التوظيف الرياضي وسياسات تدعيم القوة الناعمة: بطولة خليجي 25أنموذجاً

      التعليقات على التوظيف الرياضي وسياسات تدعيم القوة الناعمة: بطولة خليجي 25أنموذجاً مغلقة

ميثاق مناحي العيسى

كانون الثاني/ يناير 2023

         ادخل في القاموس السياسي والإعلاميالحديث بعض المفاهيم السياسية، التي اقحمتنفسها بقوة في عالم السياسة، وأبرز هذه المفاهيم ذلك المفهوم الذي أوجده أو اخترعه الكاتب الأمريكي جوزيف ناي في تسعينيات القرن الماضي، الذي أعطى عن طريقه تصورًا جديدًا للقوة الأمريكية، وأراد أن تستعيض الولايات المتحدة الأمريكية عن قوتها التقليدية في السياسة الخارجية وموازنتهابالقوة الذكية، وهي القوة القائمة على المزج بين القوة الصلبة (القوة العسكرية والاقتصادية)، وبين القوة الناعمة (القيم السياسية والثقافية وعناصر التأثير والاقناع… وغيرها من الأدوات غير العسكرية). وقد أسرد ناي أهم مفاصل وأدوات تلك القوة التي من الممكن أن تستثمرها الدول في تصدير نفسها وأنموذجها السياسي للعالم الخارجي، عن طريقعدة عناصر وأدوات، وقد ركز في الثقافة السياسية والشعبية والقيم السياسية والسياسة الخارجية والفن والسياحة والإعلام، إلا إنَّه لم ينتبه للرياضة والفعاليات الرياضية في تنظيره للقوة الناعمة بالشكل الكافي، إن لم يكن قد تجاهلها تجاهلًا كاملًا، وهذا التجاهل ربما لم يكن متعمداً أو عن جهل، فقد بقي تأثير الفعاليات والناشطات الرياضية بشكل عام نسبياً، ولم يستطِع أن يقحم نفسه آنذاك كأداة مهمة وفاعلة من أدوات القوة الناعمة أو عناصرها، على العكس ممّا نشاهده في عالم اليوم أو في العقد الأخير، والدور الكبير الذي تقوم به الرياضة والفعاليات الرياضية علىالمستويات كافة، حتى أصبحت موردًا مهمًا من موارد أو أدوات القوة الناعمة، وشريكًا أساسيًا وفاعلًافي متطلبات إنجاز السياسة الخارجية الفاعلة،ومد جسور التعاون والتبادل وإقامة العلاقات الناجحة، وتصدير القيم السياسية والثقافة الشعبية للعالم الخارجي عن طريقها؛ وذلك لما لها من مكانةوتأثير في نفوس الشعوب، فضلا عن الاقتصاد الذييستثمر في الرياضة وشؤونها، إذ تنامت مواردهوتوسعت مساحاته، حتى باتت الكثير من الدولولاسيما الصغيرة، تركز في القوة الناعمةكاستراتيجية تساعدها على تقديم نفسها كدولةمؤثرة عالميًا، عن طريق الإعلام أو السياحة أوالاقتصاد أو الرياضة. وتعد دول الخليج وقطر على وجه التحديد، من أكثر دول العالم التي استثمرت النشاط أو القطاع الرياضي بشكل ناجح وكبيرللغاية، وهذا ما شاهدناه في تنظيم بطولة كأس العالم نهاية العام الماضي، فضلاً عن اهتمامها الكبير في القطاع الرياضي، من منشآت وأكاديميات رياضية وتعاقدها مع الأسماء الرياضية المؤثرة في عالم كرة القدم، إذ تحاول أن تصدر نفسها للعالم الخارجي عن طريق اهتمامها بالنشاط الرياضي، وهذا ما ساعدها مساعدةكبيرة في تحقيق مبتغاها، حتى أصبحت قطر تحظى باهتمام سياسي ورياضي عالمي، وتتمتع بدور كبير في المنطقة والقارة الاسيوية، وكذلك العالم على مختلف المستويات.

ولأهمية القطاع الرياضي ودوره الذي برز مؤخراً بروزًا كبيرًا على الساحة العالمية، أخذت بعض الدول تهتم وتزيد من استخدام مفهوم الدبلوماسيةالرياضية، ولاسيما خلال العقدين الماضيين، حتى أصبح يحتل مكانه داخل عالم الدبلوماسية العامة،الذي يتطور ليشكل أساسا لبناء علاقات طويلة الأمدبين الشعوب، وقد أصبح هناك قدر من الاتفاق علىأنَّ الرياضة أصبحت وسيلة لتحقيق أهدافالسياسة الخارجية للدول وبناء قوتها الناعمة،وتشكيل صورتها الذهنية، ووضع قضايا سياسيةعلى الأجندة الدولية. إلا إنّ الفعاليات والنشاطات بأشكالها المختلفة، سواء ما تعلق منها بالرياضة أو غيرها من القطاعات، لا يمكنها أن تنتج موردا للقوةالناعمة، دون أن يكون لها تخطيط مسبق واستثمارذكي، وبغياب هذين الشرطين ربما تصبح تلكالفعاليات هدرًا للموارد والوقت، أو قد تكون شكلية فقط.

إنَّ ما نشاهده في العراق اليوم من خلال تنظيم بطولة الخليج العربي  أو ما تسمى بـ(خليجي 25)،التي استضافتها محافظة البصرة جنوبي العراق، تمثل حدثًا رياضيًا مهمًا على الصعيد المحلي والإقليمي، على الرغم من أنَّ البطولة غير معترف بها من قبل الاتحاد الدولي (الفيفا)، إلا إنَّ الحضور الرسمي الذي حظيت به البطولة على المستوى السياسي والرياضي، كرئيس الاتحاد الدولي وممثلة الأمم المتحدة في العراق وشخصيات سياسية ورجال أعمال عراقيين وخليجيين وعرب، فضلاً عن الحضور الرياضي والشعبي الكبير بين جماهير العراق ودول الخليج العربي، تعد خطوة مهمة وكبيرة في استعادة دور العراق السياسي والرياضي، عن طريق توطيدجسور المحبة والسلام بين العراق والعرب ولاسيما دول الخليج العربي، بعد انقطاع دام ثلاثة عقود تقريباً، ولاسيما مع تلك الروح والقيم الشعبية،وحفاوة الاستقبال التي استقبل بها الجمهور العراقي، جمهور الدول المشاركة في البطولةومنتخباتها، فضلاً عن الرسائل السياسية التي اوصلها العراق للعالم اجمع من خلال تنظيم هذه البطولة، التي يبدو تأثيرها واضحًا في المنطقة، ولعل اعتراض الخارجية الإيرانية على تسمية البطولة والخليج العربي، واحتجاجها وتقديمها شكوى لدى الاتحاد الدولي لكرة القدم، دليل واضح وصريح على مدى تأثير هذه البطولة على المستوى الاقليمي والمنطقة بشكل عام، ولاسيما مع الحضور الرسمي والدعم الذي حظيت به، والافتتاحية التي نالت رضاالجميع واستحسانهم على المستويين المحلي والإقليمي، فضلاً عن الإشادة الدولية، بما فيه الاتحاد الدولي لكرة القدم، ورئيسه الذي رفع صورة اللاعب العراقي ابراهيم بايش على صفحته الشخصية، بعد فوز المنتخب العراقي على المنتخب السعودي الشقيق،  ولعل تأثيرها وصل إلى القارة الأوروبية، فقد بارك حساب الـ (لا ليغا) الرسمي للدور الإسباني أو (La Liga بالإسبانية) فوز المنتخب العراقي على المنتخب السعودي، وقدم التهنئة للجماهير العراقية على صفحته الرسمية، وهذا بالتأكيد فيه إشارات مهمة قد تفتح قريحة الدولة العراقية، على تنظيم بطولات أكبر وأكثر أهمية تكون على مستوى القارة الاسيوية، وتعيد العراق إلى موقعه الطبيعي، أو قد تسهم في إحياء دوره المفقود منذ فترة طويلة، إلا إنَّ كل هذا بحاجة فعلية إلى جهود تعضيدية، واستقرار سياسي، وتطور في البنى التحتية، وازدهار اقتصادي، وبيئة استثمارية مشجعة، ووضع أمني مستقر، وعلاقات خارجية متوازنة بعيداً عن سياسة المحاور. لهذا هناك الكثيرمن المعطيات التي ينبغي الالتفات لها وتوظيفهاخارج دائرة أوقات المرح والمتعة، التي يحصل عليهاالجمهور من متابعة البطولة، وهو استحقاق يقع علىعاتق جهات متعددة من إدارة الدولة، وخطوات هذاالاستحقاق سيبدأ معظمها بعد أن تنتهي البطولةوتعود المنتخبات إلى أوطانها، وتصبح اللحظات فينفوس الجمهور ذكريات جميلة، فيما تمارس الإداراتأدوارها، وفي مقدمتها الطواقم الدبلوماسية، لغرضالاستثمار في معطيات خليجي 25.

فضلاً عن ذلك، فقد تستهدف النشاطات الرياضية بشكل عام مجموعة من الأهداف تعكسها للرأي العام، وهذا بالتأكيد رسخته فعاليات تنظيم بطولة الخليج في العراق بشكل ناجح حتى الآن، وتم تسويقها بشكل جيد وبصورة مشرفة إلى العالم الخارجي والبيئتين: الإقليمية والعالمية منها، إذ عكست بطولة الخليج في البصرة عدة أهداف منها:

ثقافة التعايش: نجحت البطولة في توثيق ثقافة التعايش السلمي بين أطياف المجتمع العراقي بشكل كبير للغاية، مرة من خلال الافتتاحية التي اختصرت تاريخ الحضارة العراقية وتعدديتها الاثنية والعرقية، ومرة أخرى من خلال تسليط الضوء على الثقافة الشعبية العراقية وطبيعة انفتاحها وكرمها واستقبالها للوافدين العرب والترحيب بهم بعيداً عن الاختلافات الفرعية. لهذا تعد البطولة مناسبة مهمة لتصدير قيم الانفتاح والتسامح وقبول الآخر في الثقافة العراقية في الداخل وترسيخها وتسويقها ، والترويج لها خارجيًّا كمجتمع منفتح ومتحضر يقبل التعددية.
المكاسب الاقتصادية: قد تكون المكاسب الاقتصادية الأقل بالنسبة للقطاعات الأخرى، لكنها بشكل عام لا تخلو من المكاسب الاقتصادية والسياسية، ولاسيما في تحسين الجانب السياحي على المدى المتوسط والبعيد.
الأمن والوقاية الأمنية: لعل بطولة الخليج اسهمت بشكل إيجابي في هذه النقطة من اتجاهين: الأول من خلال تصحيح النظرة العربية والإقليمية بشكل عام عن وضع العراق الأمني وظروفه الأمنية. أما الثانية فقد أسهمت في تعزيز الأمن داخل المجتمع العراقي من خلال دفع الشباب للمشاركة والتشجيع والسفر والالتقاء مع ناس آخرين مختلفين، في مشاهد قد تكون غائبة عن العراق منذ عقدين أو أكثر، وهذا بالتأكيد يسهم في تشجيع الشباب على نبذ التطرف والعنف، وترسيخ قيم المنافسة والتسامح وقبول الآخر.
السمعة العالمية: الترويج للنموذج أو الثقافة العراقية عالميًّا بوصفه يمثل المدنية والتحضر والتقدم التكنولوجي والاقتصادي، وهو ما يرسخ الصورة الإيجابية عن العراق في الوعي الجماهيري العالمي.

ختامًا، نعتقد أنَّ أسلوب الترويج والتوظيف عن طريق استضافة الفعاليات الرياضية، اختلف اختلافًا كبيرًا عن السنوات السابقة، إذ اصبحت الرياضة منصة مهمة في إبراز صورة الدولة وهويتها وعلامتها التجارية على الساحة الدولية، والتعريف بثقافة الشعوب وتسويقها وتعزيز العلاقات بين الدول، ولاسيما انها تساعد في جذب انتباه ملياراتالأشخاص، فضلا عن كونها تعد منصة مثاليةلتسليط الضوء على الدولة المضيفة بكل مجالاتها.فقد استخدمت الفعاليات الرياضية الكبرى في الحالة الألمانية عام 2006 لصناعة الصورة، والتغلب على بعض الصور النمطية شائعة الانتشار عن المجتمع الألماني، لاسيما ما يرتبط بالإرث التاريخي للنازية، عندما استضافت المانيا تنظيم بطولة كأس العالم آنذاك. أما بريطانيا التي كانت تتمتع بسمعةدولية طيبة، فقد استخدمتها بهدف تحقيق مجموعةمن الأهداف الاستراتيجية التي يأتي على رأسها: تحقيق الأمن البريطاني، واستيعاب الشباب،والتغيير من ثقافة المجتمع البريطاني باتجاهالتسامح وقبول الآخر. وهذا ما ركزت فيه دراسة مشتركة للباحثَين: (جوناثان جريكس وباريهوليهان) على تحليل مدى إسهام الرياضة في تعزيزالقوة الناعمة للدول عن طريق دراسة حالتي ألمانيافي عام 2006 وبريطانيا في عام 2012. لهذا يعتقد البعض أنَّ العراق قادر على تنظيم هكذا بطولات واستثمارها وتوظيفها وتسويقها للعالم، إلا إن ذلكبالتأكيد بحاجة إلى استقرار سياسي حقيقي،وإرادة وطنية قادرة على تحقيق ذلك الاستقرار،بعيداً عن النزعات الداخلية والإقليمية، وسياسة المحاور التي أنهكت الدولة والمجتمع العراقي طوالالعقدين الماضيين، وتعزيز ذلك بسياسة خارجية وطنية هادفة. فهل يستمر العراق في استثمار خليجي 25 بفعاليات أخرى واستقرار سياسي وأمني واقتصادي، أم ستعمل الماكينة الإعلامية الضمادة على تشويه هذا الانجاز الرياضي،وتصدير صورة سيئة عن بعض الدول المشاركة في البطولة، ويتم مزج ذلك بتوجهات وتوظيف سياسي ممنهج؟