قانون معادلة الشهادات يقرع ناقوس الخطر من جديد

      التعليقات على قانون معادلة الشهادات يقرع ناقوس الخطر من جديد مغلقة

 

بقلم : ا.د. سامر مؤيد عبد اللطيف
مركز الدراسات الاستراتيجية

بالعلم والقانون تبنى الاوطان وتحمى وتتقدم ، وبالجهل والفساد تنقض عرى هذه الاوطان وتضيع في غياهب التخلف والفوضى والنسيان ، حتى وان كانت قد قطعت شوطا طويلا في الحضارة والرقي . وعندما يتسيد الجاهل والفاسد ، يحل الخراب وتدب الفوضى معه ، وتتوارى الفضائل والمعارف خلف ركام الدمار ، فأعتى حصون الحضارة واخرها – ونقصد بها حصن العلم وحصانته – لن تصمد امام زحف الفساد والتخلف ، مهما اشتدت دعاماتها ، فيبقى الامل بالقانون الذي يثبت الحقوق ويحفظها ويحقق النظام الذي يجدد الامل باستعادة الرفعة والرقي اذا ما توافرت الفرصة وتظافرت الارادة والكفاءة . فاذا ما تحول القانون ومنظومته الى منصة لتمرير الاهواء والمصالح الذاتية ، وتحصين فئة على حساب غيرها ، واصبح الاستثناء قياسا ، وفقدت منظومة التشريع استقلاليتها ازاء تدخلات وتأثيرات الطبقة المفسدة او المتسلطة ، ستنقطع آخر خيوط الامل بحماية المجتمع ومكتسباته ومؤسساته من مخاطر الانحدار والانهيار واهمها منظومة التعليم بشطريها الاولي والعالي ؛ والانكى من ذلك وامر، حينما يتحول العمل التشريعي الى معول لهدم مكانة العلم ونزع قدسيته ورصانته ، عندها سيدق ناقوس الخطر وتحل الكارثة على المجتمع الذي سيغرق في عتمة الجهل والفساد . وهذا هو عين المشهد المأساوي الذي بتنا نعيش حلقاته الخانقة كمواطنين في هذا الوطن، قبل ان ندركه كمثقفين ننتمي الى مؤسسة التعليم العالي ، وليس قانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية الذي اقره مجلس النواب العراقي بتاريخ (28 تشرين الاول من العام الجاري) الا حلقة متأخرة في سلسلة الانحدارات والمشاهد المروعة التي صرنا نألف مرارتها بعد ان امتقع واقعنا بالوان الظلم والقسوة والجنون والفساد ، فنعيد التحذير – بأنفاس حسيرة- من عواقبها المستقبلية التي تحمل بين جوانحها عوامل الدمار .
بيد ان المشهد التراجيدي الذي رافق مسار تشريع هذا القانون ، كان اكثر فداحة وقتامة ليس بحساب ظروف تشريعه وحيثياته فحسب؛ بل بحساب تداعياته المستقبلية على رصانة الشهادة والدرجة العلمية ؛ بل ومكانة المنظومة التعليمية في المجتمع بوجه عام .
فأول ما يزرع الشك والريبة في نوايا المشرع ومقاصده من تشريع هذا القانون ، ظروف تشريع القانون التي جاءت متزامنة مع انشغال الجميع بقانون الدوائر الانتخابية ومقترح تمويل عجز الميزانية وازمة تأخر الرواتب ، فضلا عن تلبد الاجواء السياسية بغيوم الاتهامات المتبادلة بالتقصير بين الكتل البرلمانية والحكومة ، الى جانب اتهامات اخرى متبادلة بين هذه الكتل واقليم كردستان حول عوائد النفط والمنافذ الحدودية والازمة المالية التي يعيشها الجميع ؛ والاكثر من ذلك ان التشريع قد ظهر للوجود بعد انطفاء جذوة الاعتصام والاحتجاجات الشعبية برفع خيام المعتصمين ، ما يضع هالةً كبيرةَ من الشك حول ظروف ولادة هذا المشروع ومقدماته . وهي الشكوك التي تحوم حول جدوى اللجوء الى التشريع وغايته مع غياب الفراغ التشريعي بوجود تعليمات “معادلة الشهادات والدرجات العلمية رقم (5) لسنة 1976” ، ومعه محاولة سابقة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بتعديل هذه التعليمات تم رفعها الى مجلس الدولة بتاريخ ( 19 تموز/يوليو 2020 ) ، بطريقة “تكفل سد الفراغ القانوني المتعلق بموضوع معادلة الشهادات العربية والأجنبية , دون إحداث التقاطع بالتشريعات المنظمة لعمل مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي”، لاسيما وان هذه الاخيرة، هي الجهة المعنية حصرا بتشريع هكذا قانون كونه يختّص بقضية علميّة من صميم اختصاصها ، وهي محاولة تستبق وتستبطن التصدي لمحاولة تشريع قانون جديد قد ينطوي على ثغرات ومحاذير يصعب معها الاصلاح والتعديل في المستقبل كما حصل بالفعل بتشريع هذا القانون .
وحتى مع الركون الى الغاية المعلنة التي تعلل بها مشرعو القانون بـ” تشجيع الحصول على الشهادات العليا مع الحفاظ على الرصانة العلمية وتبسيط اجراءات معادلة وتقييم الشهادات والدرجات العلمية واعتماد المعايير الموضوعية وكفالة حق الاعتراض والتظلم على قرارات التقييم والمعادلة” ، فأننا نجدها تتهافت ازاء فرط التبسيط بإجراءات معادلة الشهادة والدرجة العلمية معا ، بصورة تخل الى حدٍ كبيرٍ ومبالغ فيه بمعايير الجودة والرصانة العلمية المعتمدة عالمياً ، وهي غاية نراها قد إبتعدت عن توجهات لجنة التربية والتعليم في المجلس التي عبر عنها النائب رياض المسعودي بالقول ” ان الغاية من الغاء التعليمات واصدار القانون المذكور هو تعديل شرط الإقامة إلى 4 أشهر متصلة أو منفصلة للدراسات الإنسانية، و6 أشهر للدراسات العلمية، وذلك مراعاة لتطور وسائل النقل والتواصل” ، وهو امر لا يستحق عناء تشريع قانونٍ جديدٍ قد يفتح ابواب الفتنة والمصائب العلمية الانية والمستقبلية – كما حصل فعلا مع تشريع هذا القانون سيء الصيت – طالما ان بالامكان اجراء التعديل المشار اليه في التعليمات وفق اجراءات اكثر بساطة .
وما تقدم يدفع الى تبني الاستنتاج القائل ان مشروع هذا القانون ” جاء مفصلا وفق قياسات نيابية وسياسية من أجل منح ألقاب علمية وأكاديمية خارج الضوابط”. فجاء هذا التشريع منسلخا عن صفة العمومية والمصلحة العامة ، الامر الذي يعني وقوع المشرع فيما يسمى بمطب الانحراف التشريعي .
وعند مراجعة اجراءات تشريع هذا القانون ، نجدها قد خالفت نص الفقرة الاولى من المادة ( 60) من الدستور العراقي لسنة 2005 التي حصرت امر تقديم مشروع القانون بالسلطة التنفيذية ولاسيما اذا انطوت على تبعات مالية ، في حين ان مشروع هذا القانون قد تقدمت به لجنة التربية والتعليم في المجلس دون علم الحكومة وفي ذلك مخالفة صريحة لنص الدستور ولقرار المحكمة الاتحادية بهذا الشأن . والاكثر من ذلك ان المادة (16) من مشروع القانون قد صادرت صلاحية رئيس الجمهورية بالمصادقة على مشروع القانون المنصوص عليها في الفقرة الثالثة من المادة( 73) من دستور العراق ، حينما نصت على نفاذه اعتباراً من تاريخ التصويت عليه في مجلس النواب ، وليس من تاريخ مصادقة رئيس الجمهورية والنشر في الجريدة الرسمية ، في محاولة للتملص من احتمالية تعطيل المصادقة على القانون من قبل رئاسة الجمهورية بصورة تفتح ابواب الاعتراض الشعبي والاكاديمي عليه قبل النفاذ ما يعرض المجلس وكتله السياسية لحرج جماهيري كبير .
وبالرجوع الى فقرات مشروع القانون ، ستتسع مساحة النقد والمؤاخذات عليه بما يكشف بوضوح عن قصور فادح في الصياغة وجهل وعدم فهم لمعايير الجودة العلمية والبحث العلمي ؛ فالقانون المقدم هو إستنساخ طبق الأصل للتعليمات السابقة المطبقة في الوزارة منذ سنيين طويلة , لدرجة ان المستنسخ لم يكلف نفسه مراجعة نسخته المقدمة, بحيث فاته أن هيئة المعاهد الفنية لم تعد قائمة الآن, حيث أنها إستبدلت عام 2002 بهيئة التعليم التقني ، ناهيك عن التجاوزات الدستورية والتقاطعات القانونية التي تضمنتها العديد من فقرات القانون المذكور ، تتقدمها المخالفة الدستورية لمبدا الفصل بين السلطات المنصوص عليه في المادة ( 47) من الدستور، وذلك حينما اسندت المادة (م2/ فقرة ثالثا) من القانون المذكور للامانة العامة لمجلس النواب مهمة معادلة الشهادات التي تصدر من معهد التطوير البرلماني ، وهو اختصاص حصري لوزارة التعليم العالي المرتبطة بالسلطة التنفيذية ، فضلا عن كونه نص متناقض مع المادة نفسها الفقرة اولا الذي حصر معادلة الشهادات في قسم تابع لوزارة التعليم العالي ، والانكى من ذلك أن القانون الجديد قد جرد الاخيرة من اختصاصها الاصيل في اعتماد مبدأ التقييم العلمي في معادلة الشهادات بإسنادها لجهات من خارج الوزارة استنادا للمادة ذاتها ، وفي ذلك هدر كبير للرصانة العلمية ومعايير الجودة ، وقيمة الشهادة والدرجة العلمية الممنوحة من جهات غير مختصة او خبيرة ، ومحاولة جلية لإقصاء وزارة التعليم العالي عن دورها المركزي في اعتماد الشهادات والدرجات العلمية على اسس رصينة ، عبر منحها إلى لجان واقسام في وزارات غير مختصة لا تفقه بالسياقات العلمية المطلوبة ؛ كما أن العاملين في هذه الوزارات ليسوا بحاجة إليها كون تدرجهم المهني والوظيفي يختلف بشكل جذري عن السياقات العلمية في وزارة التعليم العالي.
وهي المحاولة التي تأكدت للمرة الثانية في الفقرة الثانية من المادة ذاتها حينما اجازت لموظفي الدولة ، الحصول على شهادات اثناء التوظيف دون اخذ الموافقة الرسمية من دوائرهم بصورة تتعارض مع قانون انضباط موظفي الدولة وبمعزل عن حساب الطاقات الاستيعابية سواء لوزارة التعليم العالي او لمؤسسات الدولة المعنية او الموازنة العامة على حد سواء، ودونما اعتبار لقدرة هؤلاء الموظفين على تحقيق الموازنة بين اعباء العمل والتزامات الدراسة ، ما يعني فتح ابواب الذرائع لدوامة وتقلبات لايمكن لجمها في سلم الرواتب والدرجات الوظيفية لموظفي الدولة مع استمرار حصول الموظفين الحكوميين على شهادات جديدة.
وإمعانا في انتزاع وزارة التعليم العالي من دورها المركزي في تنظيم امور الشهادات وطمس رصانة الشهادة العلمية ، وجدنا ان المادتين الرابعة والخامسة من مشروع القانون المذكور قد نصتا على قبول أي دراسة في الاختصاص مقابل عدد سنوات الثانوية من دون اشتراط وجود البكالوريا، ثم جاءت المادة (7) من مشروع القانون سيء الصيت لتخلق مساحات اضافية من الفوضى وهدر الرصانة العلمية والمركزية في القرار العلمي، حينما احلت الفقرة الثانية من المادة 12من مشروع هذا القانون معايير”الموهبة” والجهود المتميزة استثناءً من أحكام المواد (28،27،26،25) من قانون رقم (40) لسنة 1988 كمعيار جديد في منح اللقب العلمي وهي معايير غير محددة بحدود معينة وثابتة وتخضع لاعتبارات فضفاضة بدل المعايير المنضبطة علميا التي حددتها وزارة التعليم العالي وفق القانون اعلاه في تحقيق الغاية عينها ، وهو ما قد ينهي الضوابط الرصينة والمعايير المعتمدة في تقييم الشهادات.
ولعل أخطر ما جاء به هذا القانون , استثناء شريحة أصحاب المناصب العليا في الدولة من وزراء ووكلاء وزراء وأصحاب الدرجات العليا من شرط تقديم الاطروحة الجامعية ، ودون أن يقدم هؤلاء النواب البديل العلمي للتعويض عن أطروحة الدكتوراه لتبرير حصولهم على شهادة الدكتوراه طبقا لأحكام البند “رابعا” من المادة (6) وفي ذلك خروج عن مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص المنصوص عليه في المادتين (14 ،16 ) من دستور جمهورية العراق ، وهو امر غير مسبوق في تاريخ التعليم العالي عراقيا وعالميا , فضلا عن كونه محاولة لتصميم مشروع القانون على مقاسات الطبقة السياسية بمعزل عن شرط الرصانة او فلسفة التعليم وجودته في العراق , وهو المسعى التمييزي الذي اكدته وكللته المادة (12) من القانون لهذه الشريحة ، حينما سمحت للنواب والوزراء والدرجات الخاصة بالدراسة خلال مدة إشغالهم لوظائفهم .
بوجه عام فان مشروع هذا القانون قد اضر اضراراً كبيراً برصانة الشهادة والدرجة العلمية ونسف المكانة المحورية لوزارة التعليم العالي في هذا السياق ضاربا بعرض الحائط الغاية التي كرستها المادة( 34) من الدستور العراقي المتعلقة بـ”تشجيع الدولة على البحث العلمي في الجامعات ومراعاة التفوق والنبوغ والإبداع ” فعن أي علم وجامعات وعن أي ابداع نتحدث ، اذا ما تدفق سيل جارف من الشهادات والالقاب العلمية المنفصلة عن ضوابط الرصانة العلمية للجهة المختصة وبمعزل عن أي خطة او نظام يخضع لتقديرات الظروف السائدة في الدولة وحاجة سوق العمل فيها ، ما يعني ” أن التعليم العالي في العراق سيواجه مستقبلا – على حد تعبير احد الباحثين- كارثة حقيقية بحصول أشخاص على شهادات عليا دون غطاء علمي ودون وجه حق , بقوة المال والنفوذ وشراء الذمم , ليتسللوا فيما بعد إلى مفاصل الدولة المختلفة ومنها الجامعات ليعيثوا فيها فسادا ودمارا ” لتزداد بعد ذلك محنة هذا البلد وتتسارع بين جنباته وتائر الدمار ، الامر الذي يدعونا قاطبة الى قرع ناقوس الخطر والانذار النهائي ، قبل فوات الاوان باتجاه الدعوة الى استبعاد هذا المشروع التدميري للتعليم العالي في العراق. . والله ولي التوفيق .

مصادر مختارة
داخل حسن جريو ، ملاحظات عابرة في قانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية على الرابط : https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=697470
كيف يمكن إلغاء قانون معادلة الشهادات “المثير للجدل” بعد تمريره في البرلمان؟ على الرابط : https://ultrairaq.ultrasawt.com/%D9%83%D9%8A%D9%81-
قانون معادلة الشهادات يثير ضجة أكاديمية ، على الرابط : https://www.irfaasawtak.com/iraq/2020/11/04/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-