أثر الأعراف العشائرية في قانون العقوبات العراقي والقضاء الجنائي العراقي

      التعليقات على أثر الأعراف العشائرية في قانون العقوبات العراقي والقضاء الجنائي العراقي مغلقة

الباحثة : م.د: هناء جبوري محمد / مركز الدراسات الاستراتيجية جامعة كربلاء

22/ 12/2022

       قانون العقوبات يتضمن تحديد الأفعال التي يعدّارتكابها جريمة، وبيان العقوبة المقررة لكل فعل، وذلك تطبيقًا لمبدأ نصية الجرائم والعقوبات، فالأصل في الأفعال الاباحة،وإنَّه لا يمكن العقاب على فعل إلا إذا وجد نص تشريعي يقضي بذلك، ولا يكفي مجرد العرف، وهو المبدأ الذي أكد عليه قانون العقوبات العراقي النافذ رقم 111 لسنة 1969، إذ نصت المادة الاولى منه على (أنَّه لا عقاب على فعل أو امتناع إلا بناء على قانون ينص على تجريمه وقت اقترافه، ولا يجوز توقيع عقوبات أو تدابير احترازية لم ينص عليها القانون). ومن نتائج هذا المبدأ أنَّ القانون المكتوب الصادر عن السلطة التشريعية هو المصدر الوحيد لقانون العقوبات،وبهذه الصفة يتميز قانون العقوبات عن بقية فروع القانون الأخرى، كالقانون المدني والقانون التجاري التي لا تقتصر مصادرها على القانون المكتوب فقط، بل تشمل العرف والعادة وغيرها ايضا. ويتضح لنا جليا أنَّ المشرع العراقي عندما نص في صلب قانون العقوبات على مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. إنَّ سلطة القاضي تنحصر في تطبيق القانون ضمن الحدود التي رسمها المشرع، مما يترتب عليه أن يمتنع في مجال تطبيقه للقانون عن كل ما من شأنه أن يوصله إلى خلق جرائم او استحداث عقوبات لم ينص عليها القانون، ومن ثَمَّ اذا استقر العرف العشائري على تجريم سلوك معين أو حدد له عقوبة معينة، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يكون له أدنى اهمية للقاضي، لأنَّه ملزم بتطبيق النصوص القانونية الواردة في قانون العقوبات والتشريعات الجنائية المكملة له حصرا، لأنَّه إذا طبَّق ماجرى عليه العرف العشائري يكون قد خلق جريمة واستحدث عقوبة لم تنص عليها التشريعات الجنائية، ويعد ذلك مخالفة واضحة لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. كما أنَّ المتعمق في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، يلاحظ أنَّه لم يشر مطلقا إلى الأعراف العشائرية عند تحديده للافعال التي عدَّها جرائم أو عند تحديده للعقوبات التي نص عليها لكل جريمة.

إلا إنَّه يجب الانتباه إلى أنَّ هذه النتيجة لا تصيب قانون العقوبات في جميع قواعده وأحكامه، إنَّما تصيب منه فقط تلك القواعد الخاصة بإنشاء الجرائم وإنشاء العقوبات، لأنَّمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات انما يتصل بهذا الامر دون سواه، مما يترتب عليه أنَّ بقية قواعد قانون العقوبات كالقواعد الخاصة بتخفيف العقاب أو استبعاده أو أسبابا لاباحة أو موانع المسؤولية لا تنحصر مصادر التنظيم القانوني لها في النصوص التشريعية، إنّما يتصور أن يكون العرف مصدرا لها، فضلا عن بقية المصادر الاخرى كمبادئ الشريعة الاسلامية أو قواعد العدالة، وتبرير ذلك يكمن في أنَّ مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات جاء ليجعل خلق الجرائم والعقوبات محصورا بيد المشرع، أما غير ذلك فلم يتدخل في أمر مصدره، لكونه لا يؤثر في حرية الفرد التي جاء هذا المبدأ لحمايتها وصيانتها من تدخل القضاء.

ومن جملة الاعراف العشائرية التي لها أثر كبير في التشريعات الجنائية، هو قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) ذو الرقم 49 في 14/2/2001، الذي نصَّ على أنَّه: (لاجريمة إذا قام شخص بقتل أو شرع بقتل من اغتصب أو واقع بالاكراه إحدى محارم القاتل، ويعد ظرفا مشددا قتل القاتل أخذا بالثأر). وهو تكريس واضح للاعراف العشائرية وللانتقام الخاص، الغرض منه ارضاء عاطفة المنتقم، ومن الناحية القانونية يعد هذا القرار نافذا لكونه لم يلغَ بقانون، وإنَّ اهماله لا يعني الغاءه وفقا للمبدأ المعروف (لا نص يسقط بعدم الاستعمال).

وعلى الرغم من كون قانون العقوبات العراقي لا يعتد بالباعث على ارتكاب الجريمة وفق المادة (38) منه، التي تقول: (لا يعتد بالباعث على ارتكاب الجريمة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك). إلا إنَّه يأخذ في بعض الاحيان بنظر الاعتبار الباعث الشريف، ويعدّه عذرا قانونيا مخففا للعقوبة، تماشيا مع العرف الجاري في المجتمع، وفي هذا تنص المادة (128/1) من قانون العقوبات على أنَّ: (الأعذار أمَّا أن تكون معفية من العقوبة أو مخففة لها ولا عذر إلا في الاحوال التي لا يعينها القانون، وفيما عدا هذه الأحوال يعتبر عذرا مخففا ارتكاب الجريمة لبواعث شريفة او بناء على استفزاز خطير من المجني عليه بغير حق). ولم يحدد قانون العقوبات مفهوم الباعث الشريف إلا إنَّه من المتعارف عليه ان الباعث الشريف هو: (القيمة الاجتماعية) النبيلة لسلوك معين والمعبر عن المثل والمفاهيم السائدة في وجدان المجتمع، والتي تحظى باحترامه وتقديسه احيانا، بحيث لو خسر الانسان هذه القيمة الاجتماعية نتيجة سلوك مشين لأوجب احتقاره عند أهله وبني قومه. أمَّا قتل المرأة غسلا للعار فهو طبقا للعرف الاجتماعي السائد هو غسل للعار الذي تلحقه المرأة بذويها أو أسرتها أو عشيرتها جراء سلوكها المشين، وهو مايطلق عليه عرفا (القتل غسلا للعار، أي غسل لعارها بدمائها)، ومن الجدير بالذكر أنَّ التشريعات الجنائية لم تأخذ (بغسل العار) كعذر أو ظرف مخفف، ولم تنص عليه على أنَّه من البواعث الشريفة، ولكن المحاكم اجتهدت فذهبت إلى عدَّه تطبيقا من تطبيقات الباعث الشريف، الذي يوجب تخفيف العقوبة، فهو اختراع قضائي ابتكره القضاء العراقي وبعض محاكم الدول العربية، وهو اجتهاد قضائي منتقد بشدة، لكونه يراعي تقاليد وأعراف اجتماعية بالية، وينميها ويشجع عليها ويرسخها في المجتمع. فأثر العرف العشائري يبدو واضحا على مضمون المادة (409) من قانون العقوبات التي تنص على أنَّه: (يعاقب بالحبس مدة لاتزيد على ثلاث سنوات من فاجأ زوجته او احدى محارمة في حال تلبسها بالزنا أو وجودها في فراش واحد مع شريكها فقتلهما في الحال أو قتل احدهما أو اعتدى عليهما أو على احدهما اعتداء افضى إلى الموت أو إلى عاهة مستديمة ..)، فهي تكريس حقيقي للعرف الجاري عن طريق منح هذا العذر القانوني لتخفيف العقوبة للزوج دون الزوجة. كما يلاحظ من نص المادة (407) من قانون العقوبات، التي احتوت عذرا مخففا للعقوبة بالنسبة للأم التي تقتل وليدها الذي حملت به سفاحا اتقاء للعار الذي يلحق بها وفقا للأعراف الاجتماعية السائدة، إذ نصت على أنَّه: (تعاقب بالسجن مدة لاتزيد على عشر سنين أو بالحبس مدة لاتقل عن سنة الأم التي تقتل طفلها حديث العهد بالولادة اتقاء للعار اذا كانت قد حملت به سفاحا). وفي جريمة الاجهاض ايضا نرى أنَّالمشرع العراقي نصَّ في المادة (417/4) من قانون العقوبات العراقي على أنَّه: (يعد ظرفا قضائيا مخففا اجهاض المرأة نفسها اتقاء للعار اذا كانت قد حملت به سفاحا، وكذلك الأمر في هذه الحالة بالنسبة لمن اجهضها من أقربائها إلى الدرجة الثانية).

النتائج :

1- إنَّ المجتمع العراقي هو مجتمع عشائري تؤدي فيه العشيرة دورا مهما وفي جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ..الخ.
2- نلاحظ سعي المشرع العراقي ولاسيما في الدستور إلى تأكيد دور العشائر في المجتمع، مع التأكيد فيالوقت نفسه على وجوب احترام الاعراف العشائرية للدين والقانون وحقوق الانسان.
3- إنَّ القانون الجنائي العراقي والذي يشمل قانون العقوبات وقانون اصول المحاكمات الجزائية حاول الحد من تأثير الاعراف العشائرية كوسيلة لفرض العقوبة او الاعفاء منها ولكن لم ينجح في ذلك بشكل كبير.

المقترحات:

1- التأكيد على الدور الاجتماعي للعشائر فقط واعطاءها دورا بسيطا في التوصل لحل النزعات بين الأفراد ولاسيما في المناطق التي تكون بعيدة عن المدن، ويكون الوصول فيها للمؤسسات القضائية صعبا جدا.
2- استبعاد أي نص قانوني يتيح للاعراف العشائرية التدخل لحل النزاعات القانونية بين الافراد.
3- التاكيد دائما على روح المواطنة وتقديمها على أي انتماء آخر ولاسيما الانتماء القبلي والعشائري.
4- اشاعة ثقافة حقوق الانسان التي يؤكد عليها الدستور والمواثيق الدولية وتعزيزها بين أفراد المجتمع كافةلتعريفهم بحقوقهم وحرياتهم التي لا تستطيع أي جهة أن تسلبها منهم.