النظام الاقتصاد العالمي وأزمة فايروس كورونا

      التعليقات على النظام الاقتصاد العالمي وأزمة فايروس كورونا مغلقة

د. فراس حسين علي الصفار
رئيس قسم إدارة الأزمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
20 اذار 2020
يعاني الاقتصاد العالمي منذ بداية العام الحالي من أزمة خطيرة نتيجة تفشي فايروس كورونا (COVID-19) والذي صنفته منظمة الصحة العالمية على انه يشكل حالة طوارئ صحية عالمية، هذه الأزمة التي يمكن عدّها القوة التي تهدد بتغير النظام الاقتصادي العالمي القائم الذي انشئ بعد الحرب العالمية الثانية ، فكل الاطراف المشاركة في الوضع الاقتصادي العالمي تعتقد إن الوضع الاقتصادي غير قادر على الاستمرار، وان التغيير سيكون حتميًا، وفي ظل هذا التغيير فإن كل طرف يحتاج إلى تعزيز موقعه في النظام الاقتصادي الجديد، وهذه الصورة للاقتصاد محددة منذ مدة لكن تم تأجيلها أو إجراء تعديلات عليها لكي لاتتم بوقت سابق، فسياسات الولايات المتحدة تجاه العالم واحدة، ومن أهم مؤشرات هذه السياسة هو عدم السماح بتغير الوضع الاقتصادي العالمي من دون أن يكون لأمريكا الدور الأساس فيه، فشعار (امريكا أولًا) الذي رفعه الرئيس الامريكي ترامب، والسياسات التي اتخذها بداية من الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وإعادة عقد الاتفاقية مع كندا، وتهديد المكسيك بإقامة الجدار العازل، وصفقات بأكثر من 400 مليار دولار مع السعودية ودول الخليج، وتقليل مساهمة امريكا في حلف الناتو، والعقوبات الاقتصادية على ايران بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، والحرب التجارية مع الصين (التي تعد الهدف الاساسي لأمريكا) ومحاولة اعاقة تقدمها نحو قمة الاقتصاد العالمي، اما بالنسبة لأوروبا فكان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي ومشاكل المهاجرين ومشاكل الاقتصاد المحلي في اليونان وايطاليا وهيمنة البنك الاوروبي على القرارات الاقتصادية وتبعات ذلك، ومحاولة تركيا الانضمام للاتحاد الاوروبي والضغط عليهم للحصول على مكاسب اقتصادية وتهديدهم بفتح الحدود للمهاجرين، كلها مشاكل جوهرية يعاني منها الاتحاد الاوروبي ، بالمقابل تسعى روسيا لإعادة امجاد الاتحاد السوفيتي السابق كقوة اقتصادية وعسكرية واحد القطبين الرئيسين في العالم، إذ ترغب في تغيير كثير من قواعد الوضع الاقتصادي القائم من خلال الاتفاق مع منظمة اوبك للسيطرة على الانتاج النفطي والتحكم في أسعاره من خلال ما يعرف باتفاق (OPECPlus) الذي امتد لأكثر من ثلاثة سنوات.
و أما الصين التي تُعد اللاعب الأساس في الوضع الاقتصادي العالمي فإنها لا تقبل إلا أن تكون الأولى في العالم، ففي ظل معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة وحجم التبادل التجاري مع العالم والمزايا الاقتصادية المتعددة، فهي ترغب في تغيير النظام العالمي لمصلحتها وان يكون الوضع الاقتصادي لها في أحسن حالته من خلال استراتيجية الحزام والطريق التي ترغب في تطبيقها في العالم.
لماذا فايروس كورونا سيقوم بتغير النظام الاقتصادي العالمي ؟
يمر الاقتصاد بشكل عام بما يعرف بالدورات الاقتصادية (أو الدورات التجارية)، وهي أن يتعرض الاقتصاد لأوضاع مختلفة ينتقل من الكساد (الأزمة) إلى الانتعاش (الاستخدام الكامل) ومن ثم إلى الكساد مرة أخرى مرورًا بحركة من الرواج قبل الوصول للانتعاش ثم تباطؤ أو ركود في الاقتصاد قبل أن يصل لمرحلة الكساد، وتستغرق الدورة الكاملة سابقًا بحدود4 سنوات إلا إن الاجراءات والسياسات الاقتصادية للدول استطاعت تمديد المدة مابين 6-8 سنوات. فمنذ الأزمة العالمية الأخيرة عام 2008 وما ارتبط بها من مشاكل اقتصادية كبيرة تتعلق بالتفاوت الكبير بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد النقدي أصبح حجم الدين العالمي بشكل غير مقبول فضلًا عن دور الأسواق المالية في زيادته من خلال العمليات المالية المختلفة، و لاسيما العمليات شديدة المخاطر.
و قد ظهر بشكل واضح من خلال عمليات التوريق إن النظام الاقتصادي العالمي غير قادر على الاستمرار، و إن الوضع القائم سينهار في أية لحظة. ولتفادي الانهيار قامت البنوك المركزية بإجراءات غير مسبوقة تمثل محاولة انعاش للاقتصاد (اعطاء صعقة كهربائية) لإعادة الحياة للاقتصاد من خلال عمليات التيسير الكمي وخفض أسعار الفائدة لأول مرة لمستوى الصفر المئوي، إلا إن الوضع لم يتحسن مما اضطر البنوك المركزية لإجراء عمليات التيسير الثانية والثالثة ليصل سعر الفائدة لأول مرة دون الصفر المئوي، وكل هذه السياسات والاجراءات الدولية هي لمحاولة تأخير الانتقال للنظام الاقتصادي الجديد الذي كانت ملامحه قد بدأت تتشكل في ذلك الوقت، واستمر الوضع على هذا الحال من التدخل الكبير للبنوك المركزية والحكومات لتفادي الانهيار. ولمحاولة التخلص من هذا الوضع تم خلق العديد من الأزمات في العالم أهمها الربيع العربي اواخر عام 2010 ومطلع 2011 في تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان عام 2019، فضلًا عن الحرب في سوريا والحرب في اليمن والحرب في ليبيا، ولعل أهم أزمة تمثلت في ظهور تنظيم داعش الارهابي منتصف عام 2014 في العراق والسيطرة على ثلث البلاد وعمليات التحرير التي استمرت حتى 9 كانون الاول 2017، وملف ايران النووي والعقوبات الاقتصادية وغير ذلك من أحداث و أزمات كانت تمثل التمهيد لبناء نظام اقتصادي عالمي جديد وكانت التوقعات إن العام 2020 سيكون عام التحول للوضع الجديد إما بشكل توافقي أو من خلال حرب عالمية ثالثة، ومثلما هو متوقع ابتدأ العام بتوتر كبير جدًا بين امريكا وايران أدّى لضربات محددة للطرفين، ومن بعد ذلك اطل فايروس كورونا على العالم من خلال مدينة ووهان في الصين لينتشر خلال ثلاثة اشهر تقريبًا في كل دول العالم، وليتسبب في شلل في الاقتصاد العالمي وانهيار في الأسواق المالية العالمية، واغلاق الحدود بين الدول وحتى بين المدن، ومن ثم التأثير بشكل كبير في النظام الاقتصادي العالمي، إذ ظهر العالم عاجزًا عن القيام بأي فعل اتجاه هذا الفايروس على المستوى الصحي فضلًا عن المستوى الاقتصادي. وإزاء هذه الأزمة الكبيرة لا يمكن التنبؤ بالمستقبل فكل القطاعات متوقفة (الصناعة والزراعة والسياحة والنقل وغيرها)، وهناك ضغط كبير على قطاع الصحة والتجارة، ومن ثم لا توجد حلول في الافق، وأهم ما يمكن عمله في الوضع الحالي هو تقديم تمويل وتسهيلات مالية للقطاعات المختلفة والشركات والافراد وهو ما قامت به أكثر الدول لغاية الان . من جانب آخر تعرض الاتفاق بين روسيا واوبك للانهيار نتيجة الأوضاع الاقتصادية غير المواتية، وعدم استعداد روسيا لتخفيض الانتاج ما دفع السعودية للقيام بحرب أسعار أدّى لخفض سعر برنت لـ 27.38 دولار للبرميل، وفي ظل الوضع الاقتصادي السيئ من المتوقع أن ينخفض السعر لمستوى 20 دولار إلا إن هذا السعر سيؤثر بشكل كبير على المنتجين الأمريكيين ولاسيما الشركات الصغيرة والمتوسطة الذين ينتجون بتكاليف عالية ما يجعلهم ينسحبون من السوق ليرتفع السعر خلال الوقت اللاحق.
الخلاصة : سيكون النظام العالمي بعد فايروس كورونا بشكل مختلف عن ماهو عليه قبله ولاسيما الاقتصاد الصيني الذي تجاوز الأزمة، وسيحاول تحقيق مكاسب كبيرة في ظل تعرض الخصوم للوباء وتحديدًا اوروبا وامريكا، وستحاول روسيا ايضًا تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية ولاسيما إنها بعيدة نوعًا ما عن الوباء وبشكل مشابه تحاول تركيا تحقيق بعض المكاسب وسيكون الاتحاد الاوروبي وأمريكا و بريطانيا الاكثر تأثرًا بهذا الفايروس، و الخسائر الاقتصادية لهذه الدول ستكون بمليارات الدولارات و قد تتخلى في ظل هذا الوضع عن مميزاتها في النظام الاقتصادي العالمي الجديد.