التنظير السياسي لدى القاضي عبد الجبار المعتزلي

      التعليقات على التنظير السياسي لدى القاضي عبد الجبار المعتزلي مغلقة

 

أ . م . حيدر خضير مراد  / مركز الدراسات الاستراتيجية / قسم الدراسات الدولية

حزيران 2021م

   لقد لعب الصراع السياسي دوراً كبيراً في تحديد المذاهب الدينية والكلامية في تاريخ الاسلام ، ذلك أن معظم الفرق التي ظهرت في الاسلام يعود أصلها الى أسباب سياسية ، لأن الاختلاف الذي وقع بين المسلمين في أمر الخلافة هو سبب تشتت المسلمين فرقاً وشيعاً ، أذ ان الصراعات التي حدثت في عهد الخليفة عثمان بن عفان والتي انتهت باستشهاده ، حتى وصل النزاع الى ذروته في عهد الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) والذي جسدته حروب الجمل وصفين والنهروان ، وقد نتج عن هذه الأحداث ظهور عدة فرق كالخوارج والشيعة والمرجئة ، وكانت هذه الفرق عبارة عن احزاب سياسية اصطبغت بصبغة دينية ، أذ كل فرقة تسعى الى فرض آرائها وافكارها وان تكون لها قيادة الدولة الاسلامية .

وفي خضم الصراعات العقائدية والسياسية بين الفرق الاسلامية ، نشأت فرقة المعتزلة التي تعد من أهم الفرق الكلامية في تاريخ الفكر الاسلامي ، وقد عالجت عدة قضايا دينية واجتماعية وسياسية وذلك بالاستناد الى الادلة العقلية والنقلية لتبرير افكارها (1) ، ومن بين تلك القضايا الت عالجتها مدرسة المعتزلة قضية العلاقة بين العقل والنقل ، ومسألة صفات الله ، ومسألة الحرية الانسانية (2) ، ومشكلة الخلافة وغيرها من المسائل التي شغلت حيزاً كبيراً لدى مفكري المعتزلة ومن بينهم القاضي عبد الجبار ، الذي يعد من أهم رجال الاعتزال والذي عرض الجوانب الفكرية والعقائدية والسياسية للمعتزلة في كتبه ومؤلفاته .

  • نبذة عن سيرته

   هو ابو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني (3) ، وقد لقبه المعتزلة بلقب قاضي القضاة ، ولم يطلقوا هذا اللقب على عداه ، ولا يقصدون به غيره عند الإطلاق (4) ، وهو من بلاد  الري جنوب بحر الخزر ” قزوين” وكانت الري من مراكز الحضارة الاسلامية زمن بني بويه ، أي عصر القاضي عبد الجبار ، وكان أهلها موزعين بين الشيعة والشافعية والحنفية ، تنقل بين الري وبغداد والبصرة ، وفي البصرة تحوّل عن مذهب الاشاعرة الى الاعتزال (5) ، فقد كان في وقت مبكر من حياته يذهب في الأصول مذهب الاشعرية وفي الفروع مذهب الشافعي (6) ، ثم خرج الى البصرة واختلف الى مجالس العلماء ، وتتلمذ على يد أبي اسحاق بن عياش ، فقرأ عليه مدة ، ثم رحل الى بغداد واقام عند الشيخ أبي عبد الله البصري مدة مديدة حتى فاق أقرانه ، وخرج فريد زمانه ، وصنف وهو بحضرته كتباً كثيرة منها : كتاب “شرح الأصول الخمسة” ، وكتاب “المختصر في أصول الدين” ، وكتاب “المغني في أبواب التوحيد والعدل” (7) .

لم تحدد كتب الطبقات والتراجم تاريخ مولده ، غير أن معظم الذين كتبوا عنه أجمعوا على انه توفي سنة 415 هـ/ 1024م  بالري ، وانه عمر طويلاً حتى تعدى التسعين سنة ، وعلى ذلك يمكن تحديد تأريخ ولادته على وجه التقريب ما بين سنتي 320 – 325هـ/932 – 937م(8) .

  • التنظير السياسي في فكر القاضي عبد الجبار المعتزلي

مع أن القاضي عبد الجبار قد عاش في عصر نفوذ بني بويه وكانوا مؤيدين للمعتزلة الا أنهم كانوا شيعة بالدرجة الأولى ، وكان القاضي عبد الجبار يمثل الاعتزال الخالص الذي يخالف الشيعة بما في ذلك الزيدية حول مفهوم الامامة (9) ، وحول الكثير من القضايا والآراء السياسية في ذلك العصر .

فعن قضية الامامة وطرق وجوبها – والتي تعد من أهم القضايا السياسية آنذاك – يقول القاضي عبد الجبار : “أختلف الناس في وجوه ثلاث فمنهم من لم يوجبها أصلاً وهم الأقل ، ومنهم من أوجبها عقلاً ، ومنهم من أوجبها سمعاً” (10) .

ومن الذين يرون وجوب الامامة عقلاً المعتزلة البغداديون والجاحظ وأبو الحسن البصري والشيعة الامامية ، بينما يرى فريق أخر وجوب الامامة شرعاً ومنهم الجبائيان ابو علي وابو هاشم ومعتزلة البصرة ومعهم القاضي عبد الجبار الذي يقول : ” وأحد ما يدل على أن الامامة لا تجب من جهة العقل ، أن الامام إنما يراد لأمور سمعية ، كإقامة الحدود وتنفيذ الاحكام”(11) .

ويرى القاضي عبد الجبار ان طريق عقد الامامة هو الاختيار والبيعة مخالفاً بذلك الشيعة الامامية التي ترى أن ذلك هو بالنص والتعيين ، حيث يقول القاضي عبد الجبار عن المعتزلة :” فقد قرروا ذلك وأجمعوا عليه وعملوا به ، وأنه لا خلاف ظهر بينهم في ان طريق الامامة الاختيار والبيعة ” (12) .

فالقاضي عبد الجبار يعطى الحق للأمة في اختيار أئمتها لأنها من المصالح الدنيوية فهي التي تختار الحاكم ، ويكون ذلك عن طريق اختيار جماعة من المسلمين – أهل الحل والعقد – ثم يتم العقد والبيعة للإمام ، اعتماداً على مبدأ الشورى ، فالشورى في الاسلام اساس الحكم استناداً الى قوله تعالى : ” وامرهم شورى بينهم ” (13) ، وقد وضع القاضي عبد الجبار شروط يجب توفرها في الامام وهي : الحرية والعقل والعلم والعدالة والقريشية (14) .

وقد ذهب القاضي عبد الجبار وعامة المعتزلة الى ” أن الامام بعد رسول الله (ص) أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ( عليه السلام ) ، ثم من اختارته الأمة ، وعقدت له ممن تخلق بأخلاقهم وسار بسيرتهم ” (15) .

ويرى القاضي عبد الجبار ان مهمة الامام مهمة دنيوية فقط ، باعتبار أن الامام ينصب لمصالح الدنيا لا الدين (16) ، ويرى عدم وجود فرق بين الامام والخليفة ، وأن كليهما يشير الى شخص واحد ، إذ يقول : ” لم يرووا عن الصحابة ذكر الامام ، وإنما كانوا يذكرون الأمير والخليفة ” (17) .

وقد بين القاضي عبد الجبار رأيه في بعض المسائل السياسية التي كانت موضع جدل ونقاش ومنها رأيه في أصحاب الجمل حيث وصف القاضي عبد الجبار كلاً من عائشة وطلحة والزبير بأنهم من المخطئين التائبين (18) ، وأتهم معاوية بن أبي سفيان بأنه أول من قال بالجبر ، وأظهره ليجلعه عذراً فيما يأتيه ، ويوهم الناس أنه مصيب وأن الله جعله اماماً وولاه الأمر ، وانتشر ذلك في ملوك بني أمية ، وقد استثنى القاضي عبد الجبار من هذا الحكم السابق في ملوك بني أمية ، يزيد بن الوليد الملقب بالناقص وعمر بن عبد العزيز (19) .

وخلاصة القول ان المعتزلة قد عاشوا في عصر المشكلات السياسية الكبرى ، وابدو آراءهم في جميع المسائل السياسية التي كانت موضع بحث ونقاش في عصرهم ، وكانت اراءهم وافكارهم السياسية موجودة ضمن طيات آرائهم الكلامية ، وقد أنتج رجال مدرسة الاعتزال بحوثاً متنوعة حول قضايا الفكر السياسي ، وفي مقدمتهم القاضي عبد الجبار الذي كان له اراءه وافكاره المتميزة في مجال التنظير السياسي والتي تعتبر مصدراً مهماً من مصادر التراث السياسي الاسلامي .

ونحن اليوم بحاجة الى دراسة التراث الفكري السياسي للمعتزلة والقاء المزيد من الضوء عليه من أجل الاستفادة من آراء المعتزلة العقلانية في معالجة مشاكل واقعنا الاسلامي الراهن ، ومحاربة الفكر الارهابي المتطرف .

الهوامش :

  • فتاح ، عرفان عبد الحميد ، دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية ، ط 1( بغداد : مطبعة الارشاد ، 1378 هـ / 1967 م ) ، ص 108 .
  • جار الله ، زهدي حسن ، المعتزلة ، ( القاهرة : مطبعة مصر ، 1366 هـ / 1947م) ، ص 83 ؛ عمارة ، محّمد ، المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية ، ط 1 ( بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 1972 م ) ، ص 44 .
  • الصفدي ، خليل بن أيبك ( ت 764 هـ / 1362 م ) ، الوافي بالوفيات ، تحقيق : أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى ، ط1  (بيروت : دار أحياء التراث العربي ، 1420 هـ / 2000 م ) ، ج 18 ، ص 20 – 21 .
  • السبكي ، تاج الدين عبد الوهاب بن علي ( 771 هـ / 1369م ) ، طبقات الشافعية الكبرى ، تحقيق : مصطفى عبد القادر ، ط1( بيروت : دار الكتب العلمية ، 1420 هـ / 1999 م ) ، ج 3 ، ص116 .
  • صبحي ، أحمد محمود ، في علم الكلام دراسة فلسفية لآراء الفرق الإسلامية في أصول الدين (المعتزلة ) ، ط 4 ( الإسكندرية : مؤسسة الثقافة الجامعية ، 1982 م ) ، ج1 ، هامش ص 343 .
  • أبن المرتضى ، احمد بن يحيى ( ت 840 هـ / 1437 م ) ، طبقات المعتزلة ، ط 2 (بيروت : دار المنتظر ، 1407 هـ / 1987 م ) ، ص 112 .
  • المصدر نفسه ، ص 113 .
  • ينظر : الصفدي ، الوافي بالوفيات ، ج 18 ، ص 21 .
  • صبحي ، في علم الكلام ، ج 1 ، هامش ص 343 .

(10) القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( 415 هـ / 1024 م ) ، المغني في أبواب التوحيد والعدل ، تح : محمود محمد قاسم ، مراجعة : ابراهيم مدكور ، ( القاهرة : مطبعة دار الكتب ، 1382 هـ / 1962م)، ج 1 ، ص 16 .

(11) المصدر نفسه ، ج 1 ، ص 39 .

(12) المصدر نفسه ، ج 1 ، ص 287 .

(13) سورة الشورى ، الآية 38 .

(14) القاضي عبد الجبار ، المغني ، الامامة ، ج 1 ، ص 201 ، 228 .

(15) القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( 415 هـ / 1024 م ) ، شرح الأصول الخمسة ، تعليق : أحمد بن الحسين بن أبي هاشم ،  تح : عبد الكريم عثمان ، ط 3 ( القاهرة : مكتبة وهبة ، 1416 هـ / 1996م ) ، ص 758 .

(16) القاضي عبد الجبار ، المغني ، ج 20 ، ص 77 .

(17) المصدر نفسه ، ج 20 ، ص 129 .

(18) المصدر نفسه ، ج 20 ، ص 78 .

(19) المصدر نفسه ، ج 20 ، ص 150 .