تمويل الرواتب بالاقتراض وانعكاساته الاقتصادية في ظل الأزمة المالية في العراق

      التعليقات على تمويل الرواتب بالاقتراض وانعكاساته الاقتصادية في ظل الأزمة المالية في العراق مغلقة

 

ا. د. عدنان حســين الخياط / باحث مشارك في قسم ادارة الأزمات

مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء

17 تشرين الاول2020

لم تكن الأزمة المالية التي يمّر بها العراق والتي بلغت حد العجز عن الايفاء بدفع الرواتب ، حالةً مفاجئة للمختصين والمتابعين للأحداث والتطورات الاقتصادية التي جرت في العراق ، وما بلغهُ الاقتصاد العراقي من اعتمادٍ شديد على ايرادات النفط بعد عام 2003 ، وتراجع دور ومساهمة القطاعات السلعية الانتاجية ( الصناعية والزراعية ) وعدم تفعيل الأنشطة الاقتصادية الأخرى ذات الأهمية في التنويع الاقتصادي واستخدام قوة العمل ، في ظل الزيادة الكبيرة في أعداد الموظفين والمتقاعدين والمنتسبين الى القطاع الحكومي . اذ تقدّر الأعداد التي تحصل على رواتب وأجور من الدولة بنحو (6,5) مليون نسمة لعدم توفّر فرص العمل خارج نطاق القطاع الحكومي ، وبقيمة رواتب وأجور تقدّر بنحو (4,5) مليار دولار شهريا ، أي نحو (65) تريليون دينار سنويا .

لقد شـكّلت هذه الأعداد من المنتسبين والمحسوبين على فقرة الرواتب والأجور الحكومية معضلةً كبيرة أدّت الى تضخيم حجم النفقات التشغيلية في الموازنات السنوية للدولة ، حيث تقدّر فقرة الرواتب والأجور بما يزيد عن 80% من اجمالي النفقات التشغيلية التي تشكّل بدورها ما يزيد عن 70% كمتوسط من اجمالي النفقات العامة . ومن ثم فقد أصبحت عملية اعداد وتنفيذ الموازنات السنوية تتركز بشكلٍ أساس في كيفية الاستجابة وتلبية النفقات التشغيلية ، وتوفير الرواتب والأجور على وجه الخصوص ، على حساب تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في دعم وتشجيع الاستثمارات وتفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية ، وما ينبغي أن توفّرهُ الاستثمارات الحكومية من دفعةٍ قوية للاستثمارات الخاصة وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية .

انّ جزءاً مهماً من معضلة الرواتب والأجور الحكومية ، لا تتمثّل فقط في أصل الرواتب والاجور الحقيقية ، على الرغم ممّا حصل من زيادة كبيرة في التعيينات وعمليات التوظيف الحكومي غير المنضبطة ، وانّما في الحالات الوهمية والأعداد الاضافية التي أصبحت تتقاضى رواتب أو تحصل على أكثر من راتب من مزدوجّي الرواتب ، حيث أصبحت هذه الظواهر التي يجري بعضها خارج نطاق الضوابط المتعلقة بالتعيين والتوظيف الحكومي ، تشكّل معضلة اضافية مركّبة أدّت الى تفاقم أصل المعضلة التي تتمثّل في اتساع أعداد المنتسبين للقطاع الحكومي وازدياد حالة الترهّل في وزارات الدولة ومؤسساتها ودوائرها المختلفة .

وفي ظل الواقع الحالي لسوق النفط العالمية ، نلحظ بأنّ مستويات أسعار النفط أصبحت تتراوح عند حدود (40) دولارا للبرميل أو مايزيد قليلا عن ذلك وفقا لمؤشر ( مزيج برنّت ) ،  استنادا الى حالة الطلب العالمي على النفط والتي تأثّرت كثيرا نتيجة التداعيات الاقتصادية والانكماش الاقتصادي العالمي الذي نجم عن ( أزمة كورونا ) والتي يمكّن أن تستمر تأثيراتها الاقتصادية خلال عام 2021 . ومن ثم فانّ صادرات العراق من النفط سوف تكون في حدود (3) مليون برميل يوميا خلال الربع الأول والثاني من السنة المقبلة على أفضل تقدير ، استنادا الى قرار تخفيض الانتاج ( لأوبك + ) والذي من المحتمل أن يستمر في ظل ظروف استمرار انخفاض أسعار النفط والركود الاقتصادي العالمي .

انّ صدمة انخفاض الأسعار والطلب العالمي على النفط ، قد أدّت الى توليد ضغوط شديدة على الموازنة العامة في العراق وذلك لاعتمادها بما يزيد عن 93% من اجمالي الايرادات العامة على الصادرات النفطية في ظل غياب صناديق للثروة السيادية والاستثمارات الحكومية المدّرة للدخل ، وتدني حصيلة الايرادات الضريبية ومصادر الايرادات الحكومية الأخرى الداخلة الى الموازنة العامة للدولة . وبذلك فانّ المستوى الذي وصل اليه الانفاق التشغيلي الحكومي على الرواتب والأجور ، قد جعل من ايرادات النفط وضآلة مصادر الايرادات الأخرى غير كافية للايفاء بمتطلبات الواقع الحالي من مستحقات الرواتب والأجور الحكومية .

فعلى وفق فرضية بأنّ العراق يتمكّن من تصدير (3) مليون برميل يوميا من النفط ، وبسعر (40) دولارا للبرميل كمتوسط لفترةٍ زمنية معينة ، وهيَّ فرضية متفائلة ، حيث انّ النفط العراقي غالبا ما يباع بسعر أدنى من سعر ( مزيج برنّت ) ، كما انّ متوسط صادرات العراق النفطية وفقا لمعطيات شهر أيلول 2020 كانت في حدود (2,613 ) مليون برميل يوميا ، ومتوسط الايرادات لهذا الشهر نحو ( 105,581 ) مليون دولار يوميا[1] . ومع ذلك فانّ حصيلة الايرادات من صادرات النفط وفق الفرضية المتفائلة تكون في حدود (120) مليون دولار يوميا ، أي نحو (3,600) مليار دولار شهريا ، وهذا المبلغ لن يكونَ كافياً لدفع مستحقات القوائم الحالية من الرواتب والأجور التي تقدّر بنحو (4,500) مليار دولار شهريا . واستنادا الى سعر افتراضي لبرميل النفط يبلغ (42) دولار تم وضعهُ في موازنة 2021 ، والاحتمالات المتوقعة بارتفاع أسعار النفط الى مستوى (45) خلال الربع الأول من عام 2021 ، فانّ حجم الايرادات النفطية في الموازنة العراقية سوف لن يتأثر كثيرا خلال السنة المالية المقبلة .

فاذا كان هذا المستوى من الأزمة قد أصبح يؤدي الى عدم كفاية الايرادات العامة للدولة العراقية في تلبية المستحقات من الرواتب والأجور ، وهيَّ التي تُعد جزءا من النفقات التشغيلية ، فكيّف الحال في تلبية بقيّة العناصر الأخرى من النفقات العامة ، سواء ما يتعلق بعناصر النفقات التشغيلية الضرورية الأخرى ، كالانفاق على الأدوية والمستلزمات الطبية التي يحتاجها القطاع الصحي وغيرها من النفقات التشغيلية الحاكمة ، أو ما يتعلق بالنفقات الاستثمارية اللازمة لاكمال المشاريع المتلكئة التي تحتاج اليّها محافظات العراق ؟

انّ ســنواتٍ طويلةً ًمن الفشل التنموي في العراق والاعتماد الكبير على ايرادات النفط دون مصادر الايرادات الأخرى ، في ظل اهمالٍ واضح للقطاعات الانتاجية الحقيقية ، والتركيز على زيادة الاستيرادات عوضاً عن تطوير الانتاج الوطني وتشغيل المعامل والمشاريع الصناعية والزراعية المحلية ، قد جعل من صدمة انخفاض أسعار النفط ذات تأثيراتٍ شديدة على امكانات الدولة المالية والاقتصادية ، وأدى الى توليد تحدياتٍ حقيقية على مستوى معيشة المجتمع وأمنهِ الاقتصادي .

والملاحظ انّ التراكمات من ممارسات الفساد والفشل في ادارة الموارد الاقتصادية المتاحة ، قد أدى الى خلق صعوبات اضافية أمام اجراءات الاصلاح لمواجهة الأزمة المالية الحالية ، ومن ثم فقد كان اللجوء الى القروض الداخلية والخارجية هو الملاذ الأسهل من أجل تدبير المستحقات الشهرية من الرواتب ، حيث جاء قانون الاقتراض المحلي والخارجي رقم (5) لسنة 2020 الذي تم اقراره والمصادقة عليه من قبل مجلس النواب في 24|6|2020 ، والذي سمح في مادتهِ الأولى باقتراضٍ داخلي قدره (15) تريليون دينار واقتراض خارجي قدره (5) مليار دولار ، على أن تخصص نسبة لاتقل عن 15% من كافة القروض للمشاريع الاستثمارية وتنمية الأقاليم . وكان ضمن الأسباب الموجبة لهذا القانون تسهيل تمويل النفقات العامة الضرورية ، وكاجراءٍ عاجل من أجل التمكّن من دفع رواتب بعض الأشهر ، وقد نصّت المادة (7) من قانون الاقتراض على ضرورة قيام مجلس الوزراء بتقديم برنامج للاصلاح الاقتصادي خلال فترة لاتتجاوز (60) يوما من تاريخ اقرار هذا القانون .

انّ العراق ما يزال مديناً بقروضٍ خارجية تعود لما قبل عام 2003 ولم تجرِ تسويتها بشكلٍ كامل على الرغم من عمليات اعادة الجدولة واطفاء نسبةٍ منها في اطار المفاوضات التي جرت مع نادي باريس في أعقاب التغيير الذي حصل في العراق ، فضلا عن قروضٍ خارجية أخرى تمّت بعد هذا التاريخ عند كل صدمةٍ من صدمات انخفاض أسعار النفط . كما انّ تعويضات الكويت ما تزال بقاياها ماثلةً على الرغم من مرور هذه المدة الطويلة منذ عام 1990 وحتى الوقت الحاضر . فضلا عن الديون الداخلية التي ماتزال خدماتها من الأقساط والفوائد المستحقة تندرج ضمن المدفوعات المالية في الموازنات السنوية للدولة .

وتشير مصادر المعلومات ، بأنّ اجمالي حجم الدين العراقي الداخلي والخارجي يبلغ في حدود (134,4) مليار دولار ، (25) مليار دولار منها ديون خارجية من بقايا تسوية ديون نادي باريس ، كما انّ هنالك ديون لدول من خارج اتفاقية نادي باريس لسنة 2004 تبلغ قيمتها نحو (43) مليار دولار تخضع لشروط الاتفاق مع النادي ما تزال دون شطب رغم كونها تعود لسنوات قبل عام 1990 ، وهذه الديون ينبغي شطب 80% منها اذا كانت صحيحة مع اعادة جدولة الباقي منها . كما أنّ هناك ديون خارجية أخرى تمّت بعد عام 2003  نتيجة الأزمات المالية والحاجة الى الأموال . فضلا عن انّ هناك الديون الداخلية التي تبلغ قيمتها نحو (60) مليار دولار ، والتي تمثل ديونا بين وزارة المالية والجهاز المصرفي الحكومي ممثلا بالبنك المركزي العراقي ومصرفي الرافدين والرشيد والمصرف العراقي للتجارة[2] .

وفي ضوء قانون الاقتراض المحلي والخارجي رقم (5) لسنة 2020 ، فانّ حجم الديون الاجمالية سوف يرتفع باضافة ما يقرب من (17,600) مليار دولار جديدة تضمّنها قانون الاقتراض لغاية حزيران 2020 ، ليبلغ اجمالي حجم الديون الداخلية والخارجية نحو (152) مليار دولار . ومع حصول هذه الزيادة في حجم الديون والتراجع الحاصل في قيمة الناتج المحلي الاجمالي بسبب انخفاض أسعار النفط وكميات التصدير ، فانّ ديون العراق باتجاه تجاوز النسبة المعيارية الدولية التي تبلغ 60% من الناتج المحلي الاجمالي بمدياتٍ بعيدة في حالة الاستمرار بعمليات الاقتراض دون اللجوء الى اجراءاتٍ حقيقية عاجلة للاصلاح المالي والاقتصادي .

انّ الاقتراض في الحالة العراقية في ظل ظروف الأزمة الراهنة لم يُعد أداةً لتمويل مشاريع تنموية أو تطوير لخدماتٍ اجتماعية ، وانّما أصبح الجانب الأساس فيه المساعدة في تلبية المستحقات من الرواتب والأجور التي يستوجب على الدولة دفعها في كل شهر ، وهيَّ حالة تبدو غريبة ضمن مضامين وأدبيات المالية العامة للدولة ، وما هو عليه الحال في البلدان النفطية الأخرى في المنطقة التي استطاعت تنويع مواردها المالية بصناديق ثروة سيادية وزيادة الاهتمام بتطوير مصادر الايرادات غير النفطية ، ممّا مكّنها من التحوّط من التأثيرات السلبية التي تنجم عن صدمات انخفاض أسعار النفط  بخلاف الواقع الذي أصبح يواجههُ العراق ، ممّا يشير الى مدى جوانب الخلل والهشاشة التي بلغها الاقتصاد العراقي .

انّ الاستمرار في عمليات الاقتراض لتمويل مستحقات الرواتب ، يمكّن أن يؤدي الى توليد انعكاسات اقتصادية خطيرة تزيد من حدّة المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد العراقي أصلا ، سواء فيما يتعلق بالاقتراض المحلي أو الاقتراض الخارجي في ظل الواقع الاقتصادي الراهن واستمرار الاعتماد الشديد على ايرادات النفط : ــ

أولا :  على صعيد اللجوء الى الاقتراض المحلي : الملاحظ انّ مثل هذا الاقتراض لم يكن من تعبئة مدخرات محلية لدى فئات من المجتمع والاستفادة من الكتلة النقدية الفائضة التي تشكّل نسبة كبيرة من حجم الاصدار النقدي والتي أصبحت تُكتنز في المنازل بعيدا عن متناول المصارف الحكومية والأهلية التي يزيد عددها عن (80) مصرفا ، وذلك لأسبابٍ ليست بعيدةً عن الواقع الاقتصادي وغياب فرص الاستثمارات الحقيقية وعدم مسايرة الجهاز المصرفي للتطورات الحاصلة في الأنظمة المصرفية في الدول الأخرى ، وكذلك لعوامل تتعلق بضعف ثقة الجمهور بالمصارف وعدم تشريع قانون رصين لضمان الودائع . وقد أسهمت هذه العوامل في اضعاف حجم السيولة النقدية المتاحة في هذه المصارف وتحجيم قدرتها على منح الائتمانات المصرفية ، سواء ما يتعلق بالقروض الحكومية أو القروض الممنوحة للقطاع الخاص والأفراد . كما يواجّه اسلوب اصدار السندات الحكومية لغرض عقد القروض المحلية ، صعوباتٍ في ترويج بيعها للجمهور لذات العوامل المتعلقة بضعف المركز المالي للدولة ، ولطبيعة المشاكل المتراكمة التي تعاني منها المصارف المحلية .

ومن ثم فانّ ضعف حجم السيولة النقدية في المصارف المحلية ، جعل من البنك المركزي الملجأ الأساس للاقتراض الحكومي وأصبح العبء الأكبر من الأموال المقترضة يقع على الرصيد الذي يمتلكهُ البلد من الاحتياطيات الدولية من العملة الأجنبية الداعمة لسعر صرف الدينار العراقي ، ممّا يؤول الى استنزاف هذه الاحتياطيات في حالة استمرار السحب منها ويزيد من احتمالات التوجّه نحو اسلوب التمويل من خلال الاصدار النقدي الجديد ضعيف الغطاء ، ومن شان ذلك أن يؤدي الى توليد ضغوط حقيقية على سعر صرف العملة المحلية وأسعار المستهلك المرتبطة بالاستيرادات . وبذلك فانّ الاحتياطيات الدولية من العملة الأجنبية لدى البنك المركزي أصبحت تواجّه العديد من التحديات : ــ

1.انخفاض حجم الايرادات النفطية بسبب انخفاض أسعار النفط وكميات التصدير .

2.استمرار البنك المركزي في بيع الدولار من خلال نافذة بيع العملة ، حيث بلغت الكميات المباعة ، كمتوسط لشهر أيلول 2020 بما زاد عن (200) مليون دولار يوميا[3] ، ويفوق هذا المبلغ كثيرا ايرادات النفط اليومية التي حصل عليها العراق والتي كانت في حدود (105,581) مليون دولار يوميا ، كمتوسط لأيام الشهر نفسهِ ، ممّا يعني السحب من الاحتياطيات الدولية .

3.حاجة الدولة الى الأموال وزيادة حجم الاقتراض المحلي والذي أصبح في حدود (75) تريليون دينار عند اضافة حجم الاقتراض المحلي بموجب قانون الاقتراض رقم (5) لسنة 2020 ، وهو ما يشكّل منفذا آخر من منافذ التسرب في الاحتياطيات الدولية في ظل استمرار الحاجة الى الاقتراض .

ثانيا : التمويل من خلال الاقتراض الخارجي :  يختلف الاقتراض الخارجي عن الاقتراض الداخلي من حيث الآثار الأولية التي تترتب على الاحتياطيات الدولية وحساب رأس المال في ميزان المدفوعات للبلد المقترض ، حيث تسهم القروض الخارجية في زيادة حجم العملة الأجنبية الداخلة الى الاقتصاد والتي يجري تنقيدها بالعملة المحلية من قبل البنك المركزي وتحويلها مرةً أخرى الى وزارة المالية لتعزيز جانب الايرادات في الموازنة العامة للدولة لتغطية النفقات الضرورية ، ومنها دفع الرواتب والأجور ضمن الحالة العراقية في ظل الأزمة . ومن ثم فانّ الأثر الأولي للقروض الخارجية عند استلام مبلغ القرض ، انّهُ يشكّل أثرا ايجابيا على حجم الاحتياطيات الدولية وعلى الجانب الدائن في حساب رأس المال ضمن ميزان المدفوعات باعتبارهِ يمثّلُ تمويلا خارجيا بالعملة الأجنبية .

الاّ انّ هذا الأثر الايجابي الأولي لايُعدُ أثرا نهائيا ، اذ غالبا ما تكون هنالك آثار نهائية سلبية تتشكّل وتبرز خطورتها عبر سنوات خدمة الدين ، حيث تكون القروض الخارجية في الغالب ، طويلة أو متوسطة الأجل ، ومن ثم فانّ المستحقات السنوية من خدمة الدين الخارجي والتي تتمثّل في أقساط الدين وفوائدهِ ، من شأنها أن تشكّل أعباءا مالية اضافية على كاهل الموازنة العامة وميزان الحساب الجاري في ميزان المدفوعات وعلى حجم الاحتياطيات الدولية في البنك المركزي من جراء الاستمرار بالتزامات سداد الديون الخارجية بالعملة الأجنبية . وبذلك فانّ عملية تراكم الديون الخارجية من حيث آثارها النهائية من شأنها أن تؤدي الى خلق تأثيرات سلبية أوسع نطاقا باضافة المستحقات من الفوائد المترتبة على هذه الديون ، فضلا عمّا تتضمنهُ القروض الخارجية من شروطٍ أخرى تفرض من الخارج .

انّ ما يمكّن أن يقلل من هذه التأثيرات السلبية للقروض الخارجية على الاقتصاد الوطني ، هو أن تكون هنالك بيئة سياسية واقتصادية صالحة لتوظيف أموال القروض في مشاريع تنموية حقيقية تسهم في تراكم وتعزيز الموجودات من مشاريع الخدمات العامة والأنشطة الاستثمارية للقطاع الخاص تؤدي الى تنويع ايرادات الدولة المالية وتمكينها من الايفاء بديونها ، ومن شان ذلك أن يساعد على ضمان سلامة الموارد وأموال القروض وسلامة الجدارة الائتمانية للبلد المقترض .

ومن ثم فانّ من الأمور المتفق عليها بين معظم المعنيين والمتخصصين بشؤون المالية العامة ، هو انّ أموال القروض العامة لاتصلح للاستخدام في مجال الانفاق الاستهلاكي ، ويزداد الأمر صعوبةً ، من حيث الآثار والنتائج المستقبلية المتعلقة بسـداد القروض ، في حالة استخدام أموال القروض الخارجية في دفع الرواتب لأعداد من المنتسبين والمحسوبين على الرواتب ضمن قطاع حكومي يعاني أصلا من الترهّل والزيادة في الأعداد التي تقترب انتاجية بعضهم من الصفر ، في ظل تدني مستوى الأداء الوظيفي وما يكتنف القطاع الحكومي من بطالة مقـنّـعة شديدة تنتظر الاصلاح المالي والاداري الذي تطالب به المؤسسات المالية الدولية المعنيّة بشؤون القروض الخارجية .

ونلحظ من خلال ورقة الاصلاح المالي التي قُـُدمّت مؤخرا الى مجلس النواب والتي سـميّت ب ( الورقة البيضاء ) ، انّه على الرغم من كونها تضمنت العديد من الجوانب التفصيلية المتعلقة بحالة الاختلالات التي يعاني منها الاقتصاد العراقي وطرح الكثير من المقترحات من أجل النهوض بالواقع الاقتصادي ، وهي طروحات مهمة يمكّن أن تكون ضمن برامج اقتصادية تُؤسس لعملية اصلاح مالي واقتصادي للمرحلة المقبلة في الأمدين المتوسط والطويل.

الاّ انّ ما نحتاج اليه الآن والذي خلّت منهُ الورقة البيضاء ، هو اجراءات آنية قصيرة الأمد من شأنها احداث زيادة عاجلة في الايرادات غير النفطية لمواجهة أزمة توفير الأموال اللازمة لدفع الرواتب والأجور وتقليل الحاجة الى الاقتراض المحلي والخارجي . ويبدو من خلال تقديم ( مشروع قانون تمويل العجز المالي ) الى مجلس النواب للأشهر القادمة ، والذي تضمّن طلب الموافقة على اقتراض نحو (41,600 ) تريليون دينار ، اضافةً الى قانون الاقتراض المحلي والخارجي رقم (5) الذي تم اقرارهُ والمصادقة عليه ، انّ حلول اجراءات الأمد القصير ماتزال غائبة عن متضمّنات الاصلاح المالي والاقتصادي التي يحتاج اليّها الاقتصاد العراقي .

انّ من جملة الاجراءات الآنية اللازمة للحد من تداعيات الأزمة المالية الراهنة ، هو ضرورة البحث في السبل الكفيلة بضغط النفقات ، وعلى فرض بأنّ هذا الاجراء قد تمّت معاملتهُ في سياق التخصيصات المالية والنفقات الحكومية ، فانّ الجانب الآخر المهم يبقى متعلقا بزيادة الايرادات غير النفطية ، حيث تمثّل الايرادات الضريبية المصدر الأهم لهذه الايرادات التي ماتزال تشكّل نسبة متدنية من اجمالي الايرادات العامة ، فضلا عن انخفاض نسبتها من الناتج المحلي الاجمالي بخلاف ما تشكّلهُ الضرائب من أهمية في معظم دول المنطقة النفطية وغير النفطية ، فضلا عن دول العالم الأخرى .

انّ الزيادة في حصيلة الضرائب ينبغي أن تتضمن الضرائب المباشرة والضرائب غير المباشرة ، واذا كانت الايرادات من الضرائب المباشرة ( الضرائب على الدخل والثروة ) ، أصبحت تعاني من انخفاض الحصيلة الضريبية في ظل تراجع دور القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية وانخفاض مستويات الدخول ، وكثرة الاعفاءات وضعف الحوكمة في ضبط الأوعية الضريبية التي ينبغي أن تخضع للضريبة وما يرتبط بذلك من حالات تهرب ضريبي تؤدي الى انخاض حصيلة الضرائب المباشرة ، الاّ انّ ظروف المرحلة تتطلب تحسين أداء الادارة الضريبية والمساهمة الفعالة في ضبط الأوعية الضريبية والحد من حالات التهرب الضريبي لزيادة حصيلة هذه الضرائب .

كما تُعدُّ الضرائب غير المباشرة ( الضرائب على السلع ) وعمودها الفقري المتمثّل بالضرائب الكمركية ضمن الحالة العراقية الشديدة الاستيرادات ، الوعاء الأكثر سـعةً ً لحصيلة ضرائب كمركية في اطار تطبيق قانون رصين للتعرفة الكمركية مع وجود حوكمة وادارة صالحة في تحصيل الايرادات .

واستنادا لما تقدم هنالك العديد من الاجراءات التي لها صفة الأمد القصير والتي تساعد في تحقيق زيادة عاجلة في حصيلة الايرادات غير النفطية وتقليل الحاجة الى الاقتراض ، وفيما يلي بعضاً من هذه الاجراءات :ــ

أولا : الغاء قرار مجلس الوزاء رقم (393) لسنة 2017 المتضمّن تقليص فئات الرسوم الى أربع فئات ، والتعويض عن ذلك بالتطبيق الكامل لقانون التعرفة الكمركية رقم 22 لسنة 2010 ، بعد اجراء بعض التعديلات الضرورية على هيكل التعريفات المفروضة على المجاميع السلعية من خلال قرار جديد من مجلس الوزراء ووفق مقترحات تقدم من وزارة المالية بالتنسيق مع الهيأة العامة للكمارك ، وهو ما يسمح به قانون التعرفة في مادتهِ ( 2 ــ أولا ) ، بما يسهم في زيادة حصيلة الايرادات الكمركية والحد من استيراد بعض السلع ، ومن التعديلات المقترحة في هذا المجال : ــ

1.زيادة أعداد السلع في الحدود العليا لنسب التعريفات الكمركية من المجاميع السلعية التي تتوفر لها نسب عالية من التغطيّة من المنتجات المحلية ، وفقا لتقارير الموازين السلعية لوزارة التخطيط ، وكذلك من السلع غير الضرورية التي يمكّن تقليص الاستيرادات منها . فالملاحظ انّ نسبة التعرفة الكمركية 100% التي جاءت في قانون التعرفة الكمركية رقم 22 لسنة 2010 ، لم تشمل سوى سلعتين فقط  ليس لهما أهمية ، كما انّ نسبة 80% لم تشمل سوى (16) سلعة ، و (23) سلعة مشمولة بنسبة 50% ، من اجمالي عدد السلع المفروضة عليّها التعريفات والبالغة (6937) سلعة ، كما انّ هنالك ( 692 ) سلعة تم شمولها بنسبة تعرفة (صفر) مماّ يعني انّ نسبة الاعفاءات في القانون قد بلغت نحو 10% من اجمالي السلع التي فُرضّت عليها التعريفات[4] . الأمر الذي يتطلب اعادة هيكلة توزيع نسب التعريفات المفروضة على المجاميع السلعية وفق اجراءات قصيرة الأمد ، بما يسهم في تحقيق الأهداف التمويلية والتنموية والاستجابة بشكلٍ أفضل لمتطلبات توفير السلع الأساسية والضرورية التي يحتاج اليها المجتمع ، فضلا عن تحقيق زيادة في الايرادات الكمركية تقترب من المعايير المطبقة في دول المنطقة والتي يصل متوسط نسب التعريفات المفروضة على السلع المستوردة في معظمها نحو 20% من قيمة الاستيرادات . ومن شأن مثل هذه التعديلات أن تساعد على بلوغ حصيلة الايرادات الكمركية الى نحو تريليون دينار شهريا ، أي (12) تريليون دينار سـنويا ، في ضوء ما تشهدهُ الأسواق العراقية من استيرادات تصل قيمتها الى نحو (60) تريليون دينار سـنويا ، مع امكانية زيادة هذه الحصيلة في ضوء اجراءات السيطرة والحوكمة في المنافذ الحدودية .

2.مراجعة الضوابط المتعلقة بمنح الاعفاءات الكمركية والعمل على ترشيد وحوكمة هذه الاعفاءات وحصرها في المجالات التي يكون لها مسوّغات حقيقية تتعلق بتوفير مواد أولية ومستلزمات للمشاريع الانتاجية المحلية ، أو توفير سلعٍ ضرورية مثل الأدوية ، والتي ليس لها نسب كافية من التغطيّة من المنتجات المحلية .

3.تطبيق اجراءات للسيطرة على المنافذ الحدودية وتنظيم عمليات ادخال السلع في اطار تطبيق آليات جديدة تساعد على تسهيل معاملات التخليص الكمركي وفق منهج النافذة الواحدة ، ومن خلال برامج لأتمتة المعاملات وتطبيق الجباية الألكترونية في تحصيل الايرادات الكمركية المفروضة على السلع المستوردة .

4.تطوير أساليب و اجراءات التدقيق في المستندات والوثائق المتعلقة بالسلع المستوردة ، من أجل ضبط الكميات والأنواع والقيّم الحقيقية للسلع الداخلة عبر المنافذ الحدودية ، والمقاييس المستخدمة في تحديد مبالغ الضريبة التي تفرض على هذه السلع وفقا للتعريفات الواردة في القانون .

ثانيا : حوكمة ادارة الايرادات المالية المتعلقة ببيع المنتجات النفطية

هنالك كميات كبيرة من النفط الخام التي تُخصص الى المصافي المحلية لأغراض انتاج المنتجات النفطية لتلبية الطلب المحلي ، وكذلك تزويد محطات الكهرباء بالوقود ، والتي تُقدّر بنحو (644) ألف برميل يوميا وفق الأرقام المعلنة لوزارة النفط ، واذا ما أخذنا بهذه الكمية من التجهيز ، فانّ قيمتها كنفط خام تعادل نحو (772,800) مليون دولار شهريا وفق سعر برميل (40) دولار ، كما تكون هنالك قيمة مضافة تسهم بها المصافي من خلال تحويل النفط الخام الى منتجات نفطية من شانها أن تزيد من القيمة النهائية لبرميل النفط عند بيع المنتجات النفطية بما يصل بقيمة البرميل الى نحو (50) دولارا على أقل تقدير في ظل الأسعار الحالية ، وهو ما يعني امكانية تحقيق ايرادات من بيع المنتجات النفطية تقترب من حدود المليار دولار شهريا ، وبما يعادل تريليون دينار . وفي ظل الظروف المالية التي يمّرُ بها البلد ، تتطلب الضرورة تحسين ادارة الايرادات المالية الناجمة عن بيع هذه المنتجات ومعرفة ما يدخل منها ضمن الموازنة العامة للدولة ، باعتبار انّ الكلف التشغيلية للمصافي المحلية ورواتب العاملين ينبغي أن تُعدُّ جزءا من التخصيصات المالية التشغيلية الواردة في الموازنات السنوية ، ومن ثم فانّ الايرادات المتحققة من قبل أية وزارة لابد أن تسهم في زيادة ايرادات الموازنة العامة وتكون جزءا منها .

ثالثا : ترشيد استخدامات العملة الأجنبية ومراجعة سعر الصرف للعملة المحلية

لقد استخدم البنك المركزي العراقي نافذة بيع العملة الأجنبية كاحدى أدواته لادارة سعر صرف العملة المحلية وكبح جماح الضغوط التضخمية التي تتولّد عن الكم الكبير من الاستيرادات الداخلة الى العراق . وفي ظل واقع الأزمة المالية الحالية التي يشهدها العراق ، فانّ مسألة ترشيد استخدامات العملة الأجنبية والحفاظ على الأرصدة من الاحتياطيات الدولية ، أصبح من الأمور الأكثر ضرورةً من أيّ وقت مضى ، ممّا يستوجب اعادة النظر في سياقات العمل المتبعة في نافذة بيع العملة والحد من التأثيرات السلبية التي تمارسها الحلقات الوسيطة على سعر الصرف في السوق الموازي في اطار عملية اعادة تنظيم الاستيرادات والتحويلات المالية ، بشكّلٍ أفضل ، وامكانية تفعيل دور دائرة الرقابة على التحويل الخارجي في البنك المركزي ، من أجل حوكمة التحويلات المالية وترشيد استخدامات العملة الأجنبية ، في اطار اجراءات الاصلاح المتعلقة باعادة النظر بنسب التعريفات الكمركية المفروضة على السلع المستوردة غير الضرورية ، بما يسهم في الحد من الاستيرادات وتقليل الطلب على العملة الأجنبية .

انّ الأزمة المالية التي يواجهها العراق ، ينبغي أن تكون فرصة لادخال الاصلاحات الضرورية على نافذة بيع العملة ، واعادة النظر في آلية توظيف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي ، ونشير في هذا المجال الى بعض الملاحظات : ــ

1.وضع وتنفيذ برنامج يقوم على أساس الاستهداف للسلع والمواد المستوردة التي يمكّن شمولها بنافذة بيع العملة ، بما يسهم في الحد من حجم الاستيرادات لبعض الأصناف من السلع والمواد غير الضرورية أو تلك التي يمكّن التوسع في انتاجها محليا . ويُعدُّ هذا الاجراء كمرحلة ضرورية ضمن اجراءات الأمد القصير والتي تُمهّد لالغاء العمل بنافذة بيع العملة بشكل تدريجي في ضوء الاصلاحات المالية والاقتصادية الهادفة الى تفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية وتعزيز دور المشاريع الانتاجية المحلية في الانتاج الوطني وزيادة مساهمتها في توفير بدائل الاستيرادات .

2.تعزيز دور السياسة النقدية في تمويل العجز المالي والحد من تداعيات الأزمة المالية ، ممّا يتطلب عملية مراجعة مدارة لسعر صرف العملة المحلية بما يسهم في تقليل الكُلف المالية التي يتحمّلها الاقتصاد الوطني من جراء استمرار الاعتماد على سعر الصرف المغالى به للعملة المحلية ضمن اجراءات للسيطرة على الضغوط التضخمية وتأمين مستلزمات الطلب على السلع الضرورية ، في اطار توجهات الاصلاح المالي والاقتصادي الهادفة الى تقليل الاستيرادات وتوفير الظروف الملائمة لاعادة تشغيل المعامل والمشاريع الانتاجية الوطنية .

3.اصلاح اسلوب توظيف الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي التي ما تزال نسبة منها تُستثمر في شراء سـندات الخزانة الأمريكية مقابل أسعار فائدة متدنية ، في الوقت الذي يكون الاقتصاد العراقي بحاجة الى هذه الأموال لتعزيز الأنشطة الاستثمارية للموارد الوطنية ضمن صندوق ثروة سيادية ومعايير الاستخدام الأمثل للاحتياطيات الدولية في دعم الاقتصاد الوطني.    

[1] انظر : بيانات كميات تصدير النفط العراقي والأسعار لشركة ( سومو ) لشهر أيلول 2020 ــ الموقع الألكتروني :                         www . somooil . gov . iq

[2] د. مظهر محمد صالح : ( ملاحظات خاطفة حول الدين العام العراقي 2020 ) ، شبكة الاقتصاديين العراقيين | الموقع : ــ             www . iraqieconomists . net

[3] نافذة بيع العملة للبنك المركزي العراقي | على الموقع :       q   all  <   currency   —   auction <  cbi . i

 

[4] انظر : الجداول المتعلقة بنسب التعريفات المفروضة على المجاميع السلعية وفق قانون التعرفة الكمركية رقم (22) لسنة 2010 ــ الجزء الثاني ــ المنشور في الوقائع العراقية | العدد (4170) ، كانون الأول 2010 .