ازمة اقليم تيغراي في اثيوبيا : الاسباب والابعاد

      التعليقات على ازمة اقليم تيغراي في اثيوبيا : الاسباب والابعاد مغلقة

    بقلم : ا.د. سامر مؤيد عبد اللطيف

          مركز الدراسات الاستراتيجية

              كانون الاول 2020

لقد قطع رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد يوم (الأربعاء 4 تشرين الثاني) ، آخر حبال الود مع جبهة تحرير شعب تيغراي في اقليم تيغراي ، لما اعلن  الحرب على قواتها ، بداعي الحرص على استعادة الاستقرار في البلاد واستئصال اي محاولة للتمرد على الحكومة الاتحادية بعد ان أجرى الإقليم انتخابات محلية في تحدٍ لهذه الاخيرة التي وصفت التصويت بأنه غير قانوني ، لتندلع بين الطرفين ( الحكومة الاتحادية وجبهة تيغراي ) ازمة امتقعت بلون الدم لما اقدمت قوات الجبهة بمهاجمة معسكرا للقوات الحكومية في الاقليم الذي يقع في شمال البلاد .

بيد ان هذا التصعيد وتلك الازمة في اثيوبيا لم تكن الا ثمرة مريرة لجملة من المقدمات والعوامل التي اسهمت في تشنج العلاقة بين جبهة شعب تيغراي الذي يشكل 5% من اجمالي عدد سكان اثيوبيا البالغ عددهم 110 مليون نسمة وبين الحكومة الاتحادية التي يراسها ابي احمد المنحدر من اصول (الأرومو ) وهي المجموعة العرقية التي يتشكل منها اغلب سكان اثيوبيا ، الذي وصل الى السلطة على خلفية الاستياء الشعبي العارم من سيطرة جبهة تحرير شعب تيغراي على مقاليد السلطة ومفاصلها الحيوية منذ الاطاحة  بالحكومة العسكرية في عام 1991.

    قبل هذا التاريخ ، ولما تحركت قاطرة الاصلاح عام 2018  على يد رئيس الوزراء الاثيوبي ابي احمد  ؛ ذلك الشاب الامهري البروتستانتي الملتزم دينيا ، والمتسلح معرفياً بشهادة الدكتوراه في ادارة الاعمال ، والواثق بان القيادة النشطة الديناميكية ، تُولّد واقعها الخاص” والعنيد بطبعه والحازم في قراراته ؛ كان لابد لها وان تمر بمحطة الانقسام العرقي لتتقاطع مع مصالح المتنفذين المفسدين من اقلية التيغراي  ، ولاسيما حينما  اعتُقل الكثير منهم  أو أُقيلوا أو هُمشوا، في اطار ما وصفته  الحكومة الاتحادية بأنه “حملة على الفساد”، في الوقت الذي راى فيه سكان اقليم تيغراي  انه “محاولة لقمع المعارضة وتصفية النفوذ السياسي لقومية التيغراي”  .

هذه الإجراءات وغيرها أدت إلى فقدان قيادات التيغراي امتيازاتها التي كانت تتمتع بها من الثروة والسلطة، وتباعا انسحبت هذه القيادات إلى إقليمها، ومعها تنامى الشعور بين ابناء هذه الاقلية بالتهميش وانحسار النفوذ ، الامر الذي زاد من احتقان الازمة واكتسابها بعدٍ عرقي / مناطقي بامتياز؛ ولاسيما بعد أنّ رفضت حكومة إقليم تيغراي تسليم هذه القيادات السياسية والامنية من التيغراي المتهمة بالفساد، للحكومة الفيدرالية.
والواقع ان الانقسام العرقي بين مكونات الشعب لايمكن ان يفضي في اغلب الحالات الى الصراع بينها الا اذا استأثرت مجموعة عرقية بموارد السلطة وقوتها على حساب المجموعات العرقية الاخرى ، وتتصاعد احتمالية الصراع العرقي اكثر اذا كانت الاقلية التي تمثلها جبهة تحرير تيغراي  هي التي تستأثر بالموارد على حساب الاغلبية التي تمثلها (الارومو) كما حصل في اثيوبيا . واذا كانت الرفاهية والتقدم والوعي المرتفع والروح الوطنية الوثابة كلها حصانات لحفظ الوحدة الوطنية في اي دولة وضمان الاستقرار فيها  مهما تعددت المجموعات العرقية والدينية داخل شعبها ، يتحول التعدد العرقي والديني- في هذه الحالة – الى عامل قوة يستمد معينه من مصادر متنوعة  ، وعلى النقيض من ذلك ، قد يتحول التعدد العرقي الى مصدر للاختلاف والتناحر وزعزعة الاستقرار اذا عم الفساد في اروقة السلطة وبين صفوف المجموعة العرقية القابضة عليها ، وساد التخلف والجهل في المجتمع  ، وهذا هو الحال الذي صارت اليه السلطة في اثيوبيا والمجموعة العرقية التي تسندها وتحفها ( ونعني بها التيغراي ) زهاء  سبعة وعشرين عاما .

     وعندما  تتطابق خارطة التوزيع العرقي للأقليات مع خارطة التوزيع الجغرافي للأقاليم ضمن الدولة الواحدة ؛ لتتحصن الاعراق بواقع جغرافي متماهي معها  كالذي تعيشه الاقليات في اثيوبيا قاطبة، وتتخذ الانقسامات العرقية بعدا سياسيا بعد ان تستقر على قاعدة دستورية ، تصبح الازمة اكثر تعقيدا واحتقانا ؛ وتصبح الاعراق مسلحة بعتاد الشرعية الدستورية ، ولاسيما اذا علمنا ان الدستور الاثيوبي لعام 1994، قد غذى الانقسام العرقي في البلاد حينما تبنى خيار الفدرالية العرقية التي اتاحت للمجموعات العرقية الرئيسة امكانية ادارة مناطقها الخاصة بقوانينها الخاصة وسلطاتها الادارية الواسعة الصلاحيات . بل ان الدستور قد ذهب الى ابعد من ذلك ، حينما منح تلك الاقاليم العرقية، بشكل فريد، الحق في تقرير مصيرها، كضمانة في مواجهة احتمالية استبداد حكومة المركز وانفرادها بالسلطة . هذه الفسحة الدستورية المستندة الى واقع جيو عرقي هي التي سمحت للجماعات العرقية المتعددة في اثيوبيا  بتكريس هويتها العرقية والاقليمية وقوانينها وسلطاتها المحلية على حساب المركز ، وهكذا حينما بدأ (آبي أحمد)  في اطار حركته الاصلاحية ، بالابتعاد عن النظام الفيدرالي والاقتراب من النظام المركزي، وقواه الصلبة من الأمهرا ، كان من المتوقع جدا ان تتقاطع نزعته المركزية مع النزعة الاستقلالية للاقاليم ولاسيما الاقليم الاكثر ثراءً في تيغراي لتنتج  – بالفعل – حالات من التصعيد الكلامي بين الطرفين والتمرد من جانب حكومة اقليم تيغراي على سلطة المركز في اكثر من مناسبة ، كان من اهمها  اجراء انتخابات في اقليم تيغراي في 9 أيلول/سبتمبر، على الرغم من موافقة البرلمان البرلمان الإثيوبي تأجيل الانتخابات البرلمانية بسبب جائحة كرونا، بدون تحديد موعد جديد.

“فصنفت أديس أبابا حكومة تيغراي بأنها غير قانونية، بينما لم يعد قادة تيغراي بدورهم يعترفون بإدارة أبيي ويقولون “إن حكومتهم هي الحكومة الإقليمية الوحيدة بتفويض من الناخبين”.. وقد اتخذ هذا الخلاف منعطفا حادا في العلاقة بين الطرفين ، بإعلان جبهة تيغراي إلغاء اعترافها بالحكومة الفدرالية، باعتبار أن ولايتها انتهت في ( 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي)، وعليه فإن الإقليم لن يمتثل لأي توجيهات تسنها الحكومة الفدرالية.

اما المناسبة الثانية التي تجلت فيها روح التحدي الاقليمي لسلطة المركز ، فقد تمثلت برفض حكومة تيغراي في 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي الاعتراف بالتغييرات التي اجراها ابي احمد في قادة القاعدة الشمالية تحت ذريعة عدم اعترافها بالحكومة الفدرالية، وبالتالي عدم امتثالها لقراراتها. بل ان حكومة اقليم تيغراي قد ذهبت الى ابعد من ذلك في تحدي المركز بان منعت ، الجنرال جمال محمد -الذي تم تعيينه قائدا جديدا للقاعدة الشمالية- من دخول مطار مدينة مقلي عاصمة الإقليم، بعد أن وصل الإقليم لاستلام مهامه، قبل أن تجبره على العودة على نفس الطائرة ؛ وفي خطوة استباقية تصعيدية لاحقة من جبهة تيغراي حاولت الاستيلاء على القاعدة الشمالية بمساعدة منشقين من الداخل بهدف تحييد القاعدة ومصادرة أسلحتها.

وهكذا عندما بلغت الامور هذا المنحنى الخطير، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي في( 9 تشرين الثاني/نوفمبر)  بدء المواجهات العسكرية بشكل رسمي ضد الجبهة، بعد أن اتهم الجبهة بتجاوز “الخطوط الحمراء”؛ واصفا الهجوم بأنه “حملة لإعادة سيادة القانون” للإقليم الشمالي، قائلا إن “النصر سيتحقق خلال أيام” اذ كانت الحكومة الفيدرالية تراهن على الحسم العسكري السريع وإبعاد القضية من التدويل، وعدم إظهار مأساة المدنيين حتى لا تتعرض للضغط من المجتمع الدولي. وهذا ما يفسر عدم سماحها للمنظمات الدولية والمؤسسات الإعلامية للوصول إلى إقليم تيغراي. ومن جانبها اندفعت حكومة اقليم تيغراي الى خيار الحرب  وفي حساباتها جملة من الغايات والمراهنات اولها  انها كانت  تعول على دخول إريتريا في المعركة بصورة واضحة مع آبي أحمد فتصبح الحرب حرب إقليمية، وهو ما سيعجل من تدخل القوى الدولية لإيقاف الحرب، وعندما علمت بعدم مشاركة إريتريا مباشرة في العمليات العسكرية ضربت العاصمة الإريترية بالصواريخ لجرّ إريتريا إلى الحرب، إلاّ أنّ الحكومة الإريترية فوتت هذه الفرصة على التيغراي بضبط نفسها وعدم الرد على قولا أو فعلا.
وفي الغاية الثانية كانت  هذه الحكومة تراهن على تحرك الأقاليم الإثيوبية الأخرى التي لها مشاكل مع الحكومة الفيدرالية بالتزامن مع إقليم تيغراي، فتشتت قوة الجيش الإثيوبي في الأقاليم. وما لم تأخذه قيادات التيغراي في الاعتبار في هذا الموضوع أنّ هذه الإقاليم كانت لها مشاكل عميقة مع التيغراي أثناء حكمها، أكثر من الحكومة الفيدرالية، ولذا لم تتحمس حتى الآن أن تتحرك لتخفيف الضغط عليها. وهكذا تمكن الجيش الحكومي في غضون اسابيع من السيطرة على 80% من مساحة الإقليم الواقع شمالي إثيوبيا. بعد ان أودت الحرب بحياة المئات من الضحايا، واسهمت في تهجير الاف العوائل الى السودان .

وعلى الرغم من ان الاحتمال الراجح يفضي بنا الى تأكيد احتمالية سيطرة الحكومة المركزية على الاقليم المنشق ، الان ان هذا الخيار سيكتب له الاستقرار على ارض هشة جدا من الاحقاد والشكوك المتبادلة بين الطرفين ، وستبقى هذه المنطقة عرضة الى هزات وصدامات عرقية متتالية مدفوعة برغبة الانتقام من الحكومة المركزية والتطلع الى الاستقلال استنادا الى الدستور واسوة باريتريا التي سبقتهم الى ذلك . بالمقابل فان الانتصار سيمنح الحكومة المركزية بقيادة ابي احمد المزيد من الثقة والعزم على الاستمرار بإصلاحاتها الاقتصادية مع التوجه الى تعزيز توجهاتها المركزية ، ما يبعدها – شيئا فشيء – عن ضفة الديمقراطية ، ويقربها اكثر من الاستبداد والانفراد بالسلطة ، وهو الامر الذي سيشجع سائر الاقاليم والاقليات على تبني خيار الانشقاق على السلطة في المستقبل البعيد اذا ما انتكست في فسادها واستبدادها .

 

 

 

 

المصادر المعتمدة

  • اضطرابات تيغراي”.. وشبح الحروب العرقية في إثيوبيا، https://www.alhurra.com/arabic
  • إثيوبيا وإقليم تيغراي.. هكذا توالت الأحداث من التحالف إلى الحرب https://www.aljazeera.net/new s
  • أليكس دي وال ، الصراع في تيغراي: لماذا تغرق إثيوبيا في دوامة الصراعات العرقية؟ ، 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 ، https://www.bbc.com/arabic/world-54967257
  • تطوّرات أحداث الحرب في إثيوبيا.. والسيناريوهات المتوقعة ، إدريس جميل الثلاثاء، 24 نوفمبر 2020 ، https://arabi21.com/story/1317169