النفقات التشغيلية واحتمالات العجز الفعلي في موازنة العراق2020

      التعليقات على النفقات التشغيلية واحتمالات العجز الفعلي في موازنة العراق2020 مغلقة

أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث في الشؤون المالية
باحث مشارك في قسم ادارة الازمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
أولا : اتسـاع النفقات التشغيلية في الموازنات السنوية للدولة :
لقد شـكّلت النفقات التشغيلية نسبة كبيرة من اجمالي النفقات العامة في الموازنات السنوية للدولة بعد عام 2003 ، فخلال المدة 2004 ــ 2019 ازدادت النفقات التشغيلية المخططة من (14,393) ترليون دينار عام 2004 ، الى ( 100,059) ترليون دينار عام 2019 ، مقابل (5,752212) و ( 33,048506 ) ترليون دينار للنفقات الاستثمارية للسنتين المذكورتين على التوالي ، وقد بلغت نسبة النفقات التشغيلية 73% كمتوسـط خلال المدة المشار اليها من اجمالي النفقات العامة للدولة .
ولقد كان لهذا التوسع في النفقات التشغيلية أسباب عديدة ، من أبرزها التوسع الكبير الذي حصل في الوظائف الحكومية وزيادة أعداد الموظفين والمستخدمين ، حيث أصبحت فقرة الرواتب والاجور تشكّل نسبة كبيرة من اجمالي النفقات العامة للدولة تحت وطأة الضغوط التي تواجهها الدولة لزيادة التعيينات والحد من معدلات البطالة في ظل غياب السياسات الاقتصادية الداعمة لتفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية وايجاد الوظائف وفرص العمل خارج نطاق القطاع الحكومي ، مما جعل مؤسسات ودوائر الدولة من وجهة نظر أفراد المجتمع ، المكان الأكثر ضمانا لفرص العمل والحصول على الدخول من عوائد الريع النفطي ، بعيدا عن المعايير الاقتصادية ومتطلبات الاحتياجات الحقيقية للتوظيف ، الأمر الذي أسهم في زيادة حالة الترهل وضعف الأداء والانتاجية في الجهاز الاداري الحكومي في ظل تفاقم الاتساع في الانفاق التشغيلي الحكومي .
ولم يقتصر الأمر عند اتساع الوظائف الحكومية ، وانما شمل هذا الاتساع العديد من الفقرات الأخرى التي أسهمت في تضخيم حجم النفقات التشغيلية ، كالتخصيصات المالية السنوية لتلبية خدمات الدين العام الداخلي والخارجي للايفاء باقساط الديون وفوائدها المتراكمة المستجدة والقديمة ، اذ تشكّل الديون الداخلية في حدود (40) ترليون دينار في حين تشكّل الديون الخارجية (23) مليار دولار ، عدا ديون ما قبل عام 2003 البالغة (40,9) مليار دولار وفقا لبيانات البنك المركزي العراقي . فضلا عمّا اعتادت عليه الموازنات السنوية من تخصيصات جارية للسيارات الحكومية ومستلزماتها ، والمكاتب الحكومية ومستلزماتها ، وما يخصص من نفقات جارية للايفادات وما يرصد من تخصيصات مالية ضمن فقرة المنافع الاجتماعية .
ومن ناحية أخرى فقد أسهمت ممارسات الفساد التي وقعت على الموازنة العامة للدولة ، كعامل مؤثر آخر ، في توسيع حجم النفقات التشغيلية ، مثلما أسهمت هذه الممارسات في تخفيض كفاءة وانتاجية النفقات الاستثمارية من خلال حالات التلكؤ والفشل الذي أصاب العديد من المشاريع الحكومية .
انّ تعاظم النفقات التشغيلية وهيمنتها المطلقة على اجمالي النفقات العامة ، قد انعكس على اسلوب اعداد وتنفيذ الموازنات السنوية الحكومية ، الأمر الذي أدى الى تهميش دور النفقات الاستثمارية ودور الدولة الاقتصادي ، حتى ضمن شركاتها الصناعية العامة التي أصبحت تشكّل عبئا آخر على النفقات التشغيلية من خلال دفع الرواتب والاجور للعاملين في العديد من هذه الشركات بدلا من أن تكون مصدرا لتعزيز الايرادات العامة للدولة ، في ظل انخفاض النفقات الاستثمارية المخصصة للقطاع الصناعي وغياب آليات الشراكة الفاعلة بين الدولة والقطاع الخاص للنهوض بواقع القطاعات الانتاجية .
ثانيا : موازنة 2020 والانعكاسات المحتملة لصدمات أسعار النفط على النفقات التشغيلية
لقد أصبحت مخرجات وحصيلة المنجزات المتحققة من الانفاق الحكومي تتركز ، بشكل أساس ، في تلبية متطلبات الرواتب والاجور للعاملين لدى الدولة ، فضلا عن رواتب المتقاعدين والرعاية الاجتماعية ، والتي أصبحت تشكّل بمجملها ما يقرب من (70) ترليون دينار ، أي حوالي (59) مليار دولار سنويا ، فضلا عن (55) ترليون دينار كنفقات تشغيلية أخرى ، أي بمجموع نفقات تشغيلية تقارب (125) ترليون دينار ، ونفقات استثمارية تقدر ب (39) ترليون دينار ، استنادا الى المؤشـرات التقديرية الأولية لموازنة 2020 التي استندت على سعر افتراضي لبرميل النفط قدره (56) دولار وكميات من الصادرات النفطية قدرّت ب (3,88) مليون برميل يوميا ، واجمالي نفقات عامة (164) ترليون دينار ، أي في حدود (139) مليار دولار ، وايرادات متوقعة حوالي (113) ترليون دينار ، وبعجز مخطط يقدر ب (51) ترليون دينار .
ومع الأخذ بهذه الأرقام الافتراضية المتفائلة لسعر برميل النفط وكميات التصدير التي تم وضعها قبل نشوب الأزمة الناجمة عن ( فيروس كورونا ) ، فانّ الايرادات النفطية سوف تكون في حدود (78) مليار دولار سنويا ، أي ما يقرب (92) ترليون دينار ، والايرادات غير النفطية المتوقعة حوالي (21) ترليون دينار .
لقد أوجدت الأزمة الناجمة عن تداعيات ( فيروس كورونا ) ، أوضاعا جديدة انعكست على الاقتصاد العالمي ، ومن ثم فانّ الموازنة العراقية التي تعتمد على الايرادات النفطية سوف تتأثر بشكل كبير بالركود الاقتصادي المحتمل للاقتصاد العالمي والصدمات التي نجمت عن انخفاض أسعار النفط ، حيث انخفض سعر برميل النفط من حوالي (68) دولار قبل الأزمة ، الى ما يقرب (25) دولار بعد الأزمة ، ومن المحتمل أن ينخفض سعر برميل النفط الى ما دون ذلك في ظل وجود الفائض من كميات الانتاج في أسواق النفط العالمية ، ولاسيما في حالة عدم التوصل الى اتفاق بين دول الأوبك والدول المنتجة خارج الأوبك (روسيا ) على وجه الخصوص ، على اتفاق ملزم بتخفيض الانتاج بما يسهم في الحفاظ على مستوى ملائم لأسعار النفط وفقا لما تتطلبه المرحلة الحالية والمرحلة المقبلة من الركود الذي يؤدي الى انخفاض الطلب العالمي على النفط .
وعموما فانّ أسعار النفط قد لاتعود الى سابق عهدها ، الاّ بعد ما يشهده الاقتصاد العالمي من تعافي من آثار التداعيات التي نجمت عن الأزمة ، ويمكن أن يكون هذا التعافي بشكل تدريجي في اطار المرحلة المقبلة ، ومن ثم من المتوقع ضمن الأمد المنظور ، أن تشهد أسعار النفط بعض التحسـن ، الاّ انها قد تكون عند مستوى (40) دولار للبرميل كمتوسط خلال عام 2020 .
والسؤال هنا ، ماهي الانعكاسات التي يمكن أن تتولّد عن هذه المستجدات في سوق النفط العالمية على حالة الموازنة الافتراضية للعراق لسنة 2020 وفق التقديرات الموضوعة للنفقات والايرادات في ظل وجود هذا الواقع من النفقات التشغيلية الحاكمة ؟
يمكن أن نذكر أبرز الانعكاسات من خلال النقاط التالية :
1.انّ السعر الافتراضي لبرميل النفط (56) دولار أصبح سعرا بعيدا عن الواقع ، ومن ثم لابد من تعديله بما يتناسب مع واقع الظروف الجديدة .
2.انّ الكميات من الصادرات النفطية يمكن أن تنخفض الى ما دون الكميات المتوقعة في ظل حالة الركود الاقتصادي المتوقعة للاقتصاد العالمي في المرحلة الحالية والمقبلة .
3.انّ المصادر من الايرادات غير النفطية ، على قلتها ، كالايرادات من الضرائب والرسوم ، يمكن أن تنخفض الى ما دون المتوقع تحت تأثير انكماش الأنشطة الاقتصادية والمعاملات أو الاجراءات الحكومية بتأجيل استحصال بعض الايرادات .
4.سوف تفرض متطلبات مواجهة أزمة (كورونا) أنماطا من الانفاق الحكومي للحد من التداعيات الناجمة عنها ، سواء ما يتعلق بالمستلزمات الطبية أو المساعدة على تلبية الاحتياجات المعيشية للمجتمع من أجل تجاوز الأزمة .
انّ هذه التحديات تتطلب اعادة النظر بالأرقام الافتراضية المتعلقة بتقديرات الايرادات العامة والنفقات العامة لموازنة 2020 ، في اطار اعادة هيكلة الموازنة بجانبيها الايرادي والانفاقي .
وبالاستناد الى ( سيناريو ) يفترض سعرا لبرميل النفط (40) دولارا كمتوسط خلال عام 2020 ، ومع الابقاء على كميات صادرات النفط عند المستوى المتفائل (3,88) مليون برميل يوميا ، فانّ الايرادات النفطية سوف تكون في حدود (55,872) مليار دولار ، وهي أقل مما يتطلبه حساب الايفاء بفقرة دفع الرواتب والاجور والتي تقدر بحوالي (59) مليار دولار في موازنة 2020 .
وفي سياق هذا ( السيناريو ) الذي يبدو متفائلا في ظل الظروف الناجمة عن الأزمة وتأثيراتها على الاقتصاد العالمي وأسواق النفط ، فانّ التوقعات تتجه نحو تحقيق عجز فعلي يتجاوز ما هو مخطط من عجز في موازنة 2020 ، والذي قد يصل الى أكثر من (80) ترليون دينار . ومن ثم فانّ الهدف الأساس الذي ينبغي التركيز عليه يتمثل في البحث عن الوســائل التي تساعد في الحد من نسبة العجز الفعلي الذي سيواجه الموازنة ، مع تقليل الحاجة الى اللجوء الى مزيد من القروض الخارجية ، مما يتطلب اجراءات حكومية لترشيد وضغط بعض العناصر من النفقات العامة :
1.على الرغم ممّا للنفقات التشغبلية من سطوة حاكمة على الموازنة في جانب فقرة الرواتب والاجور الواجب دفعها ، الاّ انّ هنالك جانبا آخر من هذه النفقات يقدر ب (55) ترليون دينار يمكن أن تمارس عليها اجراءات الضغط والترشيد ، أو تأجيل عمليات الصرف ، مع تأمين (70) ترليون دينار للرواتب والاجور المستحقة .
2.امكانية اعادة هيكلة النفقات الاستثمارية وترشيدها بشكل أفضل عن طريق رفع كفاءة التنفيذ والانجاز والتقليل من حجم التكاليف والمصروفات ، كذلك تأجيل بعض المشاريع والتركيز على تنفيذ المشاريع التي لها ضرورات ملحة ، بما يسهم في توفير قدر أكبر من النفقات من أجل تجاوز هذه المرحلة .
3.التوجه نحو القروض الداخلية لمواجهة ما يتحقق من عجز فعلي وتجنب عقد المزيد من القروض الخارجية التي تسهم في تحميل الاقتصاد الوطني أعباء مالية طويلة الأجل .
انّ اسـتمرار التوسع المالي في النفقات التشغيلية قد شـكّل عقبة أمام تطوير النفقات الاستثمارية الحكومية ، وأسهم في الحد من دور الدولة الاقتصادي في مجال دعم الاستثمارات اللازمة للنهوض بواقع الاقتصاد العراقي . ومن ثم فانّ اصلاح النفقات التشغيلية وفق سياسات وبرامج للمرحلة المقبلة ، يعد ضرورة ملحة من ضرورات اصلاح النفقات الاسـتثمارية والموازنة العامة عموما ، ولاسيما فيما يتعلق بترشيد كافة عناصر هذه النفقات ومعالجة حالات الاسـراف والترهل والهدر ، بما يسهم في تعزيز الدور المنتظر لتكوين اطار مؤسسي حكومي للاسـتثمارات وفق المعايير الاقتصادية والمهنية ، وانشاء صناديق للثروة السـيادية وتفعيل آليات الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص لتنفيذ المشاريع الاسـتراتيجية التي يحتاجها الاقتصاد العراقي .