تقييم جوهري للعالم

      Comments Off on تقييم جوهري للعالم

الكاتب: جورج فريدمان

ترجمة وتلخيص: مؤيد جبار

يفتتح الكاتب مقالة بإن العالم يعاني تزعزع استقرار متزايد وأنه من الضروري محاولة الدول، كما هو واضح ، معرفة ما حدث ولماذا. وذلك ليس لأن العالم غير منضبط بصورة فريدة؛ انما لأن الاضطراب يأخذ شكلا مختلفا في كل مرة، على الرغم من حالة التعقيد فيه.

إذ يمكننا ان نرى على رقعة واسعة من اوراسيا (المفهوم الذي يجمع أوروبا وآسيا معا) حالة من الفوضى السياسية والعسكرية والاقتصادية. أوروبا والصين تكافح لمواجهة تداعيات أزمة عام 2008، مما أدى ليس فقط لبروز تحديات اقتصادية ولكن المؤسسية. وهناك روسيا تمر بأزمة الجيوسياسية في أوكرانيا ومشكلة اقتصادية في الداخل. أيضا العالم العربي، من بلاد الشام إلى إيران، من الحدود التركية والى شبه الجزيرة العربية، متورط في حرب لزعزعة الاستقرار السياسي. نصف الكرة الغربي غير مستقرة نسبيا، كما هو أرخبيل آسيا. لكن زعزعة الاستقرار هذه لها أبعاد متعددة.

وهنا يدعو جورج فريدمان إلى العودة إلى الماضي لمحاولة فهم السبب، ولكن دعونا نبدأ مع التحول المنهجي الذي شهده العالم: نهاية الحرب الباردة.

تداعيات انهيار الاتحاد السوفياتي

كانت الحرب الباردة صراع مجمد بهذا المعنى: إذ تم احتواء الاتحاد السوفياتي في خط يمتد من كيب الشمالية في النرويج الى باكستان. وعندما سقط الاتحاد السوفيتي، حدث أمران مهمان:

أولا، حصل انتقال كبير للسلطة، إذ تحررت بعض الدول المستقلة رسميا من هيمنة السوفيت ونشأت دول داخل الاتحاد السوفياتي السابق. ونتيجة لذلك، ظهر حزام يحتمل أن يكون غير مستقر بين بحر البلطيق والبحر الأسود.

وفي الوقت نفسه، على طول الحدود الجنوبية الغربية للاتحاد السوفياتي السابق، اختفى الخط الفاصل للحرب الباردة الذي يمر بشكل عام عبر العالم الإسلامي. والبلدان المنغلقة على نفسها بسبب الحرب الباردة فجأة اصبحت قادرة على التحرك، و تحفزت مجموعة من القوى الداخلية ، في الوقت المناسب، لمعارضة أنشاء الدول القومية بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية التي كانت جمدتها الحرب الباردة.

كما يشير الكاتب إلى وقع حدثين رمزيين : الاول ، في عام 1990، حتى قبل أن انهيار الاتحاد السوفياتي الكامل، حين غزا العراق الكويت، ويبدو أن الخطر احاق بالمملكة العربية السعودية. جاء ذلك في أعقاب حرب طويلة مع ايران وظهر العراق في وضع أفضل من طهران، وبدأت بغداد بالمطالبة بالكويت كجائزة. عندها حشدت الولايات المتحدة ليس فقط تحالف الحرب الباردة التابع لها، ولكن أيضا دول من الكتلة السوفيتية السابقة والعالم العربي، لتهزم العراق. وكانت النتيجة غير المقصودة تركيز على الأقل بعض السنة على الاحتمالات الناجمة عن انتهاء الحرب الباردة، وعلى الدور الأمريكي باعتباره القوة المهيمنة الإقليمية، وهذا بدوره أدى إلى هجمات 11/ايلول وما زال الى الآن فاعلا ، على حد سواء لمن هو على جنوب او شمال خط الحرب الباردة الفاصل القديم.

أما الحدث الثاني، فهو تفكك يوغوسلافيا والحرب الصربية الكرواتية البوسنية التي خلفت حوالي 100،000 قتيل. لقد كانت حربا للاحقاد القديمة والمخاوف الجديدة. ويبدو أنها تمثل حالة فريدة من نوعها في بقية دول المنطقة، ولكنها في الواقع قدمت النظام العالمي الجديد بطريقتين:

الأولى، كانت يوغوسلافيا الامتداد الجنوبي للحدود بين الاتحاد السوفياتي وأوروبا الغربية. ما حدث في يوغوسلافيا أثار تساؤلات معظم الناس تجاهلها، حول ما سيكون واقع هذه الحدود على المدى الطويل.

الثانية، من بين الأمور الأخرى، فإن الحرب تركزت على الانقسام بين الشرق والغرب، بين المسيحيين والمسلمين، والأسوأ ان الدماء اريقت في هذا السياق. فتدخلت الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي في كوسوفو ضد صربيا رغم الاحتجاجات الروسية، وموسكو مـُنعت في نهاية المطاف من المشاركة في بعثة حفظ السلام لنزع فتيل الحرب.

وفي حين أُضعفت روسيا وانحدرت، نرى ان طرفي أوراسيا ازدهرا. العقد الذي تلا انهيار الاتحاد السوفييتي وإعادة توحيد ألمانيا الذي بشر بازدهار كبير كان قد اتى بنتيجتين. الاتحاد الأوربي، الذي أنشئ بموجب معاهدة ماستريخت في العام نفسه الذي تفكك فيه الاتحاد السوفييتي، وتوسع نفوذه شرقا في فلك الاتحاد السوفيتي السابق وجنوبا، وتضمن دول متباينة تدور بينها الخلافات. والصين، بعد نهاية المعجزة الاقتصادية اليابانية، أصبحت الدولة ذات الأجور المنخفضة، وارتفاع نموها العالمي، المدعوم من صادراتها المرتفعة لأوروبا وأمريكا الشمالية.

وكانت قوى العاملة في أوراسيا مخفية. كما ان هشاشة الدول الطرفية في أوروبا نسبة إلى القوة الاقتصادية الألمانية غير مرئية تماما. الطبيعة الدورية للنمو الصين، مماثلة في العديد من الطرق لديناميات اليابان في الجيل السابق، وكانت أيضا غير مرئية. عواقب نهاية العالم الحرب الباردة على العالم الإسلامي، القوى التي أطلقت تحت السطح وهشاشة الدول التي كانت تحتوي عليها تحت وهم القوة الأميركية بعد انتصار في الكويت. فقط في روسيا كان الضعف واضحا، وتم التوصل إليه واحد من استنتاجين خاطئين: إما ان روسيا كانت عاجزة بشكل دائم، أو أن بؤسها سيؤدي بها إلى الديمقراطية الليبرالية.

علامات زعزعة الاستقرار

وكان أول مؤشر على المتاعب، بطبيعة الحال، 11/أيلول. وكان الهجوم الأمريكي حاسما. بالاعتماد على عاصفة الصحراء، كان من المفترض أن القوة الأميركية يمكنها أن تعيد تشكيل العالم الإسلامي كما تريد. كل قوة لها حدود، ولكن حدود القوة الأميركية غير مرئية حتى وقت لاحق من عام 2000. عند هذه النقطة تدخل حدثين. الأول ظهور روسيا على الأقل كقوة إقليمية عندما غزت جورجيا في عام 2008. والثاني كان، بطبيعة الحال، الأزمة المالية. كلاهما مجتمعين حددا الوضع الراهن.

الأزمة المالية حولت السلوك الصيني. على الرغم من أن الصين كانت تصل بالفعل إلى نهاية الدورة الاقتصادية، وانخفاض شهية للصادرات الصينية غيرت ديناميكية الاقتصاد الصيني. لم تكتف بتخفيض النمو، ولكن محاولات بكين لتحويل النمو إلى استهلاك خلق التضخم المحلي الذي جعل صادراتها أقل قدرة على المنافسة. وكانت النتيجة أزمة سياسية جعلت الحكومة الصينية تشعر بقلق متزايد إزاء عدم الاستقرار وبالتالي لجأت إلى القمع على نحو متزايد في محاولة للسيطرة على الوضع.

في الطرف الآخر من أوراسيا، الاختلافات بين مصالح ألمانيا – المُصدر الرئيسي في أوروبا – و الاقتصادات النامية لجنوب أوروبا، كشفت التناقض الكامن في الاتحاد الأوروبي. فكان على ألمانيا ان تواصل التصدير. وكان على البلدان الأضعف تطوير اقتصاداتها. وكان الصدام أولا في أزمة الديون السيادية، ومرة ​​أخرى في سياسات التقشف المفروضة على جنوب أوروبا والأزمة الاقتصادية الناتجة عن ذلك. ونتيجة لذلك، أصبحت أوروبا مجزأة على نحو متزايد.

وفي تبادل للأدوار، اغتنمت روسيا تفتيت أوروبا، وذلك باستخدام مكانتها باعتبارها مورد للغاز الطبيعي لتشكيل السياسات الأوروبية تجاه روسيا. وأن كانت روسيا لم تعد تستطيع شل أوروبا ولكنها تظل قوة إقليمية كبيرة، ولها تأثير على الأحداث وليس فقط في قارتها ولكن أيضا في الشرق الأوسط.

و في هذه النقطة تصادمت روسيا مع الولايات المتحدة. فالولايات المتحدة لديها علاقة اختيارية مع بقية العالم. فقط عندما تحاول قوة إقليمية مهيمنة السيطرة على أوروبا ، الولايات المتحدة تحد من تعرضها العالمي. و واشنطن تصدر القليل نسبيا، وما يقرب النصف مما تصدر يذهب إلى كندا والمكسيك. لكن روسيا أصبحت أكثر حزما، و حاولت تعويض خسائرها بعد سقوط الحكومة الأوكرانية وما اعقب ذلك من تشكيل حكومة موالية للغرب، فيما بدأت الولايات المتحدة بزيادة تركيزها على أوكرانيا والمناطق الحدودية بين أوروبا و روسيا.

وفي نفس الوقت الذي شعرت فيه واشنطن بضرورة الرد على روسيا، سعت الولايات المتحدة للحد من التعرض لها في الشرق الأوسط. وللتعرف على حدود قوتها، قامت الولايات المتحدة بالتركيز على القوى الأربع الأصلية في المنطقة – تركيا وإيران والسعودية وإسرائيل – وتحملها للمسؤولية الأساسية للاستقرار الاقليمي وتوازن القوة المتبادل.

مشهد الوضع الحالي

هذا يقودنا إلى العالم المعاصر. هناك اضطراب اقتصادي عام في جميع أنحاء العالم. وقد ولد هذا الشعور بالضيق أجبر الصين لممارسة السيطرة على القوى الاجتماعية بالقمع. كما خلق أزمة وجودية في أوروبا ذهبت إلى ما هو أبعد من اليونان وصولا إلى العلاقات اليونانية الألمانية. وصل الروس لقوة إقليمية ولكنهم سقطوا بسرعة ، في الوقت الراهن. الدول القومية في الشرق الأوسط مهترئة، والقوى الرئيسية الأربعة تناور بطرق مختلفة لاحتواء الموقف.

كما ان الولايات المتحدة لاتزال القوة الرائدة في العالم، ولكن في الوقت نفسه، أصبحت الآليات التي استخدمت خلال الحرب الباردة غير فعالة. على الرغم من أن منظمة حلف شمال الأطلسي زادت الانتشار والتدريب في أوروبا الشرقية، الا ان الحلف نفسه يفتقر إلى قوة عسكرية كبيرة. أصبح صندوق النقد الدولي، في كثير من الحالات، هو المشكلة وليس الحل للصعوبات الاقتصادية. تجنبت الولايات المتحدة التورط في المشاكل الاقتصادية في أوروبا والصين ، حد فعاليتها في الشرق الأوسط. بعد أنه بات التدخل بشكل مباشر مع روسيا، خوفا من هيمنتها على أوربا ، ومع ذلك هذا احتمال بعيد المنال.

بعد كل حرب نظامية، هناك تحالف منتصر سيظل متماسك ويحكم بفعالية. فبعد الحروب النابليونية، سعى مؤتمر فيينا لدمج التحالف ضد فرنسا في كيان يمكنه إدارة السلام. وبعد الحرب العالمية الأولى، أنشاء الحلفاء (بغياب الولايات المتحدة) عصبة الأمم. وكذلك بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك الأمم المتحدة. بعد انتهاء الحرب الباردة، كان من المفترض من الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات المتعددة الجنسيات الأخرى إدارة النظام العالمي. في كل حالة، سعت القوى المنتصرة الى استخدام التحالفات في زمن الحرب لإدارة عالم ما بعد الحرب. وفي كل حالة، يبدو انها فشلت، لأن الشيء الذي يربطهم بعضهم ببعض – العدو – لم يعد موجودا. وبالتالي، أصبحت المؤسسات عاجزة واضمحل وهم الوحدة.

هذا هو ما حدث هنا. وضع انهيار الاتحاد السوفيتي الجميع في مواقف آليات الحرب الباردة التي لا يمكن إدارتها. تقييم الصافي، لذلك، هو أن الحرب الباردة أخرت ظهور الحقائق التي دفنت تحت ثقلها، والرخاء الاقتصادي عام 1990 خبأ حدود أوراسيا ككل. ما نشهده الآن هو عودة ظهور الحقائق الأساسية التي كانت موجودة بالفعل هناك. أوروبا هي عبارة عن مجموعة مجزأة للغاية من الدول القومية. الصين تحكم قبضتها إلى قواها المترامية الاطراف من خلال حكومة قوية وقمعية في بكين. روسيا ليست على قدم المساواة مع الولايات المتحدة ولا هي القوة التي يمكن تجاهلها أو فرض الوصاية عليها. وخريطة الشرق الأوسط، التي أنشئت من قبل العثمانيين والأوروبيين، فيها قوى مختبئة كامنة تتضخم.

الولايات المتحدة، حتى الآن، أقوى دولة في العالم. وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة يمكنها – أو لها مصلحة في- حل مشاكل العالم، الذي يضم قوى هي في حالة حرب أو الوقوف أمام تلك القوى وإجبارها على التوقف. حتى اصلب الرجل في مكان ما لا يمكنه التغلب على جميع من في المكان والفوز عليهم.

https://www.stratfor.com/weekly/net-assessment-world