الأمل… السلاح المفقود في حرب كورونا

      التعليقات على الأمل… السلاح المفقود في حرب كورونا مغلقة

سيف الامارة : باحث متخصص بالعلاقات الدولية
باحث مشارك في قسم ادارة الازمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
وصف المؤرخ ابن خلدون – في المقدمة – الطاعون الأسود الذي اجتاح عالم زمانه منتصف القرن الرابع عشر ميلادي بالقول: (( نزل بالعمران شرقًا وغربًا في منتصف هذه المئة الثامنة… الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل…، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل…؛ وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة…، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث!)).
و بعد هذا الوصف الدقيق للطاعون الجارف الذي ذكره ابن خلدون في مقدمته يتبين إن صراع الإنسان مع الأوبئة قد بدأ منذ فجر التاريخ، فهو صراع الوجود الذي تنتهي نتيجته الحتمية بانتصار الإنسان على الأوبئة، ومن دون ذلك الانتصار لا يمكن أن نفسرّ سبب استمرار بقاء الإنسان في الوقت الراهن.
من جهة أخرى فإننا نخلص من وصف ابن خلدون للصورة المرعبة التي ولدها الطاعون الأسود، بأن وباء كورونا لم يكن الوباء الأشد خطرًا في تاريخ البشرية، أي إنه ليس اشد فتكًا من الاوبئة التي شهدتها البشرية في العصور الماضية، بيد إن الذعر الذي يرافق هذا الوباء اليوم لم يكن ناجمًا عن مدى فتكه بقدر ما يرتبط بمدى انتشاره الخارق عالميًا، وهو انتشار يمكن عزوه ببساطة إلى السمة المعولمة للعالم الذي نعيش فيه اليوم مقارنة بالأزمنة الماضية، فالعالم اليوم تنتقل فيه الأزمات المحلية بسرعة إلى أوساط عالمية، كالإرهاب، وتغير المناخ، والأزمات المالية المتعاقبة.
لقد أخذ الناس بالإجراءات الوقائية منذ بداية تفشي وباء كورونا، أملًا في تخطي الوباء، والعودة إلى الحياة الطبيعية، لكن مع مرور الوقت وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتعاظم خطورة الوباء، تلاشى تدريجيًا الأمل بقدرة الإنسان على هزيمة هذا الوباء من خلال إيجاد لقاح له، ويمكن عزو تهافت الأمل إلى عاملين جوهريين هما: طول أمد تفشي الوباء الذي بدأ منذ شهر آذار الماضي، وعدم وجود سقوف زمنية واضحة لنهاية الوباء يقابله تزايد عدد الاصابات والوفيات، فضلًا عن سياسة مناعة القطيع التي تتبعها بعض الدول الأوربية والتي ترتكز أساسًا على دوافع اقتصادية، مبعثها في الغالب مصالح انتخابية تدعو إلى ديمومة عجلة الاقتصاد لتحقيق مكاسب سياسية آنية عبر رسم تصورات لدى الناس تدعو للتعايش مع الوباء، وإن الاصابة به أمرًا حتميًا. لقد قاد تلاشي الأمل الناس في العديد من الدول إلى المزيد من التحلل من الإجراءات الوقائية لمواجهة الوباء، و لاسيما التباعد الاجتماعي، وارتداء الكمامات.
وما زاد في تلاشي الأمل لدى العراقيين وفاة نجم كرة القدم السابق أحمد راضي أثر اصابته بوباء كورونا، مما مدد تيارات اليأس لدى شرائح واسعة من الطبقة المثقفة، بعد أن كانت تلك التيارات متفشية في الأوساط العامة، الأمر الذي جعل من المثقف عاملًا مساعدًا لنشر اليأس، وقتل الأمل، ولعل هذا الوضع ينذر بنتائج مستقبلية خطيرة، عبر اطالة أمد الوباء، وزيادة تكلفته الباهضة، فضلًا عن افقاد الناس البوصلة الحقيقة لرؤية الاحداث و قراءتها، وجعلهم بيئة خصبة للتضليل.
إنّ موجات تلاشي الأمل المتنامية تعبر عن عدم التوصل إلى قراءة تاريخية دقيقة للعلاقة بين الإنسان والأوبئة، إذ إن بداية ظهور الوباء لا بد من أن يلازمها انتشار واسع النطاق، وعجز أولي في قدرة الإنسان على احتوائه، ويرجع ذلك جوهريًا إلى عدم المعرفة الكلية لمضامين الوباء في مراحله الأولية، لكن الأمر المحتم هو أن يقهر الإنسان هذا الوباء في نهاية المطاف، مثلما فعل سابقًا و سيفعل مستقبلًا ، فهذا ما اعتاد عليه إنسان هذه الأرض ولهذا تتفق أغلب التقديرات الدولية الرصينة اليوم في إن تطوير اللقاح سيستغرق مدة من 12 إلى 18 شهرًا، وقد تتوفر الأدوية المضادة للفيروسات في وقت أقرب.
ولعل الأسلوب الأفضل هو التمسك بالإجراءات الوقائية لإبطاء وتيرة تفشي الوباء، وتفادي سيناريو خروج الأمور عن السيطرة، إذ إن أفضل نهج متاح الآن هو اتباع استراتيجية النرويج في تشتيت الوباء، لمنعه من إصابة عدد أكبر من الأهداف. ففي الادبيات العسكرية غالبًا ما تستخدم الجيوش الضعيفة نسبيًا هذه الاستراتيجية من خلال تجنب المعارك الموجهة ضد عدو أكبر، كمحاولة لكسب المزيد من الوقت، حتى يكون العالم مستعدًا لمهاجمة الوباء لاحقًا بالأدوية المضادة للفيروسات، أو الأفضل من ذلك، باستعمال اللقاح.
إن وباء كورونا لا يقل أهمية عن الأحداث الزلزالية التي غيرت شكل العالم كالحرب العالمية الثانية، وانتهاء الحرب الباردة، وأحداث الحادي عشر من أيلول، بل إن الوباء قد نقل ما كان يصوره الادب ((بالشر، والموت، والاوبئة)) إلى حقيقة نعتاشها بشكل يومي، كما تصور ماري شيلي في روايتها (الرجل الأخيرThe Last Man ) التي نشرت في عام 1826، و تحدثت فيها عن مستقبل كوكب الأرض في القرن الحادي والعشرين، وكيف يهاجمه وباء غير معروف يمتد في العالم برمته، ومستهل القرن العشرين في رواية الأمريكي جيم غريس بيت الآفات ( The House of Pests) التي تصور انهيار المجتمع الأمريكي بسبب إصابته بوباء الطاعون في زمن مستقبلي متخيل.
ومثلما هو الحال مع التغييرات الزلزالية التي تحدث في مناطق مختلفة من سطح الكرة الأرضية و تؤدي إلى ظهور عوالم مختلفة، وتولد نتيجة لذلك أنماطًا فكرية جديدة لدى البشر، فإن وباء كورونا يحتم علينا تبني أيضًا أنماطًا فكرية جديدة للتكيف مع العالم الذي ينتجه حاليًا، وهذا ما يرسمه الفيلسوف الأميركي جريجوري فرناندو باباس (Gregory Fernando Pappas) في مقاله المطول بمدونته الشخصية، بقوله: ((لقد تعطل أسلوب حياتنا بالكامل في شتى أنحاء العالم…، وبينما يسعى كثيرون لإنتاج لقاح، علينا أن نفكر فيما بعد ذلك، فهل سنعود لطرق العيش القديمة أم نتعلم دروس الجائحة ونغير عادتنا اليومية؟ إن الطريقة التي نعيش بها ستؤدي لنشوء وباء جديد مرة أخرى…، فهناك حاجة ماسة لإعادة بناء جادة على جميع المستويات، بما في ذلك المؤسسات والسياقات والظروف والعلاقات وحتى الأرواح والقيم، وإن الثورة المطلوبة تتجاوز السياسة واللقاح لتصل للعلاج الجذري الذي يمنع حدوث أوبئة مستقبلية)).
وفي الختام، فإن التغيير الذي ينتجه زلزال كورونا اليوم يحتم علينا الجمع بين متناقضين: واقعية الفكر الطوبائي، وطوبائية الفكر الواقعي، للوصول الى فكر يساعدنا على الخلاص من براكين الأوبئة وهو الجمع الذي يشكل الأمل قاعدته الرئيسة للانطلاق إلى عالم ما بعد كورونا.