مناقشـة لبعض المقترحات للتخفيف من الأزمة المالية في العراق

      التعليقات على مناقشـة لبعض المقترحات للتخفيف من الأزمة المالية في العراق مغلقة

 

أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث في الشؤون المالية

باحث مشارك في قسم ادارة الازمات

مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء

انّ الأزمة المالية التي يواجها العراق في الظروف الحالية ، والتي تتعلق بصدمة انخفاض أسعار النفط وانخفاض ايرادات الموازنة العامة الى ما يقرب النصف ، كانت احتمالاً متوقّعاً بالنسبة للمراقبين والمهتمين بمتابعة الشأن الاقتصادي العراقي ، بإمكانية حصول مثل هذه الأزمات في أيّ وقت ، بغض النظر عن مســبباتها ، وقد تصل الأمور الى مستوى من العجز المالي الذي يجعل الدولة لا تتمكن من الايفاء بالمستحقات المالية التي تتطلبها عملية دفع الرواتب ، وذلك في ضوء ما يستشّفُ من الواقع الاقتصادي وما بلغته الموازنة العامة من اعتمادٍ شديد على الايرادات النفطية بما يزيد عن 93% من اجمالي الايرادات العامة ، كذلك ما وصلت اليه النفقات التشغيلية التي تجاوزت نسبتها 70% من اجمالي النفقات العامة ، وهي في معظمها نفقات حاكمة من الرواتب الواجب دفعها تقدّر في حدود (4ــ5) مليار دولار شـهريا ، وتشكّل ما بين (80 ـ 85 % ) من اجمالي النفقات التشغيلية .

انّ ما حصل من تركيز على القطاع النفطي في العراق ، كمصدرٍ أساس مهيمّن على اجمالي الايرادات العامة واهمال القطاعات الاقتصادية الانتاجية الأخرى التي تسهم في تنويع مصادر الدخل والثروة ، قد شـكّل انذاراً مبكراً لأيةِ صدمةٍ مالية محتملة ، في ظل الدرجة الشديدة من الارتباط التي بلغها الواقع الاقتصادي العراقي ، بين مستحقات الرواتب لملايين الموظفين والمتقاعدين والمحسـوبين على فقرة الرواتب في الموازنات السـنوية للدولة ، وبين الايرادات النفطية التي تحصل عليها الدولة والتي تتسـم بعدم الاسـتقرار والثبات .

ومن ثم فقد أصبح الاهتمام الأول للدولة في ظل واقع الأزمة المالية ، يتمثّل في كيفية التمكّن من الايفاء بدفع الرواتب ، بعد أن تهاوت أسعار النفط الى مستوى دون (20) دولار للبرميل ، وارتفاعها بعد ذلك ، الى ما يزيد عن (40) دولار وفقا لمؤشر (مزيج برّنت) ، على أثر اجراءات تخفيف القيود الاقتصادية وفتح الاقتصادات في العديد من دول العالم ، وكذلك اجراءات منظمة الأوبك بتخفيض الانتاج . ومع ذلك ورغم هذا التطوّر في أسعار النفط ، فانّ السعر الافتراضي لبرميل النفط ، يمكن أن يبقى سعراً متحفظاً باعتبار انّ سعر النفط العراقي هو أقل من سعر (مزيج برنّت) بحدود خمسة دولارات .

واذا ما أخذنا بنظر الاعتبار تطبيق قرار ( منظمة أوبك + ) بتخفيض انتاج النفط ، وما يقع على الحكومة العراقية من التزام بتخفيض انتاج النفط العراقي في حدود يمكن أن يتجاوز مليون برميل يوميا ، فانّ صادرات العراق النفطية في ظل هذا الواقع سوف لن تتجاوز (2,5) مليون برميل يوميا . وبالاسـتناد الى فرضية انّ السعر الافتراضي لبرميل النفط لغرض حساب الايرادات النفطية ، هو (35) دولار ، فانّ ايرادات العراق النفطية سوف تبلغ حوالي (2,625) مليار دولار شهريا ، وفي حالة استقطاع المستحقات المالية لشركات النفط ، فانّ الايرادات الصافية من تصدير النفط سوف تزيد قليلاً عن (2) مليار دولار شهرياً ، مما يوضّح حجم العجز المالي مقارنة بالمسـتحقات من الرواتب التي تتجاوز ال (4) مليار دولار شهريا ، فيما عدا النفقات الاستثمارية والنفقات الجارية الأخرى ذات الضرورة لتمشية العمل في وزارات الدولة ومؤسساتها .

انّ هذا الواقع المالي يمكّن أن يسـتمرَ لأشهرٍ عديدة ضمن موازنة 2020 الافتراضية ،  ورُبمّا بعدها ، الأمرُ الذي يتطلب مناقشة لبعض المشاهد أو السيناريوهات ، مع ترك المشاهد الأخرى لاجراءات الدولة وتدابيرها وفق ما تتطلبهُ ظروف المرحلة :

أولا : اسـلوب التمويل التضخمي كأحد الخيارات :   

وهو ما يمكّن التعبير عنهُ بطبع واصدار النقود بشكلٍ يتجاوز القواعد المعتمدة في الاصدار النقدي من قبل البنك المركزي ، بما يؤدي الى زيادة عرض النقد في التداول بالمقارنة مع حجم وامكانات الناتج المحلي الاجمالي ونسبة العجز المتحققة في الموازنة العامة للدولة وفي الحساب الجاري في ميزان المدفوعات .

ومن أبرز مساوئ هذا الاسلوب اضعاف القوة الشرائية للوحدة النقدية المحلية التي لاتجد غطاءا حقيقيا من السلع والخدمات ، كما تزداد مساوئ التمويل التضخمي شــدةً في الأحوال التي يتم تخصيص هذا التمويل الى مجالات غير استثمارية . ومن ثم فانّ التركيز على مثل هذا الحل من شأنه أن يؤدي الى تفاقم ارتفاع أسعار السلع والخدمات بدرجة كبيرة ، ولاسـيّما أسعار السلع المستوردة التي تعتمد عليها الأسواق العراقية بشكّلٍ كبير . كما يؤدي التركيز المفرط على هذا النوع من التمويل الى تعزيز قوة ودور السـوق الموازية لسعر صرف العملة ، بما يؤدي الى أن تصبح السوق الموازية لسعر الصرف هيَّ المهيّمنة والحاكمة وفق مؤشرات العرض والطلب على الدولار الذي يصبح شـحيحا في ظل انخفاض الايرادات النفطية وتراجع حجم الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي الداعمة للحد من العجز المالي في الموازنة العامة للدولة ، مما يسهم في تقويض الدور الذي تُمارسُـهُ أدوات السياسة النقدية ، ولاسيما منافذ بيع العملة ، في السـيطرة على الضغوط التضخمية وسعر صرف العملة المحلية أزاءَ الدولار . ولقد جرّبَ العراق التمويلَ التضخمي خلال عقد التسـعينيات من القرن العشرين وكانت نتائجُهُ وانعكاساتُهُ الاقتصاديةِ السـلبية كبيرةً على حياةِ الفردِ والمجتمع . ومن ثم فانّ مثل هذا الخيار لا يُعدُ خياراً مناسباً للحد من تداعيات الأزمة المالية .

ثانيا : رفع سعر الفائدة كخيار لتقليل الانفاق الوطني والحد من عجز الموازنة :

    لقد شـكّل سعر الفائدة في اطار النظرية الاقتصادية الكلاسيكية ، المتغيّر الأساس في تحديد حجم الاستثمار والتأثير في مكونات الانفاق الكلي للاقتصاد الوطني ، الاّ انّ ( أزمة الكسـاد العظيم ) التي تعرضّت لها الرأسمالية العالمية ما بين عاميّ 1929 ــ 1932 قد أفرزّت واقعاً اقتصادياً جديداً في النظرة الى أثر سعر الفائدة على المتغيّرات الاقتصادية الأخرى ، في اطار ما تمخّض عن النظرية الاقتصادية الكنزّية من معطيات . فلم يعّد سعر الفائدة  ذا أثرٍ فاعل ، الاّ اذا توفّرت ظروف اقتصادية داعمة ومعززّة لعملهِ ، ومن ثم فقد كان التركيز أيضا ، على عامل ( الكفاية الحديّة لرأس المال ) باعتبارِهِ يمثّل معدل العائد المتوقّع من الاستثمارات الجديدة والذي يرتبط بحالة الاقتصاد الوطني لكل دولة .

ولاشكّ انّ مثل هذا التحليل هو أكثر انطباقاً على واقع الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة ، وكذلك الاقتصادات النامية التي لديّها تنوّع في مصادر دخلها وثروتها ، وتمتلك قطاعاً خاصاً يكون أثرهُ فاعلاً في الانتاج السلعي والمساهمة في تعزيز الاستثمارات في الشركات الصناعية الوطنية من خلال الأنشطة التي تُمارسها الأسواق المالية .

لقد كان الهدف من هذه الاشارة ، توضيح مدى الأهمية التي يُشكّلها عامل (الكفاية الحديّة لرأس المال) ،  ووجود قطاع خاص فاعل في الأنشطة الاقتصادية الانتاجية في اطار دور اقتصادي للدولة ينتهج سياسة تنويع الاقتصاد وعدم الاعتماد على مورد احادي الجانب ، لكي يتمكّن سعر الفائدة وأدوات السياسة النقدية الأخرى من خلق تأثيرات ايجابية في ظروف الأزمات المالية .

واذا ما عُدنّا الى واقع الاقتصاد العراقي والدور الذي يمكن أن يلعبهُ رفع سعر الفائدة في ظل الأزمة المالية ، فانّ هذا الأثر سوف لن يكونَ ذا فعالية في الحد من عجز الموازنة العامة وتوفير الموارد المالية ، وذلك لأنّ حالة (الكفاية الحديّة لرأس المال) ، تعمل لغير صالح الاقتصاد الوطني ، سواء فيما يتعلق باستثمارات القطاع الخاص المتجّهة نحو القطاع التجاري الاستيرادي المستهلك للعملة الأجنبية ، مع قلة الاستثمارات الصناعية والزراعية في ظل التوجّه القائم نحو كبح جماح الصناعة الوطنية والانتاج الزراعي وتشجيع الاستيرادات ، أو ما يتعلق بالانفاق الاستثماري الحكومي القليل العائد والمنجزات المتحققة من حصيلة المشاريع الحكومية . فضلا عن انّ الهدف الآخر لرفع سعر الفائدة الذي يتمثّل في تعبئة المدخرات المحلية وتعزيز السيولة المصرفية والتقليل من الانفاق الاستهلاكي ، فانّ مثل هذا الهدف من الصعب تصوّرُهُ في ظل انخفاض حجم الودائع المصرفية وازدياد حالات التوجّه نحو ظاهرة الاكتناز والاحتفاظ بالسيولة النقدية والتعامل بالكاش خارج نطاق الجهاز المصرفي ، في الوقت الذي يُمكّن أن يؤدي رفع سعر الفائدة الى زيادة تكلفة الاقتراض الحكومي وارتفاع نسبة العجز في الموازنة العامة للدولة .       

ثالثا : تخفيض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار :

    تحاول أدوات السياسة النقدية الحفاظ على سعر صرف ملائم للعملة المحلية أزاء الدولار ، وذلك من خلال التدخل في سوق النقد ، والذي يتطلّب استمرار تقديم الدعم لقيمة العملة المحلية في ظل واقع الاقتصاد العراقي الذي يتسـم بشـحّة السلع المنتجة محلياً واتساع عمليات الاستيراد من السلع والمواد المختلفة .

ومن المقترحات المطروحة للتخفيف من حدة الأزمة المالية التي تُواجه العراق بعد انخفاض أسعار النفط وكميات التصدير ، هو اللجوء الى تخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار العراقي مقابل الدولار وفق نسبة معينة تساعد على تقليل العجز في الموازنة العامة للدولة ، فضلا عن انّ مثل هذا التخفيض يمكن أن يسهم في الحد من الاستيرادات ، ولاسيّما السلع غير الضرورية أو تلك التي يمكن التوسع في انتاجها محليا ، مما يُعدُ ظرفاً مناسباً لتشجيع استهلاك المنتجات الوطنية وفسح المجال أمام المشاريع الانتاجية المحلية لكي تأخذ دورها في زيادة منتجاتها من بدائل الاستيرادات وتطوير قدراتها التنافسية ، كما يُمكن أن يساعد في التقليل من التحويلات المالية من منافذ بيع العملة لأغراض تلبية حاجة الاستيرادات.

ومع كلّ هذه الاعتبارات الايجابية التي يُمكّن أن تتمخّض عن تخفيض قيمة العملة ، الاّ انّ هذا الاجراء من شأنه أن يؤدي الى توسيع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازي ، والذي ينبغي أن يجري في نطاق استمرار ادارة سعر الصرف من قبل البنك المركزي العراقي بغيّة ضبط حركة السعر الموازي في هذه المرحلة ، وفي اطار ما يُمكّن أن تُسـفر عنه المساعي المنتظرة لاصلاح الاقتصاد العراقي في المرحلة المقبلة .

وعموما ، فانّ مقترح تخفيض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار ، اذا ما تمَّ تقييمُهُ من خلال ما قد يتمخّض عنهُ من نتائج ايجابية وسلبية ، فانّه لا يُعدُ اجراءا مناسبا لمعالجة الأزمة المالية الحالية ، وذلك بالنظر لعدم انسجامه وتوافقه مع واقع الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي ، ومن أبرزها الاختلال الكبير في هيكل الانتاج السلعي المحلي ، مقابل الاعتماد الكبير للأسواق العراقية على السلع والمواد المستوردة ، على الرغم من انّ اجراء التخفيض يمكن أن يكون له أثر في تقليل الاستيرادات من بعض الأصناف من السلع ، وما يتولّد عن ذلك من انعكاسات ايجابية على المشاريع الانتاجية الوطنية ، ولاسيّما في حالة عدم قدرة المنتجين والمصدّرين الأجانب من تعديل أسعار الصادرات لكي تتناسب مع واقع سعر الصرف الجديد من أجل استمرار الحفاظ على حصتها من الصادرات للأسواق العراقية . ويمكن تلخيص أبرز الاعتبارات التي تقف وراء عدم فعالية تخفيض قيمة العملة للحد من تداعيات الأزمة المالية في العراق في النقاط التالية :

1.اعتماد العراق الكبير على الاستيرادات ، وما يتولّد عن تخفيض قيمة الدينار العراقي أزاء الدولار من ضغوط تضخمية على أسعار المستهلك تنعكس بآثار سلبية على مستوى معيشة الفئات الاجتماعية الأقل دخلاً ، وعدم مرونة جهاز الانتاج المحلي للتعويض عن بدائل الاستيرادات في الأمد القصير .

2.مكونات الصادرات والاستيرادات العراقية ، هي لغير صالح اجراء التخفيض ، اذ تشكّل صادرات النفط نحو 99% من اجمالي الصادرات ، في الوقت الذي تشتمل فيه مكونات الاستيرادات على مختلف أنواع السلع والمواد .

3.المرونة السعرية للصادرات والمرونة السعرية للاستيرادات ، حيث انّ تخفيض قيمة العملة لكي يكون له أثر ايجابي واضح على حالة ميزان المدفوعات والموازنة العامة للدولة ، ينبغي أن يؤدي الى زيادة حجم الصادرات وتقليل حجم الاستيرادات ، وبالاستناد الى عامل المرونة السعرية لكلٍ من الصادرات والاستيرادات العراقية ، فانّ هذا العامل ليس في صالح اجراء التخفيض ، اذ لا تُشكّل صادرات العراق غير النفطية الاّ النزر اليسير الذي لايذكر ، في الوقت الذي تتحكم أسواق النفط العالمية بأسعار النفط والكميات المطلوبة وفقا لحاجة الاقتصاد العالمي ، الأمر الذي يجعل من اجراء التخفيض غيرَ ذي أثرٍ على المرونة السعرية للصادرات. كما انّ أثر التخفيض على المرونة السعرية للاستيرادات ، انّه يؤدي من حيث المبدأ ، الى ارتفاع أسعار الاستيرادات ، الاّ انّ الطلب المحلي على السلع المستوردة قد لا ينخفض الاّ بنسبةٍ قليلة لعدم توفّر بدائل الاستيرادات في الأمد القصير ، وكذلك احتمال لجوء المنتجين الى تعديل أسعار السلع المصدّرة لازالة أثر تخفيض قيمة العملة في البلد المستورد ، فضلا عمّا يُشكّلهُ الكم الكبير من النفقات التشغيلية الحكومية من أثرٍ في زيادة الانفاق الاستهلاكي على السلع التي تُشكّل الاستيرادات الجزء الأعظم منها .

4.انّ تخفيض قيمة العملة يمكن ان يؤدي الى توليد آثار سلبية على الثقة بالعملة المحلية واضطراب سوق الصرف بما يوسّع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي والسعر الموازي بمدياتٍ كبيرة يكون من الصعب على أدوات السياسة النقدية مجاراتها ، في وقت تتطلب فيه الأزمة المالية ترشيد استخدامات العملة الأجنبية مع الحفاظ على قدر مناسب من التفاوت بين سعر الصرف الرسمي والسعر الموازي ، والابقاء على السعر الرسمي كمؤشر مهم لقيادة سوق الصرف وضبط حركة سعر الصرف الموازي .

رابعا : الاقتراض الداخلي والخارجي :

    على الرغم من انّ اللجوء الى الاقتراض بالنسبة للكثير من الدول ، أصبح من الأمور الاعتيادية ، ولاسيّما في ظل الظروف الاستثنائية الي تؤدي الى تفاقم العجز في الموازنة العامة للدولة ، الاّ انّ القروض ولاسيّما الخارجية منها ، من شأنها أن تُشكّل أعباءاً مالية كبيرة على الموازنة العامة في المراحل اللاحقة من خلال تراكم خدمات الديون . فضلا عن ارتباط حالات كثيرة من القروض الخارجية بشروط قد لا يتمكن البلد الايفاء بالتزاماتها .

وعموما ، فانّ الموازنات العراقية قد اعتادّت خلال السنوات السابقة على ادراج خيار الاقتراض ضمن بنود الموازنات السنوية ، ومع ذلك فانّ تفاقم العجز في موازنة 2020 الى المستوى الذي أصبح يتطلب موارد مالية للايفاء بدفع الرواتب ، ينبغي أن لا يجعل الدولة تذهب نحو التركيز على هذا الخيار ، ولاسيّما فيما يتعلق بتكرار تجربة تفاقم القروض الخارجية وزيادة التزامات العراق تجاه المؤسسات المالية العالمية .

ومن ثم ينبغي الحد من القروض الخارجية ، فهنالك الكثير من التحفّظات على التوسّع في القروض الخارجية في ضوء تجربة العراق السابقة في هذا المجال ، كما انّ الكثير من الدول والمؤسسات الدولية المقرِضة لا تُفضّل منح القروض لأغراض تلبية متطلبات النفقات التشغيلية ، وانّما تُفضّل أن يتم توجيه قروضِها الى المجالات الاستثمارية . وحتى وان تمّت الموافقة على توجيه جزءٍ من القروض الخارجية للايفاء بدفع الرواتب ، فانّ الجهات المقرِضة يمكن أن تشترط اجراء اصلاحات من أجل ترشيد النفقات التشغيلية ، ولاسيّما فيما يتعلق بفقرة الرواتب الحكومية التي تتطلب وقتاً من الزمن . ومع ذلك قد تكون هنالك بعض القروض الخارجية التي تقدمها بعض الدول من أجل مساعدة العراق على تجاوز الأزمة ، الاّ انّ خيار اللجوء الى القروض الداخلية يبقى خياراً أكثر تلاؤماً مع حالة الواقع المالي الذي يشهده العراق في هذه المرحلة من خلال الاستعانة بالجهاز المصرفي الذي يساعد على تسهيل عملية الاقتراض وفق الشروط والامكانات المحلية المتاحة .

خامسا : تحسـين ادارة الموارد المتعلقة بالمنتجات النفطية المخصصة للاستهلاك المحلي :

هنالك كميات كبيرة من النفط الخام التي تُخصص الى المصافي المحلية لأغراض انتاج المشتقات النفطية لتلبية الطلب المحلي ، وكذلك تزويد محطات الكهرباء بالوقود ، والتي تُقدّر بنحو مليون برميل يوميا . وفي ظل الظروف المالية التي يمّرُ بها البلد في هذه المرحلة ، تتطلب الضرورة تحسين ادارة العوائد المالية الناجمة عن بيع هذه المشتقات لزيادة حصة الموازنة العامة ، فضلا عن تطوير أساليب الانتاج والحوكمة في المصافي النفطية من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي من جميع أنواع المشتقات النفطية والاستغناء عن الاستيرادات التي تُكلّف الموازنة العامة موارد مالية كبيرة ، وايجاد الحلول لمشكلة استيراد الكهرباء وزيادة الاستفادة من استخدام الغاز والطاقة الشمسية في تطوير المنظومة الكهربائية والتخلص التدريجي من الاعباء المالية التي تنجم عن استيراد الكهرباء ، وما يشكّله استمرار هذا الاعتماد من أضرارٍعلى الأمن الاقتصادي والمعنوي للفرد والمجتمع .

سادسا : ترشيد استخدامات العملة الأجنبية :

لقد استخدم البنك المركزي العراقي منافذ بيع العملة الأجنبية كاحدى أدواته لادارة سعر صرف العملة المحلية وكبح جماح الضغوط التضخمية التي تتولّد عن الكم الكبير من الاستيرادات الداخلة الى العراق . وفي ظل واقع الأزمة المالية الحالية التي يشهدها العراق ، فانّ مسألة ترشيد استخدامات العملة الأجنبية والحفاظ على الأرصدة من الاحتياطيات الدولية ، أصبح من الأمور الأكثر ضرورةً من أيّ وقت مضى ، ممّا قد يستوجب اعادة النظر في سياقات العمل المتبعة في منافذ بيع العملة في اطار عملية اعادة تنظيم الاستيرادات والتحويلات المالية ، بشكّلٍ أفضل ، من قبل الجهات المسؤولة ومن خلال التنسيق مع البنك المركزي عبر تفعيل دور دائرة التحويل الخارجي ، من أجل حوكمة التحويلات المالية وترشيد استخدامات العملة الأجنبية ، وفي اطار اعادة النظر في نسب التعريفات الجمركية المفروضة على السلع المستوردة غير الضرورية ، بما يسهم في الحد من الاستيرادات وترشيد استخدام العملة الأجنبية.

انّ الأزمة المالية التي يواجهها العراق ، ينبغي أن تكون فرصة لادخال الاصلاحات الضرورية على منافذ بيع العملة ، واعادة النظر في آلية توظيف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي ، ويمكن أن نشير في هذا المجال الى بعض الملاحظات :

1.وضع وتنفيذ برنامج يقوم على أساس الاستهداف للسلع والمواد المستوردة التي يمكن شمولها بمنافذ بيع العملة ، بما يسهم في الحد من حجم الاستيرادات لبعض الأصناف من السلع والمواد غير الضرورية أو تلك التي يمكن التوسع في انتاجها محليا . ويمثّل مثل هذا الاجراء بديلا أفضل للالغاء الفوري لمنافذ بيع العملة الذي ستكون له تداعيات خطيرة على سعر صرف الدينار العراقي وارتفاع أسعار المستهلك ، وكذلك بديلا مناسبا لخيار تخفيض قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار ، وكمرحلة ضرورية من شأنها أن تُمهّد لالغاء العمل بمنافذ بيع العملة بشكل تدريجي في ضوء الاصلاحات الاقتصادية الهادفة الى تفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية وتعزيز دور المشاريع الانتاجية المحلية في الانتاج الوطني وزيادة مساهمتها في توفير بدائل الاستيرادات ودعم حاجة البلد من العملة الأجنبية .

2.ضرورة أن ترتبط الأهداف المتوخاة من منافذ بيع العملة بمجمل الاجراءات التنظيمية لعمليات الاستيراد ، المتعلقة بفتح الاعتمادات المستندية والتحويلات المالية التي ينبغي أن تجري وفق اجازات الاستيراد المرتبطة بالمناهج الاستيرادية السنوية التي تشتمل على الكميات والنوعيات من السلع التي يحتاجها العراق . ومن ثم فانّ هنالك حاجة ماسة لتفعيل دور مناهج الاستيرادات السنوية في اعادة تنظيم الاستيرادات وفق سياقات تنسجم مع طبيعة ظروف المرحلة ، في اطار تفعيل دور دائرة التحويل الخارجي في البنك المركزي في مجال تنظيم التحويلات المالية ، بما يسهم في ترشيد استخدام العملة الأجنبية وتحقيق الأهداف المرجوّة من منافذ بيع العملة .

3.اصلاح اسلوب توظيف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي التي ما تزال نسبة كبيرة منها تُستثمر في شراء سـندات الخزانة الأمريكية مقابل أسعار فائدة متدنية ، في الوقت الذي يكون الاقتصاد العراقي في أمس الحاجة الى هذه الأموال ، في اطار أنشطة استثمارية حكومية تُسهم في تعزيز دور الدولة الاقتصادي ضمن معايير الاستخدام الأمثل للاحتياطيات الدولية من العملة الأجنبية ، وكذلك للتعويض عن القروض الخارجية التي يلجأ اليها العراق ذات الشروط والتكلفة المرتفعة .

سابعا : زيادة الاستفادة من التعريفات الجمركية المفروضة على السلع المستوردة :

ضمن هذا الاطار هنالك الكثير من الموارد المالية الكامنة التي يمكن تفعيلها وزيادة الايرادات منها ، والتي تتعلق بالتعريفات الجمركية المفروضة على السلع والمواد المستوردة ، حيث تستطيع الدولة زيادة الايرادات الجمركية بما يتناسب مع الكميات الكبيرة من السلع والمواد المستوردة ، من خلال اجراء بعض التعديلات على هذه التعريفات وفرض ضوابط الحوكمة على المنافذ الحدودية . وتُعد مثل هذه الاجراءات ذات أهمية كبيرة لزيادة الايرادات الجمركية ومضاعفة الحصيلة المالية الفعلية الداخلة الى الموازنة العامة للدولة من الكم الكبير من السلع والمواد الداخلة الى العراق ، ونشير في هذا المجال الى المقترحات التالية :

1.اجراء التعديلات اللازمة على قرار مجلس الوزراء المتضمّن تقليص فئات الرسوم الجمركية المفروضة على السلع المستوردة الصادر في عام 2017 ، والذي جعل حدود التعريفات تتراوح بين ( 0,5 ــ 30% ) من قيمة السلع المستوردة ، بدلا من ( 1 ــ 100 % ) الواردة في أصل قانون التعريفة الجمركية رقم (22) لسنة 2010 الذي لم تتمكن الجهات المختصة من تطبيقه بشكل كامل منذ ُ صدورِه بذريعة الانعكاسات المتوقعة على أسعار المستهلك ، رغم توصيات صندوق النقد الدولي بضرورة زيادة الايرادات الضريبية وتخفيض عجز الموازنة .

وفي ظل الظروف المالية التي يواجهها العراق يمكن اللجوء الى اجراء بعض التعديل على التعريفات الجمركية المفروضة على السلع المستوردة بحيث تتراوح بين ( 1 ــ50 % ) بدلا من ( 0,5ــ30% ) ، على أن لا يشمل هذا التعديل التعريفات المفروضة على السلع الضرورية والأساسية ، تمهيدا للوصول الى اكمال التطبيق التام لقانون التعريفة الجمركية رقم (22)  لسنة 2010 في اطار الاصلاحات الاقتصادية والمالية في المرحلة المقبلة .

2.اعادة هيكلة فرض التعريفات الجمركية على المجاميع السلعية ، بما يُسهم في اســتهداف بعض الأنواع من السلع غير الضرورية التي ينبغي الحد من استيراداتها في هذه المرحلة ، وكذلك السلع التي يُمكن التوسّـع في انتاجها عن طريق المشاريع الانتاجية الوطنية لتلبية احتياجات الأسواق المحلية .

3.مراجعة قائمة السلع والمواد المعفاة من التعريفات الجمركية ، والتركيز على تلك الأصناف من السلع والمواد الضرورية والأساسية ، والحد من حالات الاعفاءات التي ليس لها مسـوّغات اقتصادية واجتماعية في اطار هذه المرحلة التي ينبغي أن تشهد اصلاحات مالية واقتصادية لتعزيز دور الضريبة الكمركية في التمويل وحماية المنتجات الوطنية من الاغراق السلعي للأسـواق العراقية .

4.تعزيز ضوابط الحوكمة والسيطرة على المنافذ الحدودية ، حيث تُعد المنافذ الحدودية من المواقع السيادية التي تتطلب من الحكومة المركزية فرض السيطرة وسيادة القانون على جميع الممرات والمعابر المهمة التي تتضمنها هذه المنافذ ، بما ينسجم مع المصالح العليا للبلاد ، حيث تشكّل هذه المنافذ أهمية كبيرة لعبور مختلف السلع والمواد المستوردة ، فلا يكفي أن تكون هنالك قوانين كمركية وتعريفات على السلع الداخلة عبر هذه المنافذ لكي يتحقق هدف زيادة الايرادات الكمركية ، وانّما العامل الأكثر أهمية ، هو مدى قدرة السلطات الكمركية على تطبيق التعريفات المنصوص عليها في القوانين والتعليمات على جميع السلع المشمولة الداخلة دون استثناء ، بحيث يكون هنالك تناسب بين حجم السلع المستوردة الداخلة وبين حجم الايرادات الكمركية المتحققة فعلا للموازنة العامة من هذا الكم الكبير من الاستيرادات الذي يمّر عبر هذه المنافذ على مدار السـنة ، ومن ثم يمكن القول بأنه ما تزال هنالك موارد مالية كامنة يمكن تفعيل دورها وزيادة مساهمتها في تمويل الموازنة العامة ، وكجانب من هذه الموارد ، هو امكانية زيادة الحصيلة المالية من التعريفات الجمركية المفروضة وفق القانون والتعليمات على السلع المستوردة من خلال اجراءات الحوكمة الادارية والمالية في المنافذ الحدودية ، بما يساعد على تحقيق التنظيم الأفضل لتدفقات السلع عبر هذه المنافذ ، وتطبيق نظام للحوافز المادية والمعنوية للعاملين فيها يرتبط بتنفيذ التعليمات وزيادة الايرادات الجمركية الداخلة للموازنة العامة للدولة ، وتطبيق ضوابط صارمة للحد من ممارسات الفساد .

ثامنا : تفعيل تطبيق الاتفاق بين العراق والصين وفق آلية مقايضة النفط بالاعمار :

    على الرغم من وجود بعض الاشكاليات والملاحظات على اتفاق مقايضة النفط بالاعمار بين العراق والصين ، الاّ انّ هذا الاتفاق يُعد الأكثر ملاءَمةً ً في ظل ظروف الأزمة المالية التي يواجهها العراق ، اذ انّ تفعيل تطبيق هذا الاتفاق من شأنه أن يُعوّض عن القصور الحاصل في تلبية متطلبات النفقات الاستثمارية الحكومية بسبب انخفاض الموارد المالية ، وتخصيص ما هو متاح منها لغرض الايفاء بدفع الرواتب والعناصر الضرورية الأخرى من النفقات التشغيلية . وبالتالي فانّ هنالك مسـوّغات مهمة لتفعيل تطبيق هذا الاتفاق نذكر منها ما يلي :

1.انخفاض الطاقة الاستيعابية لتنفيذ التخصيصات الاستثمارية في الموازنات السنوية للدولة من قبل الأجهزة التنفيذية الحكومية حتى في ظل الظروف الاعتيادية ، على الرغم من انّ نسبة هذه التخصيصات هي أقل من 30% من اجمالي التخصيصات المالية الواردة في هذه الموازنات .

2.امكانية الاستفادة من الاتفاق مع الصين لايجاد الحلول لمشاكل تنفيذ المشاريع الاستثمارية في ظل ظروف اشـتداد الأزمة المالية بعد تخصيص ايرادات الموازنة العامة للنفقات التشغيلية ، مع وجود حاجة مُلحّة الى تنفيذ العديد من المشاريع التنموية وتطوير البنى التحتية التي يحتاجها الاقتصاد العراقي ، حيث يمكن تخصيص المزيد من صادرات النفط الى الصين خارج نطاق حصة العراق من صادرات النفط وفق قرار (أوبك +)  بتخفيض الانتاج  ، بما يسهم في توفير موارد مالية مضمونة لدعم الأنشطة الاستثمارية الحكومية اللازمة لتنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية واعادة الاعمار وتطوير البنى التحتية في محافظات العراق ، في اطار تفعيل اقرار مشروع قانون ( مجلس الاعمار ) ، كجهة مهنية مسـتقلة ، ليكونَ جزءاً من وظائفه اعداد البرامج الاستثمارية وادارة عمليات الاتفاق مع الصين وفقا لآلية النفط مقابل الاعمار .