أطروحة أرض الســواد وتحديات الأمن الغذائي في العراق

      التعليقات على أطروحة أرض الســواد وتحديات الأمن الغذائي في العراق مغلقة

أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث مشارك في قسم إدارة الأزمات

مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء

أرض السـواد وعلاقتها بحضارات العراق:

لقد اختصّت أرض العراق منذ قرون بلقب أرض السواد، للتعبير عن كثافة الزرع والخضرة الواسعة التي تجود بها بلاد الرافدين، وما كانت تتسم بهِ من مياهٍ وفيرةٍ وبساتينَ ونخيل. فعند الفتح الاسلامي للعراق وجد المسلمون أرضَ العراق موشـحة ًبالخضرةِ وكثافةِ الزرع، فأطلقوا عليها (أرض السواد), وازداد اهتمامهم بالزراعة وتنظيم الحقول، مثلما اهتموا ببناء المساجد.

ولم يأتِ مصطلح أرض السواد بمعزلٍ عن جذورهِ التي تضرب في عمق تاريخ العراق, حيث أُقيمت على أرض بلاد الرافدين أولى الحضارات في العالم. وتشير الوثائق الأثرية إلى أنّ سهولَ العراق في بابل كانت تدعى (عدن), كما أنّ أصل كلمة (جنة عدن) التي وردت في الكتب القديمة استخدمها السومريون، وهي تعني الأرضَ الخصبةَ الوفيرةَ المياه. ونظراً للخصائص الطبيعية والموقع الجغرافي المتميّز لبلاد الرافدين, فقد عَدّها العديدُ من الباحثين أنّها تمثّل المهدَ الأول لظهور الزراعة على الأرض في حدود الألف التاسع ق.م، عندما اهتدى انسان بلاد الرافدين إلى الزراعة بحلتِها البسيطة المعتمدة على خصوبة التربة وتوفر المياه الغزيرة المتدفقة من نهري: دجلة والفرات[1]. واستمر الاهتمام بالزراعة والري عبر مراحل حضارات العراق المختلفة, فانتشرت زراعة النخيل والحبوب والخضروات إلى جانب زراعة الفواكه، في البساتين المنتشرة على ضفاف الأهوار، وجداول الأنهر في عصر سومر وبابل, كما اهتم الكلدانيون بالزراعة والري، إذ قام (نبوخذ نصر) بإنشاء مشروع البحيرات، لارواء الأراضي الزراعية, كذلك مشروع (الجنائن المعلقة) الذي يُعدّ شاهداً ودليلاً على مدى اهتمام حضارات العراق بالزراعة والحدائق والبساتين، حتى صُنفت هذه الجنائن من عجائب الدنيا السـبع. وفي العصر الأكدي استوطنَ الأكديون في وسط بلاد الرافدين بين نهري: دجلة والفرات، مستغلينَ الأراضي بزراعة مختلف أنواع المحاصيل. وفي العصر الآشوري أقام الملك (سنحاريب) مشروعاً لإيصال المياه إلى العاصمة نينوى، وذلك بحفر قناة مائية أقيمت على جانبيها البساتين والحقول الزراعية.

وعندما أصبح العراق تحت الحكم العثماني، كانت النسبة الكبيرة من سكان العراق، تعيش في المناطق الزراعية في الأرياف بالقرب من مصادر المياه, وقد شجّعت حالة الاستقرار في هذه المناطق على زيادة الانتاج الزراعي, إلاّ إنّ مظاهر الخلل في الملكية الزراعية، أخذت تبرز بعد استحداث الحكم العثماني لمبدأ التسجيل العقاري (الطابو)، الذي تم استغلالهُ من قبل الأطراف المتنفذة، للاستحواذ على مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعية وتسجيلها بأسمائهم, ممّا أسهم في تركّز الملكية الزراعية في أيديّ أقلية من الاقطاعيين، وتعميق حالة عدم التوازن والانسجام في علاقات الانتاج بين مالكي الأراضي وبين الفلاحين الذين لا يملكون الأرض, مما شـكّل أحد التحديات أمام القطاع الزراعي في العراق، بسبب الانعكاسات السلبية الناجمة عن سوء توزيع الملكية الزراعية، وسوء توزيع الناتج الزراعي، وانخفاض دخول المنتجين الحقيقيين من طبقة الفلاحين والمزارعين. وقد اسـتمرت العلاقات الاقطاعية في الريف حتى في ظل الحكم الملكي, فعلى الرغم من ما تولّدَ عن مشاريع (مجلس الإعمار) الذي أنشئ في العهد الملكي عام 1950, من نتائج ايجابية انعكس جانب منها على القطاع الزراعي, إلاّ إنّهُ في ظل علاقات الانتاج الاقطاعية التي كانت سائدة، استمرت حالة الفقر بين الفئات الواسعة من الفلاحين ذات الأغلبية من سكان العراق في ذلك الوقت.

وبالرغم من وجود هذا الواقع فانّ حالة الأمن الغذائي في العراق قد شهدت استقراراً، واستطاع الريف العراقي في مراحل كثيرة، أن يستجيبَ لمتطلبات الاحتياجات الغذائية للسكان، مع امكانية تحقيق فائض من بعض المواد الغذائية في سنوات الوفرة, إذ كان العراق يُعدّ من الدول المصدّرة لأنواعٍ من الحبوب وبعض المحاصيل الزراعية، رغم بساطة أساليب الانتاج البدائية التي كانت متاحة في ظل التنوّعٍ البسيط في سـلة المواد الغذائية والأعداد القليلة من السكان. ولذلك فإنّ معايير الأمن الغذائي ليست معايير مطلقة بل هي معايير نسبية ترتبط بتطوّر وتنوّع الحاجات البشرية ومستويات الدخول لفئات المجتمع, ولا ينفي تطوّر هذه المعايير أن يتضمّن معنى الأمن الغذائي، تمكين سكان البلد من الحصول على غذاءٍ كافٍّ، من حيث الكمّ والنوع وفق متطلبات المرحلة، بما يُؤمّن لهم العيش الكريم والجسم السليم, وهو ما يتطلب التوافر السـهل لكمياتٍ من الغذاء تُلبي الاحتياجات، في إطار سياساتٍ اقتصادية واجتماعية تُعنى بخلق فرص العمل، والحدّ من البطالة ومكافحة الفقر، التي تمثّل عناصر أساسية في تمكين المجتمع من الحصول على الغذاء، ممتزجاً بما تقدمهُ الدولة من دعمٍّ، لتوفيرهِ وفق أسعارٍ مناسبة لفئات الدخل المحدود.

محاصيل أرض السـواد الطيّبة وتراجعُ عطائها:

تشير المصادر إلى أنّهُ عند نشوء الدولة العراقية في عام 1921، كانت أرض العراق عبارة عن حقول وبساتين منتشرة في معظم مناطق البلاد, وكانت بغداد خضراء ببساتينها, واشتهرت ديالى بأنّها مدينة البرتقال, كما اشتهرت كربلاء بنخيلها وبساتينها من مختلف أنواع الفواكه وحقول الخضار, واختصت البصرة بأنّها مدينة النخيل دون منازع، وأنّها الأكثر شهرة ً بانتاج أنواع التمور قبل شهرتها بانتاج النفط، وأنّها ميناء العراق الباسم الأكثر أهمية والأقدم بين موانئ دول المنطقة, ممّا جعل البصرة حتى نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي من مدن الشرق السياحية المهمة، التي اسـتحقت الوصف بأنها (فينيسيا الشرق)، إذ كان يؤُمّها السائحون من الدول الأخرى, ولاسيّما دول الخليج التي كانت ترى في البصرة، المدينة الخضراء الزاهية بمناظرها الجميلة ومياهها العذبّة الوفيرة. ولسحرِ جمال دجلة وبساتين وادي الرافدين وحقولهِ الخضراء, فقد قال فيها شاعرُ العراق الكبير الجواهري:

حييّتُ سـفحَكِ عن بُعدٍّ فحيّني                           يا دجلة َ الخيرِ يا أمَّ البســاتينِ

حييّتُ ســفحَكِ ظمآناً ألوذُ بهِ                           لَوذ َّ الحمائمِ بينَ الماءِ والطينِ  

فليس هناك أحلى وأطيَبَ ممّا أخرجتهُ حقول أرض العراق وبساتينه, فأفضل البرتقال هو البرتقال العراقي, وأفضل النومي الحامض هو العراقي. ومن برتقال ورمان ديالى وكربلاء  وتمور البصرة والناصرية وديالى وكربلاء, ومن عنب بلد ورقيّ سامراء وبطيخ الموصل, ومن باذنجان وبطاطس وطماطم وخيار وادي الرافدين وحنطة وشعير وأرز حقول العراق, كلُّها منتجات كانت تزيّن المائدة العراقية لسـنواتٍ طويلة.

لقد انحسـرَ عطاء الحقول الزراعية والبساتين بغياب الدعم والسياسات الزراعية، التي تسـتجيب لاحتياجات الأسواق العراقية ومتطلبات الأمن الغذائي, وبعد أن أصبح للمنتج المستورد هذا المستوى من الاعتماد على حساب المنتج المحلي. فخلال أربعة عقود تراجع عدد النخيل من (32) مليون نخلة، إلى ما دون (20) مليون نخلة، بسبب أعمال التجريف والاهمال التي أصابت الزراعة عموماً, في ظل عدم اسـتجابة السياسة المائية لما تحتاجهُ الزراعة من مياهٍ كافية، وتفاقم تأثير عوامل التصحر والجفاف، وتحوّل مساحات واسعة من الاراضي الزراعية والأهوار إلى أراضٍ جرداء، أدّت إلى نزوح أعداد كبيرة من العوائل الفلاحية نحو المدن، وانخفاض حصيلة المساحات المزروعة والناتج الزراعي. وبحسب الاحصاءات الزراعية للمنظمة العربية للتنمية الزراعية, فقد بلغت استيرادات العراق من السلع الزراعية في عام 2019 (9579,1) مليون دولار, وهي تشكّل نحو (19%) من اجمالي قيمة الاستيرادات, في حين بلغت قيمة صادرات العراق من السلع الزراعية (410,3) مليون دولار في العام نفسهِ وبنسبة (0,45%) من اجمالي قيمة الصادرات[2], ويُعدُّ ذلك أحد المؤشرات على زيادة اعتماد العراق في غذائهِ على الدول الأخرى, وهو اعتماد ٌغير متكافئ لتجارة العراق الخارجية عموماً، وتجارة السلع الزراعية على وجه الخصوص، والذي يشير إلى درجة التبعية الغذائية للخارج, كذلك يشير إلى حالة الفجوة الغذائية بالنسبة للكثير من السلع الزراعية، والتي تمثّل الفرق بين الناتج الزراعي المحلي والاحتياجات الاستهلاكية من هذه السلع.

وعلى صعيد حاجة العراق من الحبوب الاستراتيجية, فبعد أن استطاع العراق خلال السنوات الخمس الماضية من تحقيق درجة مقبولة من الاكتفاء الذاتي، وسـدّ حاجة الاستهلاك المحلي ولاسيّما من محصول القمح، والذي تقدّر حاجة الاستهلاك بنحو (5) مليون طن سنويا، في حين بلغ الانتاج من هذا المحصول أكثر من (6) مليون طن في عام 2020, إلاّ إنّ الجفاف وشحة المياه أسهما في انخفاض كميات الانتاج إلى نحو (3,3) مليون طن في عام 2022،  فضلا عن انخفاض خزينهِ الاستراتيجي, كما انخفض انتاج محاصيل الحبوب الأخرى, كمحصول الأرز والذي تقدّر حاجة الاستهلاك المحلي منهُ بنحو (2) مليون طن سنويا, والذي انخفضَ إلى ما دون (400) ألف طن.

تحديات الأمن الغذائي والحاجة إلى الإصلاح والتنمية:

لقد ازدادت التحديات التي أصبحت تواجه الزراعة والأمن الغذائي، في ظل الواقع الاقتصادي في العراق, ويمكن بيان أبرز هذه التحديات:

أولا- الجفاف وشـحّة المياه: لقد أدّت التغيّرات المناخية التي تحصل على الصعيد العالمي إلى إحداث أضرار بليغة في البيئة، وتوليد انعكاسات سلبية واضحة على القطاع الزراعي, وقد حذّرت المنظمات الدولية المتخصصة منذ سنوات، من المخاطر التي يمكن أن تسببها هذه التغيّرات, ومنها مشكلة الجفاف وشحة المياه وزيادة نسبة الملوحة في التربة والتصحّر. وكان العراق من أكثر الدول المتضررة في المنطقة, ومن الدول الضعيفة في مواجهة عوامل الجفاف والتصحّر، بسبب انخفاض جاهزيتهِ للتعامل مع هذه المشكلة، لقدم البنى التحتية من السدود والنواظم المائية المتاحة, فلم تكن مشكلة الجفاف وشحة المياه مقتصرة على العراق، بل هي مشكلة عالمية، إلاّ إنّ الكثير من الدول استطاعت أن تحدَّ من الاضرار الناجمة عنها، عن طريق اهتمامها بتطوير مشاريع البنى التحتية من السدود والبحيرات والنواظم المائية, فتركيا، وهي دولة المنبع لنهريّ دجلة والفرات والأقل تضررا من مشكلة الجفاف والتصحّر, سعت إلى إنشاء العديد من السدود والمشاريع المائية التي تُؤمّن احتياجاتها الكافية من المياه، وإنشاء العديد من المحطات الكهرومائية لتعزيز قدرتها على انتاج الطاقة الكهربائية، لكي تزيد من خزن المياه حتى وإن كان ذلك على حساب الدول الأخرى المتشاطئة, ومنها العراق الذي يُعدّ دولة المصبّ لنهريّ: دجلة والفرات, وهو الأكثر ضررا من عوامل الجفاف، والأكثر حاجة إلى القيام بإنشاء العدد الكافي من السدود والمشاريع المائية، وتطوير القائم منها بما يستجيب لمتطلبات التغيّرات المناخية, كذلك ضرورة تطوير البنى التحتية لعددٍ من البحيرات الطبيعية المهملة, كبحيرة الثرثار التي تُعدّ أكبر منخفض طبيعي في العراق، وتم استخدامها منذُ عام 1956 لخزن الفائض من مياه نهر دجلة في مواسم الوفرة عن طريق قناة الثرثار، وربط منخفض الثرثار بنهريّ دجلة والفرات، حيث تستوعب هذه البحيرة (85) مليار متر مكعب, فضلا عن بحيرة الحبانية التي تم انشاؤها ضمن مشاريع مجلس الإعمار عام 1956، والتي تستوعب (3,3) مليار متر مكعب, كذلك الحديث عن بحيرة الرزازة التي تستوعب (26) مليار متر مكعب[3], وبحيرة سـاوة التي تُعدّ من البحيرات الطبيعية المغلقة بطول (5) كم وعرض (2) كم، والتي تتغذى من مصادر المياه الجوفية ومياه الأمطار الساقطة على الوديان المحيطة بها, إذ إنّ جميع هذه البحيرات تحتاج إلى تطوير بُناها التحتية ليس كمصادر للمياه فحسب، بل أيضا كمنتجعات ومعالم سياحية تسهم في تطوير قطاع السياحة في العراق.

وتشير بعض المصادر إلى أنّ التفكير بإنشاء أول مشروع مائي في تاريخ العراق الحديث، كان في عام 1836، والذي يتمثّل بمشروع (سـدة الهندية) على نهر الهندية في زمن الدولة العثمانية، لتحويل بعض مياه نهر الهندية إلى نهر الحلة, إلاّ إنّ هذه السـدة قد انهارت لمراتٍ عديدة حتى تم إعادة انشائها في عام 1913. وخلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي تم انشاء (سدة الكوت وناظم الغراف) من أجل تنظيم انسيابية المياه، لارواء الحقول الزراعية ودرء خطر الفيضانات وتوليد الطاقة الكهربائية. واللافت انّ أبرز السدود في العراق قد أنشِـئت في عقود قديمة, ومنها سـد دوكان الذي بدأ العمل بانشائهِ عام 1954 في عهد مجلس الاعمار الملكي وتم افتتاحهُ عام 1959, وسـدّ دربندخان الذي بوشرَ بتنفيذهِ عام 1956 وتم افتتاحهُ في عام 1961, كما أنشِـئت العديد من السدود الأخرى, من أبرزها سـد الأبيله في عام 1973 وسـدّ الحسينية عام 1976 , وسـدّ الموصل وسـدّ حديثة في عام 1986 وسـدّ العظّيم في عام 2000 وسـدّ الأبيض في عام 2002, في حين شـهدت المراحل اللاحقة شــحةً في بناء السدود والمشاريع المائية, كما شـهدت توقفاً في أعمال الانجاز في عددٍ منها[4]، في وقتٍ تتطلب مرحلة الجفاف وشـحة المياه أن ترتقي السياسة المائية في العراق، إلى مستوى التحديات التي تفرضها ظاهرة التغيّرات المناخية، وأن تكون هناك استراتيجية مائية ومجلس لادارة المياه، لتلبية حقوق العراق المائية في دجلة والفرات، والتوصّل إلى اتفاق مع الدول المتشاطئة وفق مبادئ المصالح الاقتصادية المشتركة, والذي يُعدٌّ ملف المياه جزءا أساسيا منها, فضلا عن الاستفادة من تجارب الدول, كتركيا وايران في بناء السـدود والمشاريع المائية في توفير احتياجاتها، وتوظيف المشاريع المائية في انشاء المحطات الكهرومائية، لانتاج الطاقة الكهربائية التي يحتاجها العراق.

ثانيا- قلة الدعم الحكومي للقطاع الزراعي والحاجة إلى تنمية زراعية مستدامة: لم تحظَ الزراعة في العراق بالاهتمام الذي تسـتحقهُ, كما لم تحظَ غيرها من القطاعات الانتاجية الحقيقية, والسبب في ذلك هو زيادة التركيز والاعتماد الحكومي على قطاع النفط الخام والصادرات النفطية، وعدم استثمار عوائدها في تحقيق تنمية حقيقية, الأمر الذي أسهم في اهمال المشاريع المنتجة للسلع والمواد، والابتعاد عن ما تتطلبهُ التنمية المسـتدامة من تنوّعٍ اقتصادي من شأنهِ أن يعزز تنويع مصادر الدخل والثروة. لقد أسهمت هذه السياسة الخاطئة في تحجيم دور المشاريع الانتاجية المحلية، وزيادة معدلات البطالة والفقر في المجتمع, وأدّت إلى انخفاض الأهمية النسبية لمساهمة القطاعات الانتاجية في مؤشرات التنمية, ومنها القطاع الزراعي الذي لم يزد متوسط نسبة تخصيصاتهِ المالية في الموازنات السنوية عن (0,6%) من اجمالي النفقات العامة خلال المدة (2006 ـ 2021)، على الرغم من الموارد المالية الكبيرة للعراق، ممّا شكّل أحد العوامل في تراجع مساهمة هذا القطاع، في اجمالي تكوين رأس المال الثابت من نحو (13%) في عام 1985 إلى (1,3%) في عام 2019, كما تراجعت مساهمتهُ في الناتج المحلي الاجمالي. والجدول الآتي يشير إلى هذا الجانب عبر مراحل مختلفة من المتغيّرات السياسية والاقتصادية التي مرَّ بها العراق:

جدول (1) ((الاهمية النسبية لمساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الاجمالي في العراق))[5]

السنة               نسبة مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الاجمالي

1957                                               26%

1960                                               17%

1967                                               21%

1971                                               33%

1972                                               37%

1977                                               21%

1987                                               14%

1995                                               34%

2000                                               26%

2002                                               25%                          

2005                                               9%

2015                                               5%

2020                                               6%

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن استخلاص بعض الملاحظات عن طريق الجدول (1):ـ

  1. إنّ الأهمية النسبية لمساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الاجمالي، قد تأثّرت بالمتغيّرات السياسية والاقتصادية ومدى فعّالية الأطر المؤسسية للسياسات الاقتصادية والمؤسسات المعنيّة بالقطاع الزراعي, كذلك أهمية النفط في الاقتصاد والتطوّر الذي حصل في الايرادات النفطية, عبر مشاريع (مجلس الإعمار) في مرحلة الخمسينيات، وقوانين الاصلاح الزراعي، كقانون الاصلاح الزراعي رقم (30) لسنة 1958، وقانون الاصلاح الزراعي رقم (117) لسنة 1970، وخطط التنمية وبرامج الاستثمار خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي, كما تأثرت هذه المساهمة بظروف الحروب والحصار الاقتصادي خلال عقديّ الثمانينيات والتسعينيات، وفق اتجاهات متباينة من التأثيرات الايجابية والسلبية, إلى جانب خضوع القطاع الزراعي كغيرهِ من القطاعات الانتاجية الحقيقية، لمرحلة غياب وضعف السياسات التنموية بعد عام 2003، وزيادة هيمنة قطاع النفط الخام على الناتج المحلي والموازنة العامة وميزان المدفوعات.
  2. شهدت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الاجمالي، نوعاً من الاستقرار النسبي والمساهمة الجديرة بالإشارة خلال السنوات (1957ــ 2002 ), ابتداءً من (26%) في عام 1957 و(37%) في عام 1972, و(34%) في عام 1995, و(25%) في عام 2002. إلاّ إنّ هذه المساهمة قد تراجعت تراجعًا ملحوظًا بعد هذا التاريخ، لتصل إلى نحو (6%) في عام 2020.
  3. لقد تجلّت خاصية (أرض السواد) التي اتسمت بها الزراعة في العراق عبر العصور, في إبراز قوّتها خلال سنوات الحصار الاقتصادي على العراق في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي، عندما خفتت قوة النفط والتأثيرات السلبية للريع النفطي على الاقتصاد والتنمية, إذ انخفضت ايرادات النفط بدرجةٍ كبيرة وازدادَ اعتماد المجتمع على الزراعة، كقطاعٍ يوفر الغذاء وفق ما جادت بهِ أرض السواد من امكاناتٍ طبيعية، أسهمت في زيادة حصيلة الناتج الزراعي ونسبة مساهمتهِ في الناتج المحلي الاجمالي، والتي تجاوزت (30%) في بعض سنوات مرحلة الحصار.

إنّ الخلل وأوجه القصور في القضايا المتعلقة بالأمن الغذائي في العراق, يرتبط ارتباطًا وثيقًا بواقع السياسات الاقتصادية وكيفية إدارة الدولة للموارد المالية, وإنّ الاصلاح الحقيقي يأتي عن طريق تغيير المسار نحو سياسات تنويع اقتصادي، لتطوير الواقع الزراعي والصناعي وتحقيق التكامل الانتاجي بينهما، عن طريق الاهتمام بتفعيل دور القطاع الخاص، واصلاح قطاع الاستثمارات العامة والخاصة، لتعزيز دور المشاريع الانتاجية المحلية وتشجيع إقامة مشاريع الصناعات الغذائية، التي تشكّل فرصاً استثمارية واعدة، تسهم في تنشيط الانتاج الزراعي من مختلف المحاصيل التي تحتاج إليها هذه الصناعات كمدخلاتٍ انتاجية، والتعويض عن الكثير من المنتجات الغذائية المستوردة، ودعم مسار التنمية الزراعية. فهل أنّ الوفرة المالية التي تهيّأت بعد قرب انتهاء عام 2022 والتي تصل إلى نحو (90) مليار دولار، سوف تكون قادرة على تحقيق أهداف الأمن الغذائي في تغيير مستوى الفقر في العراق، والولوج في تنمية مسـتدامة حقيقية في المرحلة المقبلة.

ثالثا- إصلاح البطاقة التموينية وتحسين مفرداتها: لقد أسهم نظام التوزيع العام عن طريق البطاقة التموينية منذ مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي, في دعم جانبٍ مهم من الأمن الغذائي في العراق، في ظل طبيعية الظروف الاقتصادية التي شهدتها المرحلة, وكان من المنتظر أن تساعد عملية التغيير بعد هذا التاريخ، على وضع الاقتصاد العراقي على عتبة مرحلة جديدة من التنمية، والنهوض بالواقع المعيشي للفئات الاجتماعية الهشـة، وتقليل اعتمادها على نظام التوزيع العام وفق البطاقة التموينية, إلاّ إنّ الفشل الذي صاحب عملية إدارة التنمية وزيادة معدلات البطالة والفقر، قد أسهم في استمرار الحاجة إلى دعم الدولة الغذائي. والملاحظ على البطاقة التموينية في العراق أنّ معظم مفرداتها ما زالت مستوردة في الوقت، الذي يمكّن أن تسهم البطاقة التموينية في تحفيز المشاريع الانتاجية المحلية في القطاعين الزراعي والصناعي، والتحوّل في عقود الدولة الغذائية نحو المشاريع المحلية وفق المعايير النوعية المطلوبة, والتقليل من الصفقات الغذائية الخارجية التي انتابها الكثير من الفساد خلال المرحلة الماضية، ممّا أثرَّ في دور البطاقة التموينية في تحقيق أهدافها, إذ شهدَ نظام التوزيع للمواد الغذائية بالبطاقة التموينية بعد عام 2003، تراجعاً واضحاً في الكفاءة والأداء, فانخفض عدد المواد الموزعة كما تراجعت نوعية المواد, رغم استمرار التخصيصات المالية لهذا المجال، ورغم اجراءات تقليص أعداد الفئات المشمولة.

إنّ استمرار الحاجة إلى البطاقة التموينية يتطلب ادخال الاصلاحات اللازمة عليها، من أجل تعزيز قدرتها على دعم الأمن الغذائي للعراق في ظل الظروف المحلية والدولية, ويدخل في هذا الإطار:

  1. مراجعة وإعادة تقييم للعقود الغذائية من حيث التكاليف ونوعية المواد ومناشئ التوريد, والبحث عن بدائل توريد يكون للمنتج المحلي حصة فيها، وفق أرجحية من التفضيل الداعم للمشاريع الانتاجية المحلية، ولسهولة التوريد والاقتصاد بالعملات الأجنبية المحولة للخارج.
  2. التحوّل نحو نظام توزيع وفق أسلوب سلة غذائية متكاملة لعددٍ من المفردات وتحسين هذه التجربة, وإعادة تقييم سياسة الاسـتهداف لمصلحة الفئات الاجتماعية ذات الاحتياجات الحقيقية والأكثر فقراً.

[1].سرور مرزا : ( بساتين بلاد الرافدين وثمارها , كيف كانت وما آلت اليه ) , مجلة الكاردينيا |  |   www.Algardenia.com

[2] .المنظمة العربية للتنمية الزراعية | الكتاب السنوي للاحصاءات الزراعية | المجلد 40 لسنة  2020

[3] .عادل شريف الحسيني : ( مشكلة المياه في العراق ــ الأسباب والحلول المقرحة ) , أيلول 2009 .

[4]. حســين كركوكي : ( قصة السـدود في العراق ) , 13 ســبتمبر 2020

[5] .تقارير وزارة التخطيط وبيانات المجاميع الاحصائية السنوية | سنوات متعددة .