتراض تمكن أدوات القمع المتاحة لحلفاء طهران في العراق في إطفاء لهيب الحراك الشعبي العراقي والالتفاف على مطالب المتظاهرين والناقمين عليها ، بدهاء السياسة ومناوراتها وتسويفها  ، ومن ثم سحب البساط الشعبي من حسابات المخطط الامريكي ، فان قدح فتيل النار مجددا في هشيم النقمة الشعبية على انصار طهران في الملعب السياسي العراقي ، سيبقى بيد الادارة الامريكية، طالما إمتلكت الاخيرة ، الوسيلة والاسباب المؤدية لتحقيق هذه الغاية ، وطالما توافر للمحتجين العراقيين متراكم لا يستهان به من اللوعة والخبرة في مواجهة السلطة .            وعند إضافة الرصيد الشعبي المتحقق لبعض قيادات الجيش العراقي والاجهزة الامنية ، ستتوافر الارضية الخصبة لتصفير اللعبة السياسية وإسترجاع عقارب الساعة الى لحظة دخول القوات الامريكية الى العراق عام 2003 ومع الاجهاز التام على النفوذ الايراني في العراق ، وهو الاسلوب الذي ينسجم مع العقل الذرائعي الامريكي في التجربة والخطأ .    بالمقابل فان قبول فرضية عدم جدوى الخيار الشعبي ، سيبقى الطريق سالكاً الى خيار الاقاليم المعلن منذ ردح طويل من قبل الادارة الامريكية وأغلب الفرقاء السياسيين في العراق ، وهو الخيار الاقل كلفة والاكثر أمانا لواشنطن والاكثر رجاحة في المستقبل ، فمن جانب ان هذا الخيار  سيفكك قوة العراق للابد ويمنع تهديده لحفاء واشنطن في المنطقة مستقبلاً ، وسيؤمن للامريكيين خيار البقاء الامن في العراق وما يتصل به من حسابات استراتيجية من بينها الطاقة  وقطع الطريق على امتداد نفوذ خصوم واشنطن الى البحر الابيض واسرائيل ، وهو الخيار المنسجم تماما مع طروحات الشرق الاوسط الجديد وفق الرؤية الامريكية . وهذا ما لاح في افق اجتماعات بعض القيادات العراقية وتصريحاتها ، وهو ما يفسر ايضاً سبب خروج المنطقة الغربية والشمالية من دائرة الحراك الشعبي المشتعل منذ مطلع تشرين من عام  2019 فيس وسط العراق وجنوبه ، وهذا لايقصي إحتمالية  إغراق هذه الاخيرة ، بنيران الفتنة والاقتتال الداخلي سبيلاً لإستدراج وتوريط ايران وحلفاءها وإستنزافهم وصولاً لتحقيق بعض المكاسب الامريكية .     فلا يبقى لصانع القرار العراقي في مواجهة هذه الحسابات الاستراتيجية والتهديدات المستقبلية ، الا التحلي بالروح الوطنية وخياراتها والرؤية السديدة بإتجاه إسترداد زمام الامر والمبادرة والاستقلال ، باعتماد أحد خيارين اولهما الافادة من التناقضات بين المعسكرين والقوى المتنافسة لخلق فرص وفضاءات لضمان إمن الوطن ومصالحه وتطوير قدراته ،  أما ثانيهما فيكون بتأمين الخروج الامن من ساحة الصراع بإسلوب آمن عبر إعلان وتحقيق سياسة الحياد التام   التي إتبعتها سويسرا قبل أكثر من قرن ونجحت بفضلها من تجنب جميع الحروب العالمية والصراعات داخل القارة الاوربية ، مع وجوب الاهتمام بتحصين الجبهة الداخلية وضمان حشد الارادة الشعبية وراء هذه الخيارات بعد تطهير الجهاز الحكومي من آفتي الفساد والمحاصصة السياسية .. والله ولي التوفيق .