جائحة كوفيد 19 وإحتمالية التحول الى نظام دولي ثنائي القطبية

      التعليقات على جائحة كوفيد 19 وإحتمالية التحول الى نظام دولي ثنائي القطبية مغلقة

 

                                                      بقلم : ا.د. سامر مؤيد عبد اللطيف

                                         قسم الدراسات القانونية – مركز الدراسات الاستراتيجية

                                                                  ايار /2020

     من رحم الازمة يولد التغيير ، ومع اتساع الازمة وتعمقها يتسع نطاق التغيير وتتطاول تداعياته. ومع ازمة عنيفة مثل جائحة (كوفيد 19)  التي ضربت اسس وقواعد وقوى النظام الدولي ، لن يكون العالم بعدها كما كان قبلها . ولم يخطئ من قال “في أوقات الأزمات العالمية، تطفو على السطح فرص ثمينة لإعادة هيكلة معادلات العلاقات الدولية ” . وبكل المقاييس يمكن القول باطمئنان ان ما يشهده عالمنا اليوم بفعل هذه الجائحة وتداعياتها الكارثية ، اشبه ما يكون بالمرحلة الانتقالية او حالة فقدان التوازن والوعيالاستراتيجي التي تختل فيها القواعد وانساق التفاعلات والتوازنات الدولية  ، وتتوارى الهيمنة القطبية للفاعلين الاساسيين خلف ستارة من الظروف القاهرة . وفي خضم ازمة عاصفة كهذه  ، بات السؤال الذي يشغل بال العدّيد من الكتاب والباحثين في الوقت الراهن، هل سيشهد العالم تحولًا في بنية النظام الدولي بعد انتهاء جائحة كوفيد 19 ؟

وبين من يرى عودة الامور الى سابق عهدها وضمور الاحتمال بالتحول الجذري في بنية النظام الدولي وقواعده وقواه ، ومن يرى أن هذه الأزمة ستقوم بتعديل هيكل القوى العالمية بطرق لا يمكن تخيلها، تبقى الرؤية معلقة بسقف المتغيرات الدولية المستقبلية والفرص المتوافرة وقدرة الاطراف على استثمارها لتحقيق غاياتهم ؛ لاسيما وان نهاية الأزمة لم تزل بعيدة عن التوقعات ومآلاتها  لم تزل تدور في فلك التكهنات.

غير ان المعطيات الواقعية في الساحة الدولية تبرز بوضوح تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية في ظل السياسات التي اتخذتها إدارة ترامب قبل ازمة الجائحة وخلالها  والتي  القت بظلال الشك حول قدرة أمريكا على التعافي السريع، فضلاً عن التفرد بقيادة العالم؛ اذ ظهرت واشنطن في وضعية العاجز عن الفعل، وغير القادر على التحكم في تطورات الأحداث وادارة ملف العلاقات الدولية ، لاسيما بعد ان تخلّت عن أقرب حلفائها.

وحتى مع قبول الافتراض بان هذا التراجع الامريكي مرهون بظرفه وسوء الادارة -وفق بعض الاراء- بالنظر لاحتفاظ واشنطن بمفاتيح القدرة والصدارة على الساحة الدولية بفضل قدراتها العسكرية وسطوتها المالية وثقافتها الكونية  ، فان حسابات القدرة والريادة في النظام الدولي ، لاتعفي القوة العظمى من مسؤوليتها العالمية  ، ولن ينتظر العالم عودة السيد من غيابه الاختياري ، خاصة مع وجود البديل المستعد لملء الفراغ  الاستراتيجي والقادر على تحمل المسؤولية العالمية . ولعل هذا ما دفع بعض الباحثين الى ترجيح الصين لممارسة هذا الدور وشغل هذه المكانة  ، لاسيما وانها اجادت اقتناص (فرصة/ ازمة) الجائحة  لتعزيز دورها ومكانتها الدولية، عبر تقديم المساعدات للعديد من دول العالم للتصدي للأزمة، صحياً، غيران هذا لا يعني بالضرورة رغبتها في ملء الفراغ الاستراتيجي المحتمل الناجم عن تراجع الولايات المتحدة كلياً عن قيادة النظام العالمي القائم، فالتنّين الحذر- على حد تعبيرمؤسسة “راند” البحثية – لا يظهر استعجالاً لفكرة مزاحمة الولايات المتحدة على قيادة العالم، والثقافة الصينية بعمقها التاريخي لديها من الصبر والتريث الاستراتيجي ما يدفع للقول بأن الصين لا تسعى لاستغلال هذه الأزمة لتحل محل الولايات المتحدة، ولكنها بالتأكيد تدرك أو الجائحة فرصة ثمينة لاستعادة زمام المبادرة في الصراع التجاري والاقتصادي والاستراتيجي الذي يقوده الرئيس ترامب معها، ومن ثم كسب الثقة وتعزيز النفوذ الدولي في مواجهة الضغوط التي تمارس عليها من الغرب بقيادة الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، ولعل نجاحها في اختراق جبهة الغرب من خلال إظهار التعاطف وتقديم الدعم والمساعدات لإيطاليا وبعض الدول الأوروبية في مواجهة أزمة “كوفيد19” سيسهم في تحرك الصين لتفتيت الموقف الغربي ضدها عبر إعادة بناء الصورة الذهنية للبلاد دولياً وتقديم وجه أخلاقي للصين بدلاً من المصالح الجيوسياسية فقط.

وإذا أضفنا لذلك تمددها استراتيجياً في قارات العالم واقتصاداته من خلال خطة (طريق الحرير الجديد) ، فإن هذه الأزمة ستتيح للصين فرصة التحول من الموقف الدفاعي في مواجهة الضغوط الاستراتيجية الأمريكية المتواصلة إلى بناء موقف متوازن لن يصل بالضرورة إلى حد تحدي النفوذ الأمريكي عالمياً، ولكنه سيوفر للقيادة الصينية فرصة الامساك بزمام المبادرة في علاقاتها المعقدة والصعبة مع الولايات المتحدة بما يمكنها من فرض رؤاها وتصوراتها في هذه العلاقات ويدفع واشنطن بالتبعية إلى إبداء مرونة كبيرة لتفادي التحدي الصيني، لاسيما أن الاقتصاد الأمريكي لا يستطيع التخلي بسهولة عن أنشطة “التعهيد” التي يرتبط بها مع الشركات الصينية ([i]).

ان التحليل السابق يدفع الى الاستنتاج بان الصين تسعى إلى الصعود في صمت دون الانقلاب على النظام الدولي اوهدمه ،([ii]) ولا  استفزاز الولايات المتحدة او مواجهتها في صراع مكلف جدا للطرفين  او حتى مزاحمتها على مكانتها العالمية ، لاسيما اذا تذكرنا  ان سياسة النفس الطويل للصين والترقب في هذا المجال،  قد افادتها في السابق وستفيدها ، بعد زوال الازمة ومغادرة ترامب للبيت الابيض ، في استنزاف القدرات الامريكية  ، مع كل محاولة لتأكيد الاخيرة  زعامتها العالمية  بالتصدي للمشكلات الدولية والتورط  فيها . ولايخطىء من يرى ان  العولمة التي اخترعتها امريكا لترسيخ هيمنتها على العالم استغلتها قوى أخرى (على رأسها الصين) كأداة لتقويض النفوذ الأمريكي من داخل هذا النظام.

وعوضاً عن السعي للهيمنة الدولية، ستسعى الصين  إلى السيطرة الناعمة وزيادة حجم مشاركتها العالمية باستمرار من خلال بناء اقتصاد قوي وتقنية نفاذة مصحوبة ببعض القدرات العسكرية لاغراض الردع والدفاع مع محاولة تسويق وإضفاء الشرعية على نموذجها للحوكمة والتنمية على الصعيد الدولي، بحيث تضمن هامش من التعايش السلمي مع النماذج الأخرى، وتعزز في نفس الوقت من قيمتها الذاتية وقدراتها على التأثير في الحوكمة العالمية([iii]).

وسواء تشبثت الولايات المتحدة الامريكية بمكانتها الدولية او اضطرت للتخلي عنها ، فان طموح الصين ومساعيها سيدفعانها الى الارتقاء والتأثير في معادلة القوة العالمية بصور مختلفة ، ومع تنامي التأثير يأتي التغيير وتتلاشى إحتمالية الاستمرار؛ لاسيما وان جميع الاحتمالات والشواهد المرصودة  تشير إلى أن هذه الأزمة ستخلف آثاراً بنيوية عميقة في النظام العالمي وستدفع باتجاه التغيير ليس على صعيد تراتبية القوى الدولية فحسب ، بل على صعيد القواعد الضابطة لانساق التفاعل الدولي ، بفعل ما خلفته ازمة الجائحة وكشفت عنه من ثغرات وعيوب فاضحة في بنية وقواعد النظام الدولي  القائم على السوق المفتوح والتطلع الى الربح والاستغلال على حساب القيم الانسانية النبيلة ؛ فالعالم- على حد تعبير احد الباحثين – سيخرج من أزمة جائحة “كورونا المستجد” معافاً وسليماً؛ ولكنه بالتأكيد سيكون عالماً مختلفاً عن سابقه. . عالم سيعيد ترتيب الأولويات”([iv]).

والواقع ان السير في طريق التغيير ، ومهما كان هذا الاخير محددا ومتواضعاً على المدى القريب ، سيحمل بين طياته الاحتمال الارجح بالتغيير الاكبر في المستقبل ، والدور الذي ارتضته الصين اليوم وغدا ، لن يرضيها في المستقبل مع تغير الظروف وتقاعس الولايات المتحدة عن دورها الريادي واتساع الفرص لصالحها  ، وهي مدركة تماماً  أن التفوق التقني والاقتصادي ومعهما القدرة على تحمل المسؤولية الدولية  ستكون ، مداخلها  الى قمة الهرم الدولي في المستقبل ، وقد استعدت لهذا  الدور وهذه المسؤولية منذ  اليوم .

واما  ألامريكيون  فيعون قبل غيرهم  أن بلادهم تسير في طريق التراجع، وهم يقومون بوضع استراتيجيات جديدة تضمن على الأقل أن تكون بلادهم إحدى القوى المسيطرة على العالم.

ومع توافر القناعة التامة لدى القوى العالمية  أن سياسة القطب الواحد أوقعت العالم في أزمات لا ينتهي، وان العودة لسياسة القطبين او التعددية القطبية سيعيد التوازن المنشود الى النظام الدولي  ، يضحى المجال – في المستقبل القريب –  متاحا أكثر من أي وقت مضى لنظام دولي ثنائي القطبية من طبيعة مرنة؛ اي بعبارة اخرى ان  النظام الدولي القادم سيقوده قطبان رئيسان هما الصين وأمريكا، ولكنه لن يكون بصرامة القطبية التي رأيناها في الحرب الباردة، فهذا النظام الجديد سيكون مرناً، وسوف تستغل أطراف أخرى، مثل روسيا والاتحاد الأوروبي هذه القطبية لتعزيز دورها، مثلما ستستفيد منه القوى الاقليمية  في توسيع هامش مناورتها .

ومع الدرس البليغ الذي تعلمته البشرية من جائحة كورونا ، فان قواعد النظام الدولي الجديد ستكون اكثر تعقلا وميلاً للطابع الانساني والتعاوني ، مع الانكفاء على الذات من جانب الدول اكثر واعتماد سياسات اكثر حزما وتدخلا في شؤون الافراد وتعاملاتهم ، وستكون مفردات القوة الناعمة والتقنية هي مفاتيح القوة والتأثير في نسق التفاعلات الدولية المستقبلية دون ان يعني ذلك مغادرة منطقة الصراع والتنافس الذي سيغلب عليه الطابع الاقتصادي والتجاري . . . وغدا لناظره لقريب .

 

 

 

[i])) 3.سالم الكتبي، الصين ورؤيتها لقيادة العالم في مرحلة مابعد “كورونا” ، مقال منشور على الرابط  : https://elaph.com/Web/opinion/2020/04/1289454.html

[ii])) وهذا ما اكده  وزير الخارجية الصيني الأسبق لي تشاو شينغ بالقول » أن بلاده لا تريد فرض القوة مثل أمريكا، مشيراً إلى أن «أبرز ملمح للتنمية في الصين هو أنها سلمية». وأضاف: «إننا ننمي أنفسنا عن طريق السلام وليس عن طريق الاستعمار أو الاستئساد على الآخرين. فالصين الصاعدة سلمياً لن تشكل تهديداً بل فرصة للدول المجاورة ودول العالم الأخرى». وتابع قوله: «إن الصين لم تحاول أبداً أن تصبح دولة مستبدة أو مهيمنة على الصعيد العالمي، بل اتخذت نهجاً قومياً جديداً يضع رخاء الشعب الصيني وشعوب العالم ضمن أولوياته». ؛ مقتبس من : ليلى بن هدنة ، التنين الصيني في مواجهة النسـر الأمــــريكي لإنهاء القطب الواحد ، صحيفة البيان الاماراتية ، 24 ديسمبر 2019 . على الرابط : https://www.albayan.ae/

[iii])) محمد منصور ، جائحة كورونا … نقطة فاصلة في العلاقات الأمريكية الصينية ، المرصد المصري ، 9 ابريل 2020 ، على الرابط : https://marsad.ecsstudies.com/

[iv])) د. محمد كاظم المعيني ، جائحة كورونا .. وأزمة النظام العالمي الجديد ، مركز البيان للدراسات والتخطيط . 11/4/2020 . على الرابط : https://www.bayancenter.org/