الاستثمار النفطي في العراق بين المصالح الوطنية ومصالح الشركات النفطية في ظل عقود التراخيص

      التعليقات على الاستثمار النفطي في العراق بين المصالح الوطنية ومصالح الشركات النفطية في ظل عقود التراخيص مغلقة

 

أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث في الشؤون المالية

باحث مشارك في قسم ادارة الازمات

مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء

      كثيرةٌ هيّ المراحل التي مرّت بها العلاقات بين الدول المنتجة للنفط وشركات النفط العالمية ، ابتداءَ من عقود الامتياز والهيمنة الكاملة على عمليات الاستثمار والانتاج والتسويق ، ومرورا باتفاقيات مناصفة الأرباح والمشاركة بالإنتاج ، وانتهاءَ بقبول الشركات بمنطق عقود الخدمة قصيرة الأجل ومبدأ سيادة الدول المنتجة على ثرواتها النفطية . وعبر جميع هذه المراحل استطاعت الدول المنتجة للنفط  تطوير قدراتها وخبراتها الذاتية من خلال شركاتها النفطية الوطنية وتعزيز مبدأ الاستثمار الوطني للنفط باعتباره يشكّل ثروة سيادية تعتمد عليها اقتصاداتها بدرجة كبيرة ولا يمكن أن تترك تحت هيمنة شركات النفط العالمية . وكانت قرارات التأميم تمثل أحد الأساليب لممارسة الضغوط على شركات النفط  لكي تكون أكثر مراعاةً لمصالح الدول المنتجة ، على الرغم من انّ عنصر النجاح أو الفشل الذي تمخّض عن اسلوب التأميم ، لم يكن يمثّل لوحده خلاصة النتائج ، وانّما الى جانب ذلك فقد شكّلت قرارات التأميم في العديد من الدول المنتجة للنفط ، عامل ضغط على شركات النفط من أجل تقديم التنازلات في مفاوضاتها مع الدول المنتجة حول قضايا الاستثمارات النفطية والمكاسب التي تجنيها من استثماراتها النفطية  ، بما يعزز مبدأ السيادة الوطنية للدول على ثرواتها النفطية . وكان من حصيلة ذلك تدخل حكومات الدول المنتجة في قرارات الانتاج وعمليات تطوير الحقول النفطية وحجم المكاسب التي تؤول الى الشركات المستثمرة للنفط ، صعودا الى حق الدول المنتجة في امتلاك الأسهم في هذه الشركات والتأثير في قراراتها والمشاركة في الاستثمارات النفطية وفقا للقواعد التي تقرّها الأسواق المالية العالمية المتعلقة ببيع وشراء الأسهم للمستثمرين .

وعلى وفق هذا التقدم الذي شهدّتهُ عملية تصحيح مسـار العلاقة بين الدول المنتجة وشركات النفط العالمية والذي تحققّ عبر سنوات طويلة من الترشيد لقضايا الاستثمارات النفطية وعلاقة الدول المنتجة مع الشركات النفطية  ، فقد أصبحت شركة أرامكو ، وهي من كبريات شركات النفط العالمية التي اضطلعت تاريخيا باستثمار النفط السعودي ، بمثابة شركة مساهمة ذات أسهم حكومية وخاصة محلية وعالمية ، وعلى وفق مساهمة حكومية واسعة أسهمت في تعزيز قدرات الدولة في السيطرة على عمليات الانتاج والتسويق وزيادة حجم الايرادات النفطية الحكومية استنادا لما تقرره ظروف أسواق النفط العالمية . كذلك استطاعت العديد من الدول المنتجة للنفط الأخرى تطوير خبراتها  وامكاناتها الذاتية من خلال شركاتها الوطنية المتخصصة في مجال الاستثمارات النفطية وزيادة الاعتماد على اسلوب عقود الخدمة قصيرة ومتوسطة الأجل لقاء مبالغ معينة ، ومغادرة الأساليب القديمة وأنماط الاستثمار النفطي التي تحّد من تطوّر القدرات الذاتية للدول المنتجة في تعظيم الاستفادة من مواردها النفطية الناضبة.

وفي العراق ، فقد لعبّت شركة النفط الوطنية العراقية قبل عام 2003 ، دورا بارزا في الحد من هيمنة شركات النفط على النفط العراقي ، حتى تمكّنت من تنفيذ وادارة عمليات الاستثمار النفطية ،اعتبارا من مراحل الاستكشاف والتنقيب والاستخراج ، وحتى عمليات الخزن والنقل والتسويق . واستطاعت شركة النفط الوطنية العراقية أن تصل بصادرات العراق النفطية الى ما يزيد عن ثلاثة ملايين برميل يوميا في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي .

الاّ انّ النجاح الذي تحقق من قبل شركة النفط الوطنية العراقية لم يُكتب له أن يستمر، اذ تحوّل الجانب الأساس من الاستثمارات النفطية بعد عام 2003 الى اسلوب عقود التراخيص ، بما تضمّنتهُ هذه العقود من اشكاليات كثيرة انعكست في ازدياد عنصر الهيمنة على عمليات الانتاج والمشاركة في العوائد عن كميات النفط المنتجة والمصدّرة ، فضلا عن استقطاع العديد من عناصر النفقات التي تمارسها الشركات على نطاق واسع ، مما يقلل من قيمة الايرادات النفطية الصافية التي تحصل عليها الموازنة العامة للدولة .

لقد جاء التوجه نحو عقود التراخيص في ظل انخفاض حجم الطاقات الانتاجية للعديد من الحقول النفطية في العراق بسبب الظروف التي مرّ بها ، وحاجة هذه الحقول الى التحديث والتطوير ، بالاستناد على بعض الفرضيات :

1.انّ العراق سوف يصل الى انتاج ما يقرب من (10) مليون برميل يوميا خلال سنوات قليلة عن طريق الاستثمارات التي توفّرها عقود التراخيص ، وانّ هذا المستوى من الانتاج  لايمكن تحقيقهُ بالامكانات الذاتية .

2.انّ صادرات العراق النفطية سوف يتم مضاعفتها وفقا لكميات الانتاج المتحققة .

3.انّ أسعار النفط هي باتجاه التصاعد ، على العموم ، وان انخفضت فانّها لن تنخفضَ الاّ قليلا ، بعد انحسار التداعيات الاقتصادية للأزمة المالية 2008 وبلوغ الأسعار الى ما يقرب (145) دولار للبرميل بعد الأزمة .

4.انّ الايرادات المتحققة من صادرات النفط سوف يتم استخدامها في عملية التنمية الاقتصادية وتقديم الخدمات وتطوير البنى التحتية التي يحتاجها الاقتصاد العراقي .

الاّ انّ المتتبع لمسار الأحداث يجد بأنّ المراهنة على كميات الانتاج وأسعار النفط ، كانت تنقصها الكثير من جوانب المصداقية والتحقق على أرض الواقع ، فلم تزد كميات الانتاج وفق المسار الذي حُدد لها نتيجة لعوامل ذاتية وعوامل موضوعية تتعلق بالطلب العالمي على النفط  والقيود المقررة لسقوف الانتاج من منظمة الأوبك ، كذلك لم تمنع حاجة الدول الصناعية الى النفط ، كسلعة استراتيجية ، من تهاوي أسعاره الى ما دون (20) دولارا للبرميل نتيجة للتداعيات الاقتصادية العالمية التي نجمّت عن (فيروس كورونا) .

وقد عملّت الدول المنتجة للنفط على تخفيض الانتاج بما يقرب من (10) مليون برميل يوميا اعتبارا من الأول من أيار 2020 ، كاجراء للحد من فائض المعروض النفطي ومحاولة تحسين الأسعار ، وعلى وفق هذا الاجراء سوف يكون العراق مطالبا بتخفيض انتاجه النفطي في حدود مليون برميل يوميا . وضمن هذا السياق تبرز قيود الانتاج التي تتضمنها عقود التراخيص ، فالاتجاه العام في عقود التراخيص هو نحو زيادة الانتاج وليس تخفيضه ، حيث انّ مثل هذا التخفيض من شأنه أن يؤدي الى انخفاض حصة الشركات من عوائد النفط المستخرج ، وبذلك فانّ شركات النفط سوف تراعي مصالحها بشكل أساس وقد تكون هنالك صعوبات في اقناعها باجراءات تخفيض الانتاج ، ولذلك  قد يتم هذا التخفيض من خلال عمليات الاستخراج التي تضطلع بها شركات النفط العاملة خارج نطاق عقود التراخيص .

انّ عنصر التحكم بكميات الانتاج من قبل شركات النفط العالمية ، قد ارتبط في العديد من التجارب بمصالح هذه الشركات ، سواء بلجوئها الى اسلوب تخفيض الانتاج لدعم موقفها التفاوضي ، أو من خلال عدم القبول بالاجراءات الحكومية بتخفيض الانتاج لتحسين الأسعار عندما تتطلب ظروف الطلب العالمي على النفط  . وفي هذا المجال نلحظ  بأنّ ما يستشف من مضامين عقود التراخيص ، انها غير معنيّة بصدمات انخفاض أسعار النفط وتراجع الطلب العالمي ، حيث انّ الأصل في هذه الاستثمارات هو التركيز على زيادة الانتاج من الحقول النفطية المستثمرة وحصول الشركات على مزيد من العوائد .

ومع التزام العراق بتطبيق قرار تخفيض الانتاج واستمرار شركات النفط المعنيّة بعقود التراخيص بمستويات الانتاج التي توصّلت اليها ، فانّ ذلك يعني بأنّ العوائد المالية التي ستحصل عليها هذه الشركات سوف لن تتأثر بقرار التخفيض والتي تتجاوز (1,5) مليار دولار سنويا ، على الرغم من انخفاض حصيلة الايرادات النفطية للعراق الى أدنى من النصف.

انّ أية زيادة في الانتاج النفطي من قبل شركات النفط العاملة ضمن عقود التراخيص ستصطدم بسقوف الانتاج المقررة من قبل منظمة الأوبك ، استنادا الى كون الصناعة الاستخراجية النفطية تمثل نشاطا جماعيا حتى بالنسبة الى الدول المنتجة للنفط  من خارج الأوبك ، والتي تقع عليها التزامات بتنظيم كميات الانتاج وفق ما تتطلبه ظروف أسواق النفط العالمية .

وفي اطار ذلك فانّ الانعكاسات التي تولّدت عن صدمة انخفاض أسعار النفط على الموازنة العراقية لسنة 2020 في ظل أزمة الكساد التي يشهدها الاقتصاد العالمي بسبب تداعيات (فيروس كورونا) ، يمكن أن تكون فرصة من أجل مراجعة اسلوب الاستثمارات النفطية وفق عقود التراخيص التي تُعدّ من قبيل العقود طويلة الأجل ، ولاسيّما فيما يتعلق باستثمارات الحقول النفطية ذات الكفاءة الانتاجية وتكاليف الانتاج المنخفضة ، وتفعيل دور شركة النفط الوطنية العراقية في المساهمة بتحديث وتطوير هذه الحقول وتوسيع نطاق عملياتها في اطار تشريع القوانين اللازمة ، واجراء التعديلات على قانون الاستثمار النفطي وتفعيل تطبيقه من أجل تطوير الصناعة النفطية العراقية وجذب الاستثمارات لانشاء المصافي في محافظات العراق ، وكذلك انشاء مشاريع للمنتجات البتروكيماوية ، بما يضاعف القيمة المضافة لبرميل النفط ويوفّر امكانية أكبر لعملية التوسع في الانتاج النفطي الموجه لأغراض تطوير الصناعة النفطية الوطنية لتلبية احتياجات الأسواق المحلية من المنتجات النفطية والسلع البيتروكيماوية ، والنهوض بامكانات البلد لتصدير الفائض من هذه المنتجات ، بما يساعد على تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على تصدير النفط  بشكل خام ، الذي تتحكم بأسعاره وكمياته الأسواق العالمية .