أ.د عدنان حســين الخياط | باحث مشارك في قسـم إدارة الأزمات
مركز الدراسـات الاســتراتيجية | جامعة كربلاء
تُعدّ التجارة بالنقل البحري من الوســائل الأكثر أهمية وجدوى في حركة التجارة الدولية مقارنة ً بوســائل النقل التجاري الأخرى , لما تتسـم بهِ من مزايا تســاعد على إيصال البضائع بأقل التكاليف الممكنة, ومن ثم فانّ ما يقارب من 90% من عمليات نقل التجارة الدولية بين بلدان العالم تتم من خلال وســائل النقل البحري عبر الخطوط البحرية الدولية المتعددة . وفي اطار ذلك فانّ خدمات نقل البضائع بواســطة الســفن تحتل مكانة مهمة في حركة التجارة الدولية من خلال عمليات الاســتيراد والتصدير , لما تشــكّلهُ من التزامات وتأثيرات اقتصادية على أطراف المبادلات التجارية, وما يترتب على ذلك من تكاليف أو عوائد تنعكس على حالة تجارة الخدمات في ميزان الحسـاب الجاري ضمن ميزان المدفوعات , حيث تشــكّل عمليات النقل البحري في التجارة الدولية نشـاطاً اقتصادياً مكملاً لعمليات الإنتاج الموجّه نحو الأســواق الخارجية , كما تُعدّ تجارة الخدمات عنصراً داعماً لتجارة السـلع من حيث التأثير الذي تمارســهُ هاتان التجارتان على حالة ميزان المدفوعات , ســواء في جانبهِ الدائن عند التصدير , أو جانبهِ المدين عند الاســتيراد . ومن ثم فانّ تعزيز دور الناقل الوطني للبضائع عبر المنافذ البحرية وتقليل الاعتماد على وسـائل النقل الأجنبية , من شــأنهِ أن يســهم في زيادة القيمة المضافة للبضائع بالنســبة للدولة المصدّرة , كما يســهم في تخفيض تكاليف الاســتيرادات ودعم ميزان الخدمات وميزان الحسـاب الجاري في ميزان المدفوعات بالنســبة للدولة المســتوردة .
واســتنادا الى ذلك فانّ عمليات النقل البحري للبضائع تمثّل أحد العناصر الأسـاسـية في تجارة الخدمات من خلال ما يقوم به الناقل البحري من جهود تتعلق بنقل المشــتريات أو المبيعات من الســلع والمواد بغية انجاز الصفقات التجارية بين المســتوردين والمصدّرين , فضلا عمّا يحدثهُ هذا النشـاط من ارتباطاتٍ أمامية وخلفية بمجموعة من الأنشــطة المكملة الأخرى , كالخدمات التي تقدمها شــركات التأمين والخدمات التي تقدمها الموانئ والمتعلقة بعمليات الشــحن والتفريغ , فضلا عن الخدمات المصرفية المتعلقة بفتح الاعتمادات المســتندية وتســهيل المدفوعات الدولية بين أطراف التبادل التجاري , حيث تشــكّل هذه الحزمة من الخدمات عناصر مهمة في ميزان تجارة الخدمات بما يتولّد عنها من تأثيراتٍ على ميزان الحســاب الجاري للبلدان المســتوردة والبلدان المصدّرة للســلع والخدمات .
ويرتبط تاريخ النقل البحري في العراق بتاريخ حضارة بلاد الرافدين , حيث انطلقت من موانئ العراق القديم أولى الســفن وأكبرها حجماً , وشــكّلت موانئ البصرة في ذلك الوقت المركز التجاري الوحيد في حوض الخليج العربي والمحيط الهندي[1] . ومنذ بداية عقد العشرينيات من القرن الماضي كانت هناك بوادر لاقامة مشاريع وطنية للنقل البحري , ففي عام 1931 تم افتتاح بناية ( مديرية الموانئ العامة ) في المعقل, وتحوّلت هذه المديرية الى ( مصلحة الموانئ العراقية ) في عام 1956 , كما تم في بداية عقد الخمسـينيات اصدار القانون رقم (76) لسنة 1952 والذي تأسست بموجبهِ ( شركة النقل البحري العراقية ) , الاّ انّ هذه الشركة حتى عام 1958 لم تكّن لديّها ســوى ســفينتان لنقل البضائع . وشــكّلت مرحلة الســتينيات والســبعينيات من القرن الماضي نقطة تحوّل مهمة في توسـيع الاســطول البحري التجاري العراقي حيث أصبح مجموع ما يمتلكهُ من ســفن نحو (14) ســفينة , كما أضيفت اليّها فيما بعد (3) ســفن تجارية أخرى تعمل في مجموعها بنقل البضائع في عددٍ من الخطوط البحرية العالمية [2] , وفي عام 1997 تم تأسـيس ( الشــركة العامة لموانئ العراق ) بموجب قانون الشــركات رقم (22) لســنة 1997 .
وعلى صعيد تطوير الطواقم والكوادر الفنية العراقية العاملة في النقل التجاري البحري , فقد كان هناك اهتمام بهذا الجانب من خلال تأسيس ( أكاديمية الخليج العربي للدراسـات البحرية ) في البصرة عام 1975 , فضلا عن وجود ( قسـم الهندســة البحرية ) في جامعة البصرة من أجل اعداد وتخريج ما تتطلبهُ عمليات النقل البحري من مهندســين ومهنيين لقيادة وصيانة الســفن في الاســطول التجاري العراقي .
وفي مجال الاســطول العراقي لناقلات النفط , فقد تأسست ( شركة ناقلات النفط العراقية ) في عام 1972 بامتلاكها أربع ناقلات , وخلال عقد الســبعينيات من القرن الماضي أصبح اســطول هذه الشركة يتكوّن من ( 15 ) ناقلة نفط خام , وازداد هذا العدد الى ( 24 ) ناقلة خلال عقد الثمانينيات, كما أصبحت طواقم الكوادر البحرية لقيادة وإدارة الاســطول , طواقم عراقية وذلك من خلال زيادة الاعتماد على الجهد الوطني في هذا المجال والاســتغناء التدريجي عن الطواقم الأجنبية[3]
لقد اســتطاعت موانئ العراق أن تتبوأ أعلى المراتب بين موانئ العالم , الاّ انّ هذه المكانة قد تراجعت بســبب الحروب التي مرَّ بها العراق , حيث تعرضّت هذه الموانئ الى التدمير والتقادم في بُناها التحتية , ولاســيّما بعد عام 1990 ممّا أدى الى توقّف العمل في القســم الأعظم من الاســطول التجاري البحري العراقي رغم محاولات التحديث والتطوير , الاّ انّ قطاع النقل البحري في العراق بمختلف عناصرهِ ومكوناتهِ ما يزال بحاجةٍ الى إصلاحاتٍ جذرية في ظل التطورات الحاصلة في صناعة الســفن واتســاع أحجامها وحمولاتها . وفي هذا المجال فانّ عملية تنفيذ واكمال مشـروع الفاو الكبير , ان تحققَّت فعلاً , تُعدُّ خطوةً مهمة من أجل النهوض بواقع الموانئ العراقية وقطاع النقل البحري عموماً بما يسـهم في تطوير واقع تجارة الخدمات لصالح العراق, وعلى وجه الخصوص ما يمكّن أن يتولّد عن هذا المشروع من انعكاساتٍ تؤدي الى التحوّل نحو زيادة الاعتماد على الناقل البحري الوطني لاســتيرادات العراق وصادراتهِ النفطية والسـلعية , في ظل التطورات الجارية في موانئ دول المنطقة وتحديث أســاطيلها التجارية وما نشــهدهُ من تطورات في عمليات النقل التجاري البحري على صعيد دول العالم المختلفة , اســتنادا لعلاقة الارتباط المتبادلة بين حجم التطوّر الذي يحصل في الموانئ التجارية لكل بلد والتطوّر في الأســاطيل التجارية البحرية لذلك البلد .
ويمتلك العراق حالياً ســتة موانئ , هي: ( ميناء أم قصر, ميناء خور الزبير, ميناء البصرة النفطي, ميناء خور العميّة, ميناء أبو الفلوس, ميناء المعقل )[4] , وانّ اثنين من هذه الموانئ مخصصة لتصدير النفط , الاّ انّ التطورات الحاصلة في مواصفات الموانئ والســفن التجارية العالمية من حيث الأحجام والحمولات وما تتطلبهُ من ســعةٍ وطاقة اسـتيعابية في أرصفة الموانئ وكذلك ما تحتاج اليّه من أعماقٍ بحرية , قد جعلت من موانئ العراق الحالية غير قادرة على الاســتجابة لمتطلبات المواصفات الحديثة لعمليات النقل التجاري البحري , ومن ثم فقد أصبحت مهمة تنفيذ واكمال مشروع ميناء الفاو الكبير بمواصفاتهِ المتطوّرة , خياراً اســتراتيجياً من أجل إيجاد الحلول لمشكلات الموانئ العراقية باتجاه التحديث والتطوير لطاقاتها الأســتيعابية , فضلا عمّا يتضمنهُ هذا المشروع من مزايا اقتصادية كبيرة تتعلق بتوفير البنى التحتية اللازمة التي تســهم في تطوير واقع الاســطول العراقي البحري , من حيث زيادة أعداد الســفن ذات الأحجام والحمولات الكبيرة , ســواء ما يتعلق بنقل تجارة العراق والاسـتغناء عن الناقل الأجنبي , أو لغرض تأجير بعض هذه الســفن والمساهمة في زيادة الإيرادات لصالح حساب الخدمات في ميزان المدفوعات العراقي . الى جانب ذلك فانّ حصول مثل هذا التطوّر من شأنهِ أن يساعد على تطوير الخدمات الســاندة الأخرى لعمليات النقل التجاري البحري , كالخدمات التي تقدمها شركات التأمين الوطنية والمصارف التجارية , فضلا عن جملة الانعكاسات والتأثيرات الاقتصادية الأخرى التي يمكّن أن تتولّد عن تطوير الجهد الوطني لهذه الخدمات , كامكانية تطوير العديد من الصناعات وإقامة المناطق والمدن التجارية والصناعية وتوســيع نطاق الأســواق وفرص العمل لأعداد كبيرة من الســكان .
وبحســب التقرير الاحصائي لنشاط النقل المائي في القطاع العام الصادر عن مديرية إحصاءات النقل والاتصالات في تموز 2020 , فقد بلغ عدد الســفن العاملة التي تمتلكها الشركة العامة للنقل البحري ( 8 ) ســفن لغاية عام 2019 , كما بلغت الحمولة الاجمالية من البضائع المســتوردة والمصدّرة المنقولة على متن هذه الســفن نحو ( 374 ) ألف طن , وبمجموع إيرادات بلغت نحو ( 83,4 ) مليار دينار للعام نفســهِ.
لقد اســتطاعت الكثير من الدول , وحتى تلك التي تُعدّ من الدول الريعية المصدّرة للنفط والمســتوردة للســلع المصنّعة أن تعمل على تطوير تجارة الخدمات , ولاســيّما ما يتعلق بتطوير إمكاناتها الذاتية في مجال النقل البحري الوطني لصادراتها واسـتيراداتها , وكذلك تطوير إمكاناتها الذاتية في مجال شــركات التأمين الوطنية والأنظمة المصرفية الداعمة للجهد الوطني في عمليات الاســتيراد والتصدير , ممّا يؤدي الى تعزيز الجانب الدائن في ميزان الخدمات الذي يُعدُّ جزءاً من ميزان الحســاب الجاري في ميزان المدفوعات , من أجل تحســين معدل التبادل الدولي في علاقات البلد التجارية مع العالم الخارجي .
فعلى الرغم من الاتســاع الكبير الذي شــهدتهُ تجارة العراق الخارجية في جانبها الاســتيرادي من مختلف البضائع والســلع وهيمنة الصادرات النفطية بنســبة تصل الى نحو 99,5% من اجمالي الصادرات , فانّ عمليات النقل البحري لهذه التجارة قد ارتبطت بزيادة الاعتماد على الناقل البحري الأجنبي في تلبية متطلبات الاســتيرادات , وكذلك الاعتماد على الناقلات الأجنبية في تصدير النفط العراقي الى الأســواق العالمية , أيّ وفق عقود التجارة ( ســيف CIF ) Cost insurance and freight في جانب الاســتيرادات وعقود التجارة ( فوب FOB ) Free on board في جانب الصادرات . ويتضمن عقد التجارة القائم على أساس ( ســيف ) قيمة البضائع فضلا عن تكاليف النقل والتأمين , في حين يتضمن عقد البيع ( فوب ) تســليم البضائع على ظهر الســفينة التي يحددها المســتوردون دون احتســاب تكاليف النقل والتأمين ضمن قيمة البضائع المســتوردة , ممّا يعني اســتمرار العراق بلداً مشــترياً لخدمات التجارة الدولية الأمر الذي يســهم في زيادة حجم التزاماتهِ ومدفوعاتهِ الخارجية التي تتقرر وفقا للعملة الأجنبية .
وبحســب التقرير الاقتصادي الســنوي للبنك المركزي العراقي لســنة 2019 , فقد حقق صافي حســاب الخدمات في ميزان المدفوعات العراقي عجزاً بلغ ( 15547,2 ) مليون دولار نتيجةً لزيادة المدفوعات المتعلقة بتكاليف الشــحن والنقل والتأمين والتي بلغت ( 22864,9 ) مليون دولار , في حين بلغت إيرادات هذا الحســاب نحو ( 7317,7 ) مليون دولار جاء معظمها من العوائد المســتحصلة من خدمات الســفر للقادمين الى العراق للأغراض الســياحية[5]
أما فيما يتعلق بقيمة الاســتيرادات المحتسـبة على أساس ( ســيف ) , فقد بلغت نحو ( 58138 ) مليون دولار في عام 2019 , وبلغت قيمة الصادرات المحتســبة على أساس ( فوب ) التي يشــكّل النفط معظمها , ( 81585 ) مليون دولار في العام نفســهِ , بعد أن كانت تمثّل في عام 2005 ( 23532 ) مليون دولار و( 23697,4 ) مليون دولار على التوالي , كما انّ حجم العجز في حســاب الخدمات في ميزان المدفوعات كان في حدود ( 5738,9 ) مليون دولار عام 2005 , ممّا يوضح مدى زيادة اعتماد العراق على شـراء الخدمات الخارجية في تجارتهِ الدولية , ولاســيّما خدمات النقل التي تشــكّل ما يزيد عن 45% من اجمالي الجانب المدين في حســاب الخدمات[6] .
وعلى الرغم من أنّ حالة التدهور التي لحقت بتجارة الخدمات في العراق قد ارتبطت بظروف ما قبل عام 2003 , الاّ انّ الاندفاع نحو زيادة الاعتماد على الاســتيرادات على حســاب الجهد الإنتاجي الوطني بعد عام 2003 نتيجةً لفشــل السـياسات التنموية , قد أدى الى تعظيم المظاهر الريعية في الاقتصاد العراقي وزيادة الاعتماد على صادرات النفط الخام وما تجود بهِ من عوائد ريعية , والتي تُعدّ الرافد المموّل لمختلف أنواع الاســتيرادات في تجارة البضائع وتجارة الخدمات المرتبطة بها . ومن ثم فانّ عملية الإصلاح لتجارة الخدمات بعناصرها ومكوناتها المختلفة , من وســائل النقل التجاري البحري والموانئ التجارية , فضلا عن خدمات التأمين الوطنية على البضائع ونظام متطوّر للمدفوعات والتســويات المالية , لابد أن يكون مرتبطاً بإصلاح شــامل لمجمل عناصر تجارة العراق الخارجية في اطار ســياسات اقتصادية تقوم على أســاس تفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية ودعم المنتج الوطني من البضائع والخدمات للمشاريع الصناعية والزراعية والأنشطة السـياحية , بما يســاعد على التحوّل في تجارة العراق الخارجية من تجارة متلقيّة فقط للبضائع والخدمات , الى تجارة متلقيّة ومصدّرة لهذه البضائع والخدمات , في ظل توجهاتٍ جادة لتطوير الواقع الحالي للنقل التجاري البحري وتعزيز جهود واســتقلالية الشــركة العامة للموانئ العراقية من أجل تطوير إمكاناتها الذاتية وتمكينها من زيادة الاعتماد على الناقل الوطني للاســتيرادات والصادرات , بما يســهم في زيادة القيمة المضافة والعوائد من الســـلع المصدّرة وكذلك تقليل التكاليف المرتبطة بقيمة الاســتيرادات , وما ينجم عن ذلك من تأثيراتٍ إيجابية على حالة ميزان الحســاب الجاري في ميزان المدفوعات , بجانبيهِ الأساسـيين ( الميزان التجاري وحســاب الخدمات ) والمســاهمة في تقليل العجز في العناصر المكوّنة لهذه الحســابات خارج نطاق قيمة الصادرات النفطية .
[1] كاظم فنجان الحمامي : ( نحو تطوير الموانئ العراقية والارتقاء بها ) , متاح على الأنترنت .
[2] سـمير عبد الكريم محمد : ( النقل البحري العراقي دعامة مهمة للاقتصاد الوطني ) , متاح على الأنترنت .
[3] حســين حيدر محمد الجزائري : ( الأهمية الاقتصادية لنقل النفط في دول منظمة الأوبك , مع اشــارة خاصة الى شــركة ناقلات النفط العراقية ) , مجلة البحوث والدراسات النفطية , العدد (29) 2020 , ص 47 .
[4] د. زهير جمعة المالكي : ( حرب طرق المواصلات الدولية وموقع العراق فيها ) , مركز البيان للدراسات والتخطيط | متاح على الأنترنت .
[5] التقرير الاقتصادي الســنوي للبنك المركزي العراقي لســنة 2019 , ص 58 .
[6] التقرير الاقتصادي السـنوي للبنك المركزي العراقي لسـنة 2019 ص 53 , كذلك التقرير الاقتصادي السـنوي لســنة 2005 ص 20 .