ماذا بعد تغير سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار

      التعليقات على ماذا بعد تغير سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار مغلقة

 

د. فراس حسين علي الصفار

رئيس قسم ادارة الازمات

مركز الدراسات الاستراتيجية- جامعة كربلاء

28 كانون الثاني 2021

تعتبــر سياســة تخفــيض قيمــة العملــة Devaluation)) مــن أهــم سياســات ســعر الصــرف، حيــث يُســتعمل هــذا الإجــراء مــن قبل حكومة الدولة أو السلطة النقدية فيها، متمثلة بالبنك المركزي في كثير من الدول. من أجــــل تحقيــــق أهــــداف اقتصادية وطنيــــة محــــددة تختلــــف مــــن دولــــة لأخــــرى، وذلــــك حســــب الأولويــــات وخصـــائص الهياكـــل الاقتصادية ومســـتوى النمـــو، والتـــي تهـــدف أساســـا إلـــى إعـــادة تحســـين مســـتوى الميـــزان التجاري بالدرجة الأولى، أما عندما يكون سعر الصرف خاضعا لقوى العرض والطلب (تعويم العملة) ويحصل تراجع في قيمة هذه العملة، فهنا الحديث عن انخفاض قيمة العملة  (Depreciation)، بمعنى أن التخفيض هو فعل إرادي من الدولة، أما الانخفاض فهو نتيجة تلقائية للتفاعل الحر بين العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي دون تدخل مباشر من الدولة. ووفقا للمنطق ذاته، يمكن الحديث عن رفع قيمة العملة (Revaluation) في مقابل خفضها، وارتفاع قيمة العملة (Appreciation) في مقابل انخفاضها.

ان تخفــيض قيمــة العملـــة عمليــة ذات طـــابع تقنــي تهــدف إلــى تغييــر قيمـــة العملــة بالنســبة إلــى معيـــار مرجعـــي، ســـواء كـــان هـــذا المعيـــار ذهبـــا، أو عملـــة صـــعبة أو ســـلة مـــن العمـــلات، أو حقـــوق الســـحب الخاصة ومنه إلى جميع العملات المختلفة. ويفترض من الناحية النظرية أن يترتب على تخفيض قيمة العملة المحلية رفع درجة تنافسية الدولة، ومن ثم زيادة صادراتها نتيجة انخفاض أسعار هذه الصادرات بالنسبة للأجانب، كما يترتب على تخفيض قيمة العملة ارتفاع أسعار الواردات بالنسبة للمقيمين في الدولة. غير أنه ليس شرطا أن يترتب على تخفيض قيمة عملة الدولة حدوث تحسن في ميزانها التجاري، حيث يؤثر تخفيض قيمة العملة إيجابا على الميزان التجاري فقط في ظل توافر شروط أهمها ان يكون مجموع مرونتي الطلب السعرية للصادرات والواردات أكبر من الواحد الصحيح، كما لابد أن يصاحب ذلك توافر شروط محددة حول قدرة العرض المحلي من السلع على الاستجابة للتزايد في الطلب على الصادرات مع تخفيض قيمة العملة. ولا يقتصر تأثير تغير معدل الصرف على الصادرات والواردات من السلع والخدمات، وإنما يمتد أيضا إلى الاستثمارات او الطلب على الأصول المالية والحقيقية بين دول العالم، فعندما تنخفض قيمة العملة فإن قيمة الأصول الخارجية التي يملكها المقيمون في هذه الدولة ترتفع ، فيزيد إقبال المقيمين على الاحتفاظ بالأصول الأجنبية، أي يتزايد خروج رؤوس الأموال إلى الخارج، بينما يجد الأجانب أن قيمة الأصول المحلية التي يملكونها في الدولة تتراجع نظرا لتراجع قيمة العملة المحلية فيقل الإقبال من قبل الأجانب عليها، ومن ثم يقل تدفق رؤوس الأموال إلى الداخل. من جانب اخر عندما تكون الدولة مدينة إلى الخارج بدين كبير (أي مقوم بالعملة الأجنبية) فإن تخفيض قيمة عملة هذه الدولة سيضر بها. على سبيل المثال إذا كانت الشركات في هذه الدولة أصولها مقومة بالعملة المحلية، بينما التزاماتها مقومة بالعملة الأجنبية، فإن تخفيض قيمة العملة يؤدي إلى تراجع قيمة أصولها بالنسبة لالتزاماتها، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى إفلاس تلك الشركات أو عدد كبير منها، خصوصا تلك العاملة في القطاع المالي، مثلما حدث في الأزمة الآسيوية، وقد تستجيب الحكومات لمثل هذه التطورات من خلال رفع معدل الفائدة بهدف جذب رؤوس الأموال إلى الداخل والحد من اتجاهها نحو الخارج، الأمر الذي يمكن أن يؤثر سلبا على مستويات الاستثمار والتشغيل، ومن ثم مستويات الرفاه.

لقد اثار موضوع تخفيض سعر الصرف في العراق من 1119 دينار الى 1450 دينار مقابل الدولار العديد من الاشكالات والتساؤلات عن اهم اسباب هذا التخفيض؟ وماهي تأثير  خفض قيمة الدينار العراقي على الميزان التجاري والانتاج المحلي والاستثمارات الاجنبية والاحتفاظ بالنقد المحلي ؟ وهل الوقت مناسب لذلك ؟ وسنبدأ من اهم اسباب تغير سعر الصرف ولعل السبب الاساسي هو العجز المالي وعدم قدرة الحكومة عن توفير السيولة اللازمة لتمويل الانفاق العام في ظل عدم كفاءة الانفاق ومحدودية الموارد ، اذ ان الموازنة العامة 2021 تحتوي على عجز مالي يقدر بـ 71 تريليون دينار وهو  اكثر بكثير من 3% التي حددها قانون الادارة المالية رقم 6 لسنة 2019 في المادة (6) رابعاً والذي يشترط ان لا يتجاوز العجز المالي 3% من الناتج المحلي الاجمالي والذي يقدر في العراق بـ 220 تريلون دينار ، وبالرغم من اقرار قانون الاقراض وقانون العجز المالي لم تستطيع الحكومة الا لتوفير النفقات لغاية نهاية السنة الحالي ، كما ان الحكومة تستند إلى عدد من الاسباب الاخرى للتخفيض، أهمها الرغبة في زيادة الصادرات وتقليص الواردات، ومن ثم تحسين وضع الميزان التجاري، ودعم المنتج الوطني وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في التدفق إلى الاقتصاد العراقي، ومن ثم تخفيف الضغوط في سوق النقد الأجنبي والاحتياطات الدولية لدى البنك المركزي العراقي ، وهذا مـــا دفع وزارة المالية لاقتراح سعر 1450 دينار لكل دولار في مسودة قانون الموازنة 2021 ، بالرغم من ان قرار تخفيض العملة يرتبط بشكل مباشر وحصري بالبنك المركزي العراقي بعده بنك الحكومة ومستشارها المالي والمسؤول عن السياسة النقدية للبلد . الا ان قرار تخفـــيض قيمـــة الـــدينار العراقي تم اتخاذه من قبل البنك المركزي بالتشاور مع وزارة المالية والحكومة ، أمـــلاً فـــي تحقيـــق التـــوازن الخـــارجي، كما أن تحقيق هـــذا الهدف يتوقـــف على طبيعـــة وبنيـــة الجهـــاز الإنتـــاجي الذي يعاني من مشاكل متعددة عدا قطاع النفط ولعل اهمها ضعف وتخلف الهياكل الانتاجية ولاسيما في الصناعات التحويلة وغياب التشابكات القطاعية وهيمنة القطاع الخدمي والتجاري على القطاع الصناعي والزراعي ، اي ان تخفيض قيمة الدينار العراقي لن يؤدي إلى تحسين موقف الميزان التجاري بشكل كبير بسبب طبيعة الاقتصاد وعدم توافر شروط ارتفاع مرونات الطلب السعرية لكل من الصادرات والواردات، فضلا عن ضعف قدرة العرض المحلي من السلع على الاستجابة للتزايد في الطلب على الصادرات وان اغلب المواد الاولية هي مستوردة. كما ان هذا الاجراء قد يودي إلى المزيد من التضخم في الأسعار.

من جانب اخر هل يؤدي تخفيض قيمة العملة إلى جذب الاستثمار الأجنبي؟ هناك كم كبير من الكتابات الاقتصادية حول العوامل المحددة لتدفقات للاستثمار الأجنبي المباشر في دول العالم، غير أن الدلائل التطبيقية التي تقدمها تلك الدراسات تشير إلى اهتمام الاستثمار الأجنبي المباشر بصفة أساسية بعوامل مثل حجم السوق والقوة الشرائية فيه ونوعية بيئة الأعمال واستقرار القوانين ومستويات الضرائب، وغير ذلك من العوامل التي تلعب دورا حاسما في هذه التدفقات، أما بالنسبة لتخفيض قيمة العملة، فإنه يخلق ميزة للشركات الأجنبية، حيث تصبح تكاليف الإنتاج، بصفة خاصة الأجور، رخيصة نسبيا في الدولة التي حدث فيها التخفيض، هذا طبعا بشرط ألا يترتب على التخفيض ارتفاع الضغوط التضخمية، غير أنه من ناحية أخرى، يلعب استقرار معدل الصرف الأجنبي دورا مهما أيضا في هذه التدفقات، وكلما ارتفعت درجة عدم استقرار معدل الصرف كلما ازدادت درجة عدم التأكد المصاحبة لقرار الاستثمار، وهو ما يؤثر بصورة سلبية على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.

وأخيرا، هل هناك من آثار جانبية أخرى لتخفيض الدينار العراقي؟ الإجابة هي نعم، هناك العديد من الآثار الأخرى لمثل هذا القرار، أهمها أن التجارب السابقة في تخفيض قيمة الدينار خلال عقد التسعينات قد انتهت جميعها بارتفاع معدل التضخم لمستويات قياسية  وهو ما بعرف بـ (التضخم الجامح)، كما ان أهم الآثار السلبية المتوقعة لمثل هذا القرار تتمثل في ضغوط تضخمية وإن كان هناك فترات تأخير للأثر ، والتي ستمس بالتأكيد الطبقات الفقيرة والهشة ، بصفة خاصة مع الاتجاه العالمي لارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية حاليا، ومن ثم فإن الدول التي تستورد الغذاء من الخارج مثل العراق عندما تخفض قيمة عملتها فإنها تضيف مزيدا من الاعباء. من ناحية أخرى، فإنه كلما ازدادت الآثار التضخمية الناجمة عن التخفيض في قيمة العملة قل الأثر التصحيحي للتخفيض على الميزان التجاري. كذلك، فإن التخفيض وعدم الاستقرار سيدفع بالعديد من المضاربين في العراق والخارج إلى المضاربة على الدينار، وهو ما سيرفع قيمة الدولار في السوق المحلية كما انه سيودي لضعف الإقبال على الاحتفاظ بالمودعات بالعملة المحلية؛ نظرا لتراجع قيمتها، وتزايد الإقبال على المودعات بالعملات الأجنبية مثل الدولار واليورو، وهو ما يطلق عليه إحلال العملة، الأمر الذي سيلقي بضغوط إضافية على معدل الصرف مع تزايد الطلب على عمليات إحلال العملة والتخلص من المودعات بالدينار العراقي.

الخلاصة: في ظل الصدمة الثنائية التي يتعرض لها الاقتصاد العراقي المتمثلة في انخفاض اسعار النفط وانتشار جائحة كورونا والاغلاق العام في معظم الدول، كان الافضل ان تتم عملية تخفيض العملة في وضع اقتصادي افضل لتجنب الاثار السلبية والمخاطر من هذا التخفيض بالرغم من المنافع التي تم الحصول عليه والمتمثلة في تخفيض التدفقات النقدية للخارج من العملة الصعبة وتساوي السعر الموازي للصرف مع السعر الرسمي ولكن هذه المكاسب هي مكاسب وقتية وسرعان ما ستتلاشى مع اعادة الاقتصاد العراقي لوضعه الطبيعي بارتفاع اسعار النفط او توزيع لقاح فايروس كورونا وهو ما يتضح بشكل كبير من توقعات حجم النفقات العامة في مسودة الموازنة لعام 2021 والبالغة 164 ترليون دينار والتي بالتأكيد ستكون اجمالي طلب على العملة الاجنبية.

اهم الحلول المطروحة:

  • تجنب التغير المستمر في اسعار الصرف لكون ذلك يودي لعدم ثقة في الاجراءات الحكومية ولاسيما البنك المركزي العراقي الذي شكل خلال المدة السابقة اداة الاستقرار الوحيدة للاقتصاد العراقي ، ويفضل مراقبة السوق والاقتصاد واتخاذ القرارات المناسبة بشأن السياسة النقدية لاسيما رفع اسعار الفائدة بمختلف اجالها والتركيز على رفع اسعار الفائدة على الودائع طويلة الاجل.
  • اعادة هيكلة القطاع المصرفي في العراق لتفعيل دوره المهم في تعبئة المدخرات ومنح القروض الاستثمارية لاسيما للقطاع الخاص.
  • التركيز على السوق المالية بعدها احد اهم ركائز الاقتصاد الحديث.
  • الترشيد بالإنفاق الحكومي وفق مبدا الكفاءة والهدف من الانفاق وعدم زيادة الدين الداخلي والخارجي كونه يعد من الاعباء المستقبلية على الاقتصاد المحلي.
  • دعم الفئات منخفضة الدخل من خلال اجراءات حكومية لمواجهة الضغوط التضخمية لاسيما في السلع الضرورية.
  • السيطرة على الكتلة النقدية المحلية مقارنة بالأصول الاجنبية لدى البنك المركزي للسيطرة على التضخم ومواجهة أي زيادة بالطلب على الأصول الاجنبية بالمدى القصير نتيجة استبدال الأصول المحلية بالأصول الاجنبية او المضاربة بها.