حزمة الإصلاحات: استراتيجية جديدة في بناء الدولة العراقية

      Comments Off on حزمة الإصلاحات: استراتيجية جديدة في بناء الدولة العراقية

ميثاق مناحي العيساوي

مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء

آب/2015

وضعت المظاهرات العراقية في الأسبوعين الماضيين السيد العبادي وحكومته في موقف حرج, من خلال المطالبة بإصلاح شامل لكل مؤسسات

الدولة العراقية يبدأ بمحاسبة المفسدين وكشف ملفات الفساد على مدار الـ12 سنة الماضية, وجاءت ثمرة التظاهر بجملة قرارات اتخذها رئيس الوزراء العبادي استناداً إلى مقتضيات المصلحة العامة وإلى المادة (78) من الدستور، والتي تمثلت بـ“تقليص شامل وفوري في أعداد الحمايات لكل المسؤولين في الدولة بضمنهم الرئاسات الثلاث والوزراء والنواب والدرجات الخاصة والمدراء العامون والمحافظون وأعضاء مجالس المحافظات ومن بدرجاتهم ويتم تحويل الفائض إلى وزارتي الدفاع والداخلية حسب التبعية لتدريبهم وتأهيلهم ليقوموا بمهامهم الوطنية في الدفاع عن الوطن وحماية المواطنين, وإلغاء المخصصات الاستثنائية لكل الرئاسات والهيئات ومؤسسات الدولة والمتقاعدين منهم حسب تعليمات يصدرها رئيس مجلس الوزراء تأخذ بعين الاعتبار العدالة والمهنية والاختصاص, وإبعاد جميع المناصب العليا من هيئات مستقلة, ووكلاء وزارات ومستشارين ومدراء عامين عن المحاصصة الحزبية والطائفية وتتولى لجنة مهنية يعينها رئيس مجلس الوزراء اختيار المرشحين على ضوء معايير الكفاءة والنزاهة بالاستفادة من الخبرات الوطنية والدولية في هذا المجال وإعفاء من لا تتوفر فيه الشروط المطلوبة, وترشيق الوزارات والهيئات لرفع الكفاءة في العمل الحكومي وتخفيض النفقات, وإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء فوراً، وفتح ملفات الفساد السابقة والحالية تحت إشراف لجنة عليا لمكافحة الفساد تتشكل من المختصين وتعمل بمبدأ (من أين لك هذا؟) ودعوة القضاء إلى اعتماد عدد من القضاة المختصين المعروفين بالنزاهة التامة للتحقيق فيها ومحاكمة الفاسدين، والطلب من مجلس الوزراء الموافقة على القرارات أعلاه ودعوة مجلس النواب إلى المصادقة عليها لتمكين رئيس مجلس الوزراء من إجراء الإصلاحات التي دعت إليها المرجعية الدينية العليا وطالب بها المواطنون في محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية”. ورفدت حزمة الإصلاحات هذه بحزمة إصلاحات برلمانية. هذه الإصلاحات من شأنها أن تصحح مسار العملية السياسية في بناء الدولة العراقية، إلا أن هناك صورتين للقيام بعملية الإصلاح الحكومي لمنظومة الدولة العراقية، الصورة الأولى متمثلة بـ((حزمة الإصلاحات ودعم الكتل السياسية))،ويمكن تسمية هذه الصورة بصحوة الضمير. صحوة الضمير للكتل السياسية؛ لأن الفساد والترهل الحكومي والوظيفي واستنزاف خزينة الدولة العراقية بمشاريع وهمية وصفقات فساد, والاستحداث الوزاري الذي استحدث طبقاً للمحاصصة الطائفية والحزبية ليس إلا, واستحداث الدرجات الخاصة أيضاً, فضلاً عن فساد المؤسسة العسكرية بتلك المحاصصة, مما أدى إلى انهيار كامل في منظومة الدولة العراقية داخليا وخارجياً. وهذه الصورة بحاجة إلى إسناد ودعم الكتل السياسية إلى الإصلاحات الحكومية والبرلمانية. وبما أنها بحاجة إلى دعم الكتل السياسية, فلا بد أن تتوحد كل الكتل تحت مشروع وطني واحد, ومغادرة لغة المكونات إلى فلسفة المواطنة ودولة المواطن, وهذا بحاجة إلى أن تتخلى كل القوى السياسية عن فلسفتها وثقافتها السلبية, ومشاريعها الحزبية والطائفية التي اكتسبتها على مدار المدة الماضية, ودعم الحكومة في حزمة الإصلاحات الأخيرة. هذه الإصلاحات يجب أن تدعّم بإصلاح اقتصادي وتكاتف سياسي ومشروع مصالحة حقيقي؛ لأن إصلاح الدولة العراقية والمنظومة الحكومية مسؤولية تقع على عاتق كل القوى السياسية دون استثناء لتوحيد الخطاب الوطني, وهي مجبرة على مساندة كل الإجراءات الإصلاحية حتى وإن قفزت فوق الدستور؛ لأن الدستور بحاجة إلى تعديل, وكثير من فقراته غير واضحة وغامضة وتحتاج لتعديل وبعضها معطلة. وما الضير إذا كان القفز على الدستور قفزة إيجابية متمثلة بالإصلاحات البناءة؟. إلا أن هذا الصورة الإصلاحية غير جديرة بالثقة كما يرها البعض؛ لكون المواطن فقد الثقة بكل القوى السياسية التي لم تغادر المواقع القيادية في الدولة العراقية منذ عام 2003, وبسبب عدم قدرة تلك الكتل على تثقيف نفسها والابتعاد أو التخلي عن المفاهيم الطائفية والحزبية والمحاصصة؛ لكونها اعتاشت على هذه البيئة السياسية السلبية, وربما هذه الحزمة من الإصلاحات لا تتلائم مع أجندتها الآيديولوجية، فضلاً عن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية, والأجندة الداخلية والحزبية التي تقودها تلك القوى في كل دوائر الدولة سواء على مستوى رفيع أم حتى على مستوى صغار الموظفين…الخ, زيادة على النفور الشعبي من الأحزاب السياسية الموجودة في العملية السياسية؛ بسبب التناقض الآيديولوجي وازدواجية تلك الأحزاب. وبالتالي، فإن الإجراءات الإصلاحية لا يمكن أن تغير شيئاً في ظل هذا الانهيار الدولتي والمؤسساتي في كل مفاصل الدولة العراقية, حتى لو كانت هناك جدية واضحة من قبل السيد العبادي؛ لأن المشكلة أكبر من ذلك وتحتاج إلى عملية إصلاح شاملة وبديلة كلياً لما موجود اليوم في الدولة العراقية وفقاً لمتطلبات الجماهير والمرجعية الدينية, والمنظومة الدولية والإقليمية. وعليه، يجب أن تكون هناك عملية إصلاح شاملة, وهذا ما سيقودنا إلى الصورة الثانية ((مرحلة بناء الدولة))،وهي الصورة الأكثر إنتاجية لمتطلبات المرحلة السياسية الحرجة من الصورة الأولى وأكثرها جرأة وشجاعة, ولكنها أصعب منها في ظل البيئة السياسية الموجودة حالياً؛ بسبب الفساد المستشري في مواقع عليا في الدولة, وأيضاً بسبب فساد بيروقراطية المنظومة الحكومية؛ لأن هذه الصورة تحتاج الجرأة والشجاعة وعدم معارضة القوى السياسية للتغيير الشامل. هذه الصورة تتمثل باتخاذ تلك الإجراءات بشكل ارتجالي استنادا إلى الدعم الشعبي والدستور والصلاحيات الممنوحة لرئيس الوزراء, المدعومة سلفاً من قبل المرجعية الدينية. ويمكن تسميتها بـ“بالخطوة الشجاعة والمصيرية”, وهذا ما تمثل بحزمة الإصلاحات الحكومية التي اتخذها رئيس الوزراء. هذه الصورة تستلزم من السيد العبادي والقوى السياسية بعد تطبيق حزمة الإصلاحات الحكومية والبرلمانية, وفقا للصلاحيات الممنوحة – أن تكون هناك لجنة تشرع لغرض تعديل الدستور, وأن يجري تعديل دستوري يقضي بتحويل النظام السياسي العراقي إلى نظام رئاسي مع وجود مجلس نواب، أو الإبقاء على النظام السياسي البرلماني مع تقليص المجلس التشريعي “مجلس النواب”, وإلغاء مجالس المحافظات والبلدية والاكتفاء بالمحافظ ورؤساء الوحدات الإدارية. ذلك التعديل الدستوري لا بدّ أن يشمل أيضاً كل المواد الخلافية في الدستور, والمواد التي نص عليها الدستور بأنها “تعدل بقانون”. وسيمنحالتعديل الدستوريأيضاً صلاحيات إلى المحافظات غير المنتظمة بإقليم, مما سيؤدي إلى مغادرة المركزية. كذلك لابد للتعديل أن يشمل مجلس القضاء الأعلى, وإبعاده عن المحاصصة الطائفية والحزبية، وإبعاد كل الهيئات المستقلة عن ذلك. ويوضح في ذلك التعديل علاقة الإقليم أو المحافظات غير المنتظمة بإقليم بحكومة المركز وفق الدستور, ومعالجة كل الثغرات الدستورية التي سببت التعطيل الدستوري في المرحلة السابقة, وتفعيل كل مواد الدستور المعطلة. والحفاظ على استقلالية البنك المركزي بعيداً عن الفساد. وإبعاد المؤسسة العسكرية ووزارة الداخلية من التسييس والتحزب والطائفية، والعمل على منظومة أمنية صحيحة يكون أساسها التجنيد الإلزامي ومعيارها المهنية والمواطنة. هذه الخطوات الإصلاحية ستكون بداية حقيقية في بناء الدولة العراقية وتجاوزا لكل سلبيات وأخطاء المرحلة السابقة والحالية.

وعليه يمكن القول: مع صعوبة السيناريو المتوقع لهاتين الصورتين إلا أنه في ظل الدعم الشعبي والجماهيري فضلاً عن دعم المرجعية الدينية غير المسبوق وجدية القوى السياسية، يمكن أن يستغل السيد العبادي هذا الدعم, والمضي باتجاه إحدى الصورتين، ولو أن الصورة الثانية أكثر إصلاحاً؛ لكونها صورة لعملية إصلاح شاملة في بناء الدولة العراقية, وتجاوز كل أخطاء المراحل السابقة, لبناء دولة عصرية/حديثة متأقلمة مع المجتمع الدولي, وبعيدة عن التخندقات الطائفية. غير ذلك، فهناك اعتقاد كبير بأن كل ما يحدث هو تخدير للمطالب الشعبية, وتسويف لهم حتى في ظل التغييرات الإصلاحية الأخيرة؛ لأن بقاء الكتل السياسية الحالية, وتمسكها بمشاريعها الحزبية في العملية السياسية, سيجعلها متحكمة بكل مفاصل الدولة العراقية من وزارات ومؤسسات ودوائر خدمية. هذه الصورة أيضاً بحاجة إلى الدعم الشعبي ودعم المرجعية أكثر من أي وقت مضى. وبهذا، من الممكن أن نضع اللبنة الأولى والصحيحية لبناء الدولة العراقية, والبدأ بمشروع وطني حقيقي لبناء منظومة حكومية عصرية, والقيام بثورة إصلاحات شاملة ترفد الإصلاحات السابقة. وحتى مع صعوبة الصورة الأولى من قبل المشككين بعدم جديتها, إلا أنها خطوة إيجابية جداً نحو الأمام, ويجب أن ترفد بإصلاحات أخرى من ترشيق حكومي, ومكافحة فعلية للفساد، وأن يصاحب تلك الحزمة الإصلاحية دور رقابي صارم, وهيئة نزاهة بعيدة عن التحزب, ترتبط بمجلس القضاء الأعلى. وبهذا، من المؤمل أن تدفع تلك الحزم والإجراءات عجلة تقدم وبناء الدولة العراقية.