مفهوم الجهاد في فكر الشيخ محمد عبده

      التعليقات على مفهوم الجهاد في فكر الشيخ محمد عبده مغلقة

أ.م. حيدر خضير مراد

باحث مشارك في قسم الدراسات السياسية/ مركز الدراسات الإستراتيجية

كانون الثاني 2021م

  يعدّ المفكر الإسلامي محمد عبده ( 1849 1905م) من أبرز منظري حركة الإصلاح السياسي والديني في العالمين: العربي والإسلامي(1)، حتى وصف “بعبقري التنوير” و ” برائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني”، وقد تميز مشروعه الفكري التجديدي في المجال السياسي،بالدعوة الى مدنية الدولة والحكومة، ونفي السلطة الدينية عن الحاكم(2).

   ولمّا كان مفهوم الجهاد في الفكر الإسلامي يعدّمن أكثر المفاهيم الخلافية، التي كان ولا يزال الجدل محتدماً بشأنه، كما أنّه من أكثر المفاهيم الإسلامية عرضة للتأويلات والتوظيفات المختلفة عبر الزمان، لذلك أردنا من هذا المقال تسليط الضوء على موقف الشيخ محمد عبده من مفهوم الجهاد في الإسلام، وأول ما يلفت النظر في هذا المجال، هو إنَّ المفكر الإسلامي محمد عبده على الرغم من معالجته لموضوعات عديدة في مؤلفاته، إلا إنّه لم يترك بحثاً خاصاً عن موضوع الجهاد، بل عالج هذا الموضوع بصورة عرضية، عند قيامه بتفسير بعض آيات القرآن الكريم، أو في عدد من بحوثه السياسية والاجتماعية.

  يُعرف الشيخ محمد عبده الجهاد، كما جاء في الآية القرآنية: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(3)، عادّاً الجهاد بالنفس، بمعنى القتال أو الجهاد بالمال، وقد شرَّعه الله تعالى للمسلمين، للدفاع عن الحق وأهله، وحماية الدعوة ونشرها، الأمر الذي يبطل حسب وجهة نظره ما يدعيه أعداء الإسلام، وحتى بعض المنتمين إليه، من زعمهم أنَّ الإسلام انتشر بالسيف(4).

  أمّا الاعتداء فقد حُرمّ، وعدَّ من ” السيئات المكروهة عند الله “، فالمشركون كما رأى محمد عبده كانوا يبدؤون المسلمين بالقتال من أجل إرجاعهم عن دينهم، إذ كان قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مدافعة عن الحق وأهله، وحماية لدعوة الحق، مؤكداً أنَّ تقديم الدعوة “كان شرطاً لجواز القتال، وإنَّ الدعوة إلى الإسلام كانت بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، وفقاً لما ورد في القرآن الكريم: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ(5).

  ورأى محمد عبده أنَّ حروب الصحابة في صدر الإسلام، لم تنحرف عن هذا التوجه، إذ كانت هي الأخرى من أجل حماية الدعوة، ومنع المسلمين من تغلّب الظالمين، فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت في حوزة الإسلام، وكان الفرس أشد إيذاءً للمؤمنين منهم، أما ما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية فقد اقتضته طبيعة الملك، ولم يكن كله موافقاً لأحكام الدين(6).

   ويؤكد محمد عبده أنَّ الجهاد بمعنى القتال، هو فرض كفاية على المسلمين، بحيث إنَّ قيام بعضهم به يعفي الآخرين من القيام به، وإنَّ من الجهادجهاد النفس، الذي روي عن السلف الصالح التعبير عنه بـ ” الجهاد الأكبر”، ومن أمثلته مجاهدة الإنسان لشهواته ولا سيما في سن الشباب، وجهاده بماله، وما يبتلى به المؤمن من مدافعة الباطل ونصرة الحق، وهو جهاد قد يفضل احياناً على جهاد الأعداء في الحرب(7).

  وقد دخل المفكر محمد عبده في سجال مع الذين يفهمون الجهاد في الإسلام فهماً خاطئاً أو مغرضاً، إذ فنّد، في المناظرة التي دارت بينه وبين فرح انطون، القول القائل: إنّ الدين الإسلامي دين جهادي، شرّع فيه القتال، الذي لم يشرّع في الدين المسيحي، وإنَّ في طبيعة الإسلام روح الشدة على من يخالفه، إذ أكد أنَّ القتل ليس من طبيعة الإسلام بل من طبيعته العفو والمسامحة، وأنَّالقتال فيه هو لرد اعتداء المعتدين على الحق وأهله إلى أن يأمن شرهم، ولم يكن ذلك ابداً للإكراه على الدين ولا للانتقام من مخالفيه(8). ويتابع محمد عبدهقائلاً: إنَّ الفتح العربي الإسلامي كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس وما كانوا عليه من الدين، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الاعتقاد، بل يكلفهم بجزية يدفعونها، لتكون عوناً على صيانتهم والمحافظة على أمنهم في ديارهم(9)، أمّا إذا كان بعض المسلمين قد انحرفوا عن هذه الأحكام، عندما بدأ الضعف في الإسلام، فذلك مما لا يلصق كما يؤكد بطبيعة الإسلام، ولا يخلط بطينته(10).

   ومن ناحية أخرى ينفي محمد عبده أن تكون الحروب التي نشبت بين المسلمين أنفسهم حروباً من أجل العقيدة، بل أشعلتها من وجهة نظره الآراء السياسية في طريقة حكم الأمة، فالحرب بينالأمويين والهاشميين كانت، كما أكد، حرباً على الخلافة، وهي بالسياسة أشبه، بل هي أصل السياسة(11)، وأما الحروب الداخلية التي حدثت بعد استقرار الخلافة العباسية وأضعفت المسلمين وفرقّت كلمتهم، فقد كانت حروباً منشأها طمع الحكام، وفساد أهوائهم، وحبهم الاستئثار بالسلطان دون سواهم(12).

   وهكذا انبرى المفكر محمد عبده للدفاع عن مفهوم الجهاد، ذلك المبدأ الإسلامي السامي الذي شُرِّع في الأساس للدفاع عن النفس والأرض والمقدسات، وليس للعدوان والتعدي على الآخرين، وعمل على ايضاح الجوانب المختلفة لفكرة الجهاد،من أجل تنقية مفهومه مما علق به من شوائب وتصورات خاطئة وتأويلات مغلوطة، فكان من أبرز مفكري عصر النهضة، الذين تناولوا مفهوم الجهاد،واوضحوا طبيعته وخصائصه الايجابية، ومقاصده النبيلة والإنسانية، ونحن اليوم وفي عصرنا الراهن بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة أدبيات أو إرث المفكرين والمصلحين المسلمين، وعمل تحليل مضمون لها، وذلك من أجل البحث في تراثهم عن حلول تسهم في معالجة مشكلات واقعنا الإسلامي الراهن، ومجابهة الغزو الثقافي الغربي، ومحاربة الفكر المتطرف.

الهوامش :

(1) مراد ، حيدر خضير، الاصلاح السياسي عندالمعتزلة الجدد: محمد عبده  أنموذجاً، 14 كانون الثاني 2020م، مقال منشور على موقع مركز الدراسات الإستراتيجية/ جامعةكربلاء، على الرابط:

http://kerbalacss.uokerbala.edu.iq/wp/blog/2020/01/14

(2) جلول، عائشة، الفكر الإصلاحي عند محمدعبده، رسالة ماجستير غير منشورة، (جامعةقاصدي مرباح ورقلة، كلية العلوم الانسانيةوالاجتماعية، 2017م)، ص39 .
(3) سورة البقرة، الآية 218 .
(4) الشريف، ماهر، تطور مفهوم الجهاد فيالفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، 9 أذار 2008م، مقال منشور على شبكة الانترنيت، على الرابط : https://www.albayan.ae/paths/books
(5) سورة البقرة، الآية 256.
(6) الشريف، تطور مفهوم الجهاد في الفكرالإسلامي الحديث والمعاصر،https://www.albayan.ae/paths/books
(7) مبيضين، مهند، قراءة في فكر الإمام محمد عبده، مقال منشور في موقع الجمل وعلى الرابط الإلكتروني : https://aljaml.com
(8) الامام الشيخ محمد عبده، الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية، ط3 (القاهرة : دار الحداثة ، 1988م) ، ص82 83 .
(9) المرجع نفسه، ص84- 85 .
(10) المرجع نفسه، ص 85 .
(11) المرجع نفسه، ص17 .
(12) المرجع نفسه، ص18 .