مقاربة نقدية لمعنى الحرية أصلها ومَن له حق تقييدها بين الاسلام والغرب

      التعليقات على مقاربة نقدية لمعنى الحرية أصلها ومَن له حق تقييدها بين الاسلام والغرب مغلقة

 

م.م جواد صالح مهدي النعماني

باحث مشارك في قسم الدراسات الدولية

ومدرس على ملاك تربية محافظة كربلاء

17 نيسان 2021

 

 

تعتبر مفردة الحرية من المفردات التي يعدها الأنسان كثيرا في المحاورات والممارسات وما تتم تغذيته به من ثقافات سياسية واجتماعية ودينية، غير ان عَهدها كشعار لا يعني بالضرورة عَهدها كمعنى ومضمون، فالحرية كمفهوم توصف بالنسبية والتعقيد سواء في ذاتها باعتبارها مطلقة أو مقيدة أم في تطبيقها المتباين كثيرا بحسب المنطلقات الثقافية والايديولوجية والسياسية، فمثلاً بينما نلحظها ذريعة في استراتيجيات القوة للدول الكبرى مجردة أو مقترنة مع مفردة الديمقراطية لشن الحروب وتبرير المواقف السياسية والعسكرية نلحظها عند آخرين غاية سامية يتحملون تداعياتها ويواجهون مخاطر نيلها أو الدفاع عنها، على إن فهمنا لمعنى الحرية مُقَدَمة لفهمنا طبيعة علاقاتنا بالآخرين وطبيعة النظام الاجتماعي والسياسي الذي نعيش ونتفاعل فيه، كما إنه مُقَدَمة لتميّزنا ما تصدق عليه من افعال واقوال من عدمه.

وعليه فسنحاول استقصاء معنىً للحرية من خلال انتقاء بعض المفاهيم لمدارس غربية مختلفة، ثم سنعمد إلى ترتيبها بحسب قوة الطرح وعمق الرؤية، لأجل التدرج في الانتقالات الذهنية سواء في فهمها أو في نقدها والترقي من خلالها إلى أدقها معنٍ وأكثرها كمالا في إصابة مفهوم الحرية والمُراد منها، ثم سنحاول مقاربتها إلى الرؤية الدينية الاسلامية جريا على ما يؤصل له الغرب من تناقض وديالكتيك بين الاسلام كدين والغرب كحضارة ليبرالية ديمقراطية رأسمالية.

بَدْءًا فقد تعددت الآراء واختلفت المَذاهب في أصل الحرية ومعناها وحدودها ومَن له حق تقنينها، وهل هي أمر فطري جَبَلَ الله نفوس الخلائق عليه أم هي تطور أبستمولوجي اهّتدت إليه البشرية في غرب اوروبا وامريكا الشمالية؟ – فنوافق “أوغست كونت” مقالته من: إن تاريخ البشرية ما هو إلا عملية ثقافية مستمرة، تتهذب خلالها طبائع البشر الأصلية وتنتقل من حالتها الحيوانية الاولى إلى حالة الإنسانية – وبطبيعة الحال فقد سرى الخلاف غير محدود بزمان أو مكان وغير مقصور على جماعة فلسفية أو ثقافية اجتماعية أو سياسية بعينها، وعلّة ذلك فيما نعتقد هي سعة معناها مع نسبيته حين أخذها في إحكام جميع علائق الفرد بالآخرين بدءا بالأسرة أصغر نواة اجتماعية وانتهاءً بالدولة أكبرها.

عطفا على ما تقدم: نحن نعاصر اليوم تصورا عاما للحرية باعتبارها: فعل الانسان لِما يريد ونَيّله لِما يختار، والأقرب أن منشاء هذا التصور هو التغريب لشيوع ذات الفَهم في المذهب الليبرالي الأنجلو سيكسوني المعاصر بحسب فوكوياما في نهاية التاريخ، وبحسب ما تُصوّره بعض الإعلاميات وتجسده إباحة بعض الممارسات المُفهمة عموما: إنها مجرد التحرر من القيود أو مجرد انعدام ما يعترض سبيل الانسان من العوائق الخارجية، وهو ذات مفهومها في أعمال الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز.

غير ان تَصوّر الحرية بهذا النحو من الاطلاق ما هو إلا تَصوّر أوّلي، فهوبز نفسه يلتزم بان الطبيعة البشرية جموح مستعصية، وأن الضمان الوحيد لما فيها من غرائز وشهوات هو إخضاعها للسيادة والقانون، وايضا ما هو إلا تَصوّر فاسد لمعارضته ميّولنا الفطرية للاجتماع والمَدنية وحاجتنا الضرورية لقانون يحكم افعالنا ويحدد خياراتنا لئلا تعم الفوضى ويختل النظام لتضاد الارادات واختلاف الاهداف واتحاد المُخّتارات.

كما إن مجرد التحرر من القيود يسلب الحرية قيمتها وغائيتها ويُصيّرها مبتذلة، لصدقها حينئذٍ على كل متحرّك خالٍ من العوائق الخارجية انسانا كان أم حيوانا سائبا أم تفاحة نيوتن مع إننا نقطع بظاهرية عدم القيد في الجميع حتى للحيوان المحكوم للغريزة وللتفاحة المحكومة للجاذبية.

أما مُنظّري الثورة الفرنسية فيظهرون فهما أرقي للحرية فيما ورد في إعلان حقوق الانسان والمواطن الفرنسي للعام 1789، إن الحرية حقُ الانسان في فعل ما يريد مالم يتسبب في الضرر للآخرين، أي أن الحرية عندهم مقيدة لا مطلقة وحَدُّها بداية حرية الآخرين، أما مَن يُحدد حدودها بين الأفراد ويضمن تمتع الجميع بذات الحقوق فهو القانون الوضعي.

ومع أهمية هذا القيد في رفع بعض المؤاخذات السابقة إلا إن الحرية لاتزال ناقصة، إذ أختُزِلت بالجانب المادي لأفعال الانسان وسلوكياته وجانبت ما هو أهم وأشد خطرا وهو الجانب الروحي الميتافيزيقي، مع إن الأول محكوم له وترجَمة لما يجول فيه، كما إنها لاتزال مُبهَمة من جهة طبيعة الفعل وشموله لكل مُراد للإنسان سواء أكان ذا هدف وغاية أم كان عبثيا وفوضويا.

أما الفلسفة الالمانية الهيجلية فتقدم لنا رؤية أكثر رقيا لمفهوم الحرية، إذ تجدها مع ثبات أحقيتها الطبيعية لكل فرد ولزوم خضوعها لقانون عام إلا إن حقيقة الأنسان لا تتحدد بطبيعته المادية الحيوانية فحسب، وانما منشاء إنسانيته هو قدرته على نفي تلك الحقيقة أو التغلب عليها، ومؤدى ذلك عدم انحصار الحرية بالمعاني الصّورِيَّة المتقدمة بل بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة، بأن يأبى الأنسان إلا الاختيار الاخلاقي الحر وأن يحدد سلوكه لا على أساس منافعه المادية وانما على أساس ما ينعم به من حرية وضع قواعد سلوكه فالالتزام بها.

وأما ائمة وفلاسفة المسلمين فلا يخالفون الغيرَ أصلها ويُخالفونهم معناها، فالحرية عندنا أمر فطري وحق طبيعي ألهمه الله تعالى خَلقَه دونما استثناء، ولتواتر الاقوال في هذا المعنى بات مشهور مُسلّم لا يُخالف فيه أحد، فَعن أمير المؤمنين على بن ابي طالب عليه السلام “أيّها الناس، إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإنّ الناس كلَّهم أحرار” وعَنه في وصيته لأبنه الحسن عليهما السلام “لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً”.

أما معناها فعندنا هو الأتم والأكمل وذلك لجمعه بين – احترام إرادة الانسان، وأنه ثَمّة مَهمّة ملقاة على عاتقه، مع هَديهِ إلى سُبل الخير والسعادة لا في الدنيا فقط بل وفي الآخرة، وهذه التوليفة ظاهرة إذما فهمنا الحرية بانها: رفع جميع القيود والعقبات التي تشكل عائقا امام قابليات الانسان واستعداداته وطاقاته التي وَهَبَها اياه الله تعالى على المستويين المادي والمعنوي.

ولَمّا كان الانسان يجمع بين قوى غريزية وأكتسابية متباينة وضرورية لتكامل رقيه، كان عليه أنْ يرجح بينها ويقدم أيها أشد تأثيرا اتجاه ذلك التكامل، أما ما يثبط قواه الكمالية ويحجبها فممنوع ولا احترام له ولو كان من انتخاب الانسان واختياره.

من ثَمَ فقد أقتضى هذا المعنى للحرية قانونا ومُقننا خاصين وما عليه فلاسفة الغرب من أن العلم هو السبيل الأوّفر لكبح جماح النفس البشرية وإن تطور العقل البشري وتراكم خبراته يمنحه صلاحية سَن قانون عام يؤدي الغرض ويعود بالنفع على الجميع غير تام وغير مقبول عند أئمة وفلاسفة المسلمين حيث يذهبون لا إلى العلم بل إلى مَن وهَبَ العلم، وهو العالم بحقيقة الخلق واسباب صلاحهم وفلاحهم وان شريعة السماء هي القانون الأقوم حيث لاعِدّلَ لها ولا بديل.

وصواب أحد الرأيين غير خافٍ وفيه نحا “مطهري” منحا بليغا مؤداه: إن وسيلية العلم للإنسان تشمل جميع أهدافه ومَراميه ولو كانت الحاق الاذى بالآخرين والتسلط عليهم، وليس من شأنه ردع الأنسان أو رده الى جادة الصواب بل يكون آلته لتحقيق تلك المرامي والاهداف اللاإنسانية.

وذاتُ الحقيقة نجدها في تعليقة جون ديوي على إبقاء الألمان لمفردة كُلتور(kultur) في الدعايات القومية بما تحمل من دلالة على سيادتهم الثقافية بما نصه: “فالسيادة في ميدان الثقافة تخول لأصحابها سلطه شرعية على الشعوب المتخلفة شبيهة بسلطة الانسان على الحيوان”.

ختاما ثَمّة ما تجدر الإشارة إليه من إن التزام القول: بفطرية الحرية وأنها حق طبيعي لا يعني البتة إمكان افتراضها موجودة أو إنها سهلة المَنال، وإنما هي امرٌ على الارواح الحرة تَحّصيّله ولو بإعدامها وفنائها حتى قيل إن فسائل الحرية لا ترويها إلا الدماء، وكلما كانت الارواح عظيمة وأكثر تحررا تَرَقّت فناشدت الحرية لا لذاتها بل لغيرها وهدفت لا لتخليص أنفسها بل لتخليص المجتمعات والامم من العبودية وبراثن الخضوع والخنوع لأبناء نوعها، ولعلنا نجد في هذا المعنى تفسيرا لجانب كبير من أفعال العظماء والمصلحين عبر التاريخ الانساني، ومنها فعل الامام الحسين بن علي عليهما السلام في طف كربلاء، وأدراكا لمغزى مقولاتهم، ومنها مقولته عليه السلام: كونوا أحرارا في دنياكم.