عقلانية المعتزلة وضرورات واقعنا الاسلامي في العصر الراهن

      التعليقات على عقلانية المعتزلة وضرورات واقعنا الاسلامي في العصر الراهن مغلقة

 

أ . م . حيدر خضير مراد

مركز الدراسات الاستراتيجية / قسم الدراسات الدولية

أيار / 2021 م

يمثل المعتزلة أول مدرسة كلامية واسعة ظهرت في الاسلام، وأوجدت الاصول العقلية للعقائد الاسلامية (1) ، ظهرت في بداية القرن الثاني للهجرة / الثامن للميلاد في مدينة البصرة ، كأحدى الفرق الكلامية الاسلامية (2) ، التي كان لها تأثير كبير على ثقافة المسلمين (3) ، فهم رواد النظر العقلي في الاسلام (4) ، وخير من يمثل العقلية الاسلامية الناهضة وخير من دافع عن العقيدة دفاعاً فلسفياً (5) .

ويرى القسم الاعظم من المؤرخين (6) أن نشأة المعتزلة نشأة دينية يرجع أصلها الى النقاش في مسائل عقدية دينية ولا سيما مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة التي أدت الى انفصال واصل بن عطاء (7) عن حلقة أستاذه الحسن البصري (8) ، حينما تكلم عن مرتكب الكبيرة وجعله في منزلة بين المنزلتين (9) ، فلم يحكم عليه بالإيمان ، ولا الكفر ، واعتزل الى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن ، فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ، فسُمي هو وأصحابه : معتزلة (10) ، وأن هذا الاعتزال المكاني تبلور فيما بعد الى اتجاه عقائدي فكري ميّز المعتزلة عن باقي الفرق بأصولها الخمسة المعروفة.

وهم يسمون أصحاب العدل والتوحيد (11) ، ويلقبون بالقدرية (12) وبالعدلية (13) ، وأصول مذهبهم هي التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (14) ، فمن خالفهم في التوحيد سموه مشركاً (15) ، ومن خالفهم في الصفات سموه مشبهاً (16) ، ومن خالفهم في الوعيد سموه مرجئاً (17) ، ومن اكتملت له وتحققت فيه الأصول الخمسة فهو المعتزلي حقاً (18) .

ولم يكن طريقهم سهلاً ميسوراً  ، بل أنهم مروا بظروف قاهرة جسيمة وتقلبت عليهم احداث ضخمة ، وصادفوا على مر تلك السنوات التي عاشوها ألواناً مختلفة من التعسف وضروباً متباينة من العيش فأحياناً تدبر عنهم الدنيا وتضطهدهم الدولة ، واحياناً تقبل عليهم الدنيا ويلتف حولهم الناس ، ويحتضنهم الحكام ويقربونهم (19) ، لكنهم لم يشتد أزرهم ويقوى عضدهم الا في عصر بني العباس ، وخاصة في عهد المأمون والمعتصم والواثق حيث تمكن المعتزلة من اثارة مسألة خلق القرآن للتنكيل بخصومهم من الفقهاء والمحدثين المعارضين لتوجهاتهم الفكرية ومنهجهم العقلي (20) .

لكنهم تعرضوا لنكبة شديدة على يدي الخليفة المتوكل ( ت 247 هـ / 861 م) الذي انهى محنة خلق القرآن وناصر الفقهاء والمحدثين (21) .

قام المعتزلة بتعظيم العقل البشري ، فهو المرجع عندهم (22) ، وله دور رئيسي في فهم الدين الاسلامي ، خصوصا في العقائد وهم يقدمونه على النقل (23) ، ويؤمنون بقوته ويثقون بمقدرته على ادراك الأشياء والمفاضلة بين الأمور ، ولقد أدى بهم ذلك الى وضع قاعدتهم المشهورة في المعارف ، وهي : “الفكر قبل ورود السمع” ، فالمعتزلة جميعاً متفقون على ان الانسان العاقل قادر بعقله قبل ورود الشرع على التمييز بين حسن الاشياء وبين قبحها ، قادر على التفريق بين الخير وبين الشر ، قادر فوق ذلك على معرفة الله تعالى ، وان قصر في تلك المعرفة استوجب العقوبة ابداً (24) .

ولا يمكن لأحد أن ينكر أثر المعتزلة ودورهم الايجابي الفاعل في تحرير الفكر الاسلامي من حالة الجمود على النصّ ، وأتباع الاساليب التقليدية في النقاش والحوار، والاكتفاء بالنصوص القرآنية والأحاديث وحدها في الرد على معارضي الفكر الاسلامي من مشكّكين ، وزنادقة ، وملاحدة ، وأصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى (25) ، ولم يكن التفكير النصوصي وحده كافياً بأساليبه التقليدية ، وبنزعته الميّالة الى التهرب من الجدل والحوار ، ومن الاستعانة بالأساليب العقلية والمنطقية ، والفلسفية التي دخلت المجتمع الاسلامي من الثقافات والحضارات الأخرى ، في هذه المواجهة(26) .

فالمنهج العقلي بوصفه تياراً فكرياً ومنهجاً عقلياً كان لابد من ظهوره، وذلك لمجابهة التحديات الفكرية التي لاقاها الاسلام (27) ، وتروي لنا كتب التأريخ صوراً كثيرة عن جهاد المعتزلة في الدفاع عن الاسلام وفي نشر العقيدة الاسلامية من خلال استخدام نفس السلاح الفلسفي والمنطقي الذي كان يتسلح به أعداء الدين الاسلامي آنذاك من الزنادقة والملحدين خلال العصر العباسي (28) ، وقد أرسى المعتزلة دعائم حركة عقلية واسعة كان لها أكبر الأثر في صياغة الحضارة الاسلامية ، نظراً إلى أن مذهبهم كان يقوم في الأساس على احترام العقل وتمجيده ، والتعويل عليه في استنباط واستنتاج الكثير من الأحكام الشرعية من جهة وأساليب التفكير السليم من جهة أخرى (29) .

يقول المستشرق جولدتسيهر في هذا الصدد: ” نحن لا نستطيع نكران أنه كان لنشاط المعتزلة نتيجة نافعة ، فقد ساعدوا في جعل العقل ذا قيمة حتى في مسألة الإيمان ، وهذا هو الفضل الذي لا يجحد والذي له اعتباره وقيمته ، والذي جعل لهم مكاناً في تاريخ الدين والثقافة الاسلامية”(30) ، ويقول المستشرق نيكلسون : ” إن المعتزلة قد ارتقوا بالتفكير الإسلامي الى منزلة يعتد بها”(31) .

ونحن اليوم وفي عصرنا الراهن بحاجة ماسة الى عقلانية المعتزلة  وافكارهم المستنيرة  ذات الطبيعة المنطقية والناقدة ، والتي تعطي للعقل أهمية كبيرة ، وتدعوا الى احترام حرية الفكر من أجل معالجة مشاكل واقعنا الاسلامي الراهن ، ومحاربة الفكر الارهابي المتطرف الذي يمثله داعش وغيره من التنظيمات الارهابية الأخرى التي تخالف بأفعالها الوحشية واللاإنسانية تعاليم الدين الاسلامي الحنيف وتشوه صورة الاسلام في العالم ، وذلك من خلال احياء روح التفكير العقلاني والمنطقي في حل مشاكل مجتمعنا الاسلامي المعاصر ، عن طريق نشر روح التسامح والانفتاح على الطرف الاخر ، وتبني لغة الحوار والتفاهم بين المختلفين والمتخاصمين ، والابتعاد عن التعصب والتزمت في تفسير النصوص الدينية ، وتبني رؤية موضوعية عقلانية تجاه الدين والتوفيق بين العقل والشرع ، ونبذ العنف والارهاب والافكار الدينية المتطرفة .

الهوامش :

(1) فتاح ، عرفان عبد الحميد ، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية ، ط 1 ( بغداد : مطبعة الارشاد ، 1378 هـ / 1967 م ) ، ص83 .

(2) جار الله ، زهدي حسن ، المعتزلة   ، ( القاهرة : مطبعة مصر ، 1366 هـ / 1947 م ) ، ص1 .

(3) الربيعي ، فالح ،  أثر المعتزلة على الأدب العربي  ، مجلة رسالة التقريب ، العدد 19 – 20 ، ( قم : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية ، د . ت ) ، ص 1 .

(4) أسماعيل ، محمود ، الحركات السرية في الاسلام ، ط 5 ( بيروت : مؤسسة الانتشار العربي ، 1997م) ، ص 91 .

(5) فتاح ، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية ، ص 108 .

 (6) الشهرستاني ، محمد بن عبد الكريم (ت 548 هـ/ 1153 م ) ، الملل و النحل ، تح : احمد حجازي و محمد رضوان ، ( المنصورة : مكتبة الأيمان ، 1427 هـ /  2006 م ) ، ج1، ص45 – 46 .

(7) ابو حذيفة واصل بن عطاء المعتزلي ، المعروف بالغزال ، مولى بني ضبة ، وقيل مولى بني هاشم ، كان احد الائمة البلغاء المتكلمين في علوم الكلام وغيره ، توفي سنة 131هـ / 748م  في البصرة . ينظر : أبن خلكان ، وفيات الأعيان ، مج6 ، ص7 .

(8) هو ابو سعيد الحسن بن يسار البصري ، كان من سادات التابعين وكبرائهم ، جمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة ، توفي بالبصرة سنة 110 هـ / 729 م . أبن خلكان ، وفيات الأعيان ، م2 ، ص69 – 72 .

(9) هي أولى القضايا التي تعرض لها المعتزلة ، والتي ارتبطت بتاريخ نشوئهم واعتزالهم ، فهم يرون أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمناً ولا كافراً ولكنه في منزلة بين المنزلتين ، وهذا المبدأ هو الذي أشتهر في التاريخ كسبب للخلاف بين الحسن البصري ، وواصل بن عطاء ، ذلك الخلاف الذي تبلورت على أثره مدرسة المعتزلة . راجع : الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج 1 ، ص 45 – 46 ؛ عمارة ، محمد ، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية ، ط 1 ( بيروت : المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، 1972 م )، ص 65 – 66 .

(10) الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج 1 ، ص 45 – 46 .

(11) المقبلي ، الشيخ صالح اليماني ( ت 1108هـ ) ، العلم الشامخ في أيثار الحق على الآباء والمشايخ ، ( القاهرة : د . مط ، 1331 هـ / 1912 م ) ، ص 300 .

(12) السبحاني ، بحوث في الملل والنحل , ج 3 ، ص184 ,

(13) صبحي ، أحمد محمود ، في علم الكلام دراسة فلسفية لأراء الفرق الاسلامية في أصول الدين ” المعتزلة ” ، ط 4 ( الإسكندرية : مؤسسة الثقافة الجامعية ، 1982 م ) ، ج 1 ، ص108.

(14) الخياط ، عبد الرحيم بن محمد ( ت بعد 300هـ/ 912م ) ، الانتصار و الرد على ابن الروندي الملحد ، تح : نيبرج ، ط 2 ( بيروت : مطبعة أوراق شرقية ، 1413 هـ / 1993 م ) ، ص 126- 127 .

(15) القاضي عبد الجبار ، شرح الأصول الخمسة ،  ص 124 .

(16) عمارة ، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية , ص 47 .

(17) المرجئة : جماعة كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد ، ويقولون لا تضر مع الأيمان  معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة . الشهرستاني ، الملل والنحل ، ج 1 ، ص 116 .

(18) الخياط ، الانتصار ، ص126 – 127 ؛ فتاح ، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية ، ص94 – 97

(19) بلبع ، أدب المعتزلة ، ص152 – 153 .

(20) جار الله ، المعتزلة ، ص162 .

(21) أمين ، ضحى الاسلام ، ط 7 ( القاهرة : مكتبة النهضة المصرية ، 1964 م ) ، ج3  ، ص198.

(22) عليان ، شوكت ، العقل في الاسلام  ، مجلة المورد ، المجلد التاسع ، العدد 4 ،(بغداد : دار الحرية للطباعة ، 1401 هـ / 1981 م ) ، ص 100 .

(23) البراتي ، عباس علي ،  دراسة في المنهج لعلم الكلام المقارن  ، مجلة رسالة التقريب ، العدد 4 ، (قم : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية ، 1414 هـ /1993 م)  ، ص 6 – 7 .

(24)  جار الله ، المعتزلة ، ص162 .

(25) مراد ، حيدر خضير ، مدرسة المعتزلة ودورها في الدفاع عن العقيدة الاسلامية خلال العصر العباسي ، مجلة جامعة كربلاء العلمية ، المجلد الثاني عشر ، العدد الأول / إنساني ، 2014 ، ص 113 .

(26) المرجع نفسه ، ص 113 .

(27) السائح ، أحمد عبد الرحيم ، التقريب بين المذاهب الاسّلامية الكلامية ، مجلة رسالة التقريب ، العدد 3 ( قم : المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية ، 1414هـ/1993م)، ص4 -5 .

( 28) بلبع ، أدب المعتزلة ، ص170 .

( 29) الربيعي ، أثر المعتزلة على الأدب العربي ، ص 4 .

(30) جولدتسيهر ، أجناس , العقيدة والشريعة في الإسلام ، ترجمة : محمد يوسف موسى وآخرون ، ط 2 (القاهرة : مطابع دار الكتاب العربي ، د. ت ) ، ص 120 .

(31)  Nicholson , Literary  History of the Arabs , ( Cambridage : university  press , 1953), p. 369 – 370.