أ.م.د. حيدر خضير مراد اليساري
باحث مشارك في قسم الدراسات السياسية / مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء
أيار 2022م
تشكل ظاهرة النفي السياسي إحدى الظواهر الملازمة للتاريخ البشري بشكل عام، ولاسيما التاريخ الإسلامي والمعاصر، وقد برزت هذه الظاهرة كوسيلة اتخذتها السلطة السياسية المستبدة، لقمع المعارضين والمناهضين لحكمها وسياستها، وللتخلص من الشخصيات المهمة وذات التأثير الفكري والسياسي في المجتمع، لاسيما خلال مراحل كفاح الشعوب ضد الحكام المستبدين أو الاستعمار في مختلف الحقب التاريخية.
إنَّ النفي لغةً يأتي من نفي الشيء نفياً: نحاه وأبعده، ونفي الرجل عن الأرض ونفيته عنها: طردته فانتفى، قال تعالى: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾(المائدة/ آية 33)، ويقال: نفى الحاكم فلاناً: أخرجه من بلده وطرده، وانتفى الرجل: ابتعد عن وطنه مطروداً، والمنفى: مكان النفي(1).
وعليه يمكن اعتبار النفي اصطلاحاً، بأنَّه: الطرد والإبعاد القسري من الوطن إلى مكان لا يألفه المنفي(2). فالنفي: هو عقوبة إبعاد شخص خارج حدود بلاده لفترة محدودة أو غير محدودة(3)، واتخذت السلطة الزمنية سياسة النفي كإحدى وسائل قمع المعارضة الفكرية والسياسية لمعارضيها، لإنهاء معارضتهم وإبعادهم عن البلدان التي ظهروا فيها، ولمنعهم من التأثير في الجمهور العام، وأحياناً تنفى وتهجر طوائف أو أقليات أو شعوب بكاملها من أرضها، فقد كانت بعض الامبراطوريات في العصور القديمة، مثل: آشور وبابل وروما، قد استخدمت التهجير الشامل لشعوب كاملة كعقوبة لقيامها بالتمرد عليها، من منطلق الاعتقاد بأنَّ الشعب المهجر من أرضه سيتفكك ويزول، وبالفعل لم تصمد غالبية الشعوب أمام النفي والتهجير(4).
وغالب استعمال الفقهاء لمصطلح النفي، يبرز لعقوبة المحاربين قطاع الطرق، الذين يتعرضون للمارة، فكانت إحدى العقوبات النفي بحقهم. وكان الخلفاء يستخدمون النفي ضد خصومهم السياسيين، في محاولة لبعثرة جهودهم وتفتيت محاولاتهم الرامية لنقض الحكم والنظام. واستخدم الشرع الحنيف النفي – التغريب – عقوبة للزاني البكر، لمدة عام بعد جلده مائة جلدة(5).
وقد شهد التاريخ الإسلامي صوراً متعددة للنفي السياسي، منها ما حدث من قبل الخليفة عمر بن الخطاب، عندما اتخذ قراراً بإخراج رجل من المدينة إلى البصرة، بعد جلده تعزيراً، وأمر واليها أن يعلن في أهل البصرة أنَّ هذا الرجل ابتغى العلم فأخطأه، ذلك لأنَّه – أي الرجل- كان يسأل عن تأويل مشكل القرآن، فلم يزل الرجل وضيعاً في قومه حتى وفاته، وقد كان من قبل سيداً لقومه، وفي رواية انه توفي بعد أن أعلن توبته، فعفى عنه أبو موسى الاشعري والى البصرة(6).
كذلك فقد أمر الخليفة الثاني بإخراج رجلين من المدينة من بني سليم الى حيث يريدان، لأنّهما كانا حسنَي الوجه والخلقة، فخاف أن يفتنا نساء المسلمين خاصة، وقد شاع الحديث عنهما بين بعض النساء في عصره، فاختار الرجلان البصرة، وإنَّما فعل الخليفة ذلك متبعاً لمجرد ما رآه من المصلحة الشرعية، ومهملاً في سبيل ذلك مصلحتهما الفردية، في أن يبقى كل منهما بجوار أهله في المدينة(7).
ومن صور النفي السياسي ما تعرض له الصحابي أبو ذر الغفاري، من قبل الخليفة الثالث لما بلغه أنَّ أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله وسنن أبي بكر وعمر فسيره إلى الشام، ثم نفاه إلى الربذة، إذ يروي اليعقوبي عن ذلك قائلاً: ” فلم يقم بالمدينة إلا اياماً حتى أرسل إليه عثمان بن عفان: والله لتخرجن عنها! قال: أتخرجني من حرم رسول الله؟ قال: نعم، وأنفك راغم، قال: فإلى مكة؟ قال: لا! قال: فإلى البصرة؟ قال: لا! قال: فإلى الكوفة؟ قال: لا! ولكن إلى الربّذة التي خرجت منها حتى تموت بها، … فلم يزل بالربذة حتى توفي”(8). ومنها أيضاً ان عثمان بن عفان لما أراد نفي عمار بن ياسر إلى الربذة، قال له الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام): “يا عثمان! اتق الله فإنك سيرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره”(9)، فأمسك عنه، وسيّر عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله الى القموس من خيبر، وكان سبب تسييره إياه، أنّه بلغه كرهه مساوئ ابنه وخاله، وانه هجاه(10).
وخلال العصر الأموي، استخدمت السلطة الأموية وسيلة النفي السياسي على نحو واسع، ضد المعارضين لسياستها ونهجها في الحكم، فمن الذين تعرضوا للنفي صعصعة بن صوحان العبدي، الذي شهد مع الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام) واقعة الجمل وصفين والنهروان، فقد اصدر معاوية بن أبي سفيان أوامره إلى والي الكوفة، بنفيه إلى جزيرة “أوال” في البحرين، والتي بقي فيها حتى وفاته سنة 56هـ /676م(11).
وتعرض الموريسكيون في بلاد الاندلس – وهم المسلمون الذين بقوا في اسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط المملكة الإسلامية– إلى النفي والتهجير الجماعي، بعد أن خيروا بين اعتناق المسيحية أو ترك اسبانيا، ففي الفترة الواقعة ما بين سنة 1609 و1614م، اجبرت الحكومة الاسبانية الموريسكيين على مغادرة المملكة إلى شمال افريقيا بطريقة منظمة(12)، إذ أمروا أن يغادروا تحت ألم الموت والحرمان، بدون محاكمات أو أحكام، وألا يأخذوا معهم نقوداً أو سبائك ذهبية أو مجوهرات … فقط يغادروا بما يستطيعون حمله”(13).
ومن صور النفي السياسي في العصر الحديث ما تعرض له أحمد عرابي، زعيم الضباط الوطنين الاحرار وبعض زملائه، بعد فشل ثورته في مصر سنة 1881 – 1882م، من نفي إلى جزيرة سيلان (سريلانكا حالياً) في شمال المحيط الهندي، من قبل سلطات الاحتلال البريطاني(14)، وكذلك نفي سعد زغلول إلى جزيرة مالطة في البحر المتوسط، مع مجموعة من رفاقه سنة 1919م، مما أدى إلى انفجار ثورة 1919 في مصر، واضطرار انجلترا إلى عزل الحاكم البريطاني، والافراج عن سعد زغلول واعادته من المنفى إلى مصر، ولكنَّه نفي مرة أخرى إلى جزيرة سيشل في المحيط الهندي(15). ومن مظاهر التهجير الجماعي في العصر الحديث، ما تعرض له الشعب الفلسطيني من تهجير من أراضيه، عقب الاجتياح الصهيوني عام 1948م(16).
وفي العصر الراهن شهدت بعض البلدان العربية الإسلامية، العديد من حالات النفي والتهجير الجماعي والهجرة الفردية والنزوح، بسبب الهجمات المسلحة والعنف الطائفي الذي تقوم به التنظيمات الارهابية الإسلامية، كتنظيم داعش في العراق، وداعش وجبهة النصرة في سوريا، أو تجنباً لمخاطر الخطف أو القتل أو الاعتقال، الذي تقوم به تلك التنظيمات بحق المدنيين الابرياء(17).
وهكذا يمثل النفي والتهجير القسري، إحدى صور ومظاهر الاستبداد السياسي الممارس، من قبل السلطات الجائرة او الجماعات المسلحة، بحق أفراد أو أقليات معينة من شعوب بعض البلدان، وهي ظاهرة مستمرة منذ التاريخ القديم وحتى العصر الراهن، لكنها تأخذ صوراً وأشكالاً متعددة تختلف أنماطها على مر الزمان، كوسيلة من وسائل العنف السياسي تتخذ لتكميم الأفواه وكبت الحريات، من أجل تحقيق أهداف الدوائر والجهات الاستعمارية وذيولها من الحكام المستبدين ومصالحهم.
الهوامش:
(1) ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي (ت711 هـ / 1311م)، لسان العرب، تح: عبد الله علي الكبير وآخرون، (القاهرة: دار المعارف، د.ت)، ج15، ص4511 – 4512؛ أنيس، ابراهيم وآخرون، المعجم الوسيط، ط4 ( د .م: مكتبة الشروق الدولية، 2004 م)، ص943.
(2) الصلاحيات، سامي، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، ط1 ( القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1427هـ/2006م)، ص231.
(3) أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، ص943.
(4) “منفى “، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، الرابط على الانترنت:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%86%D9%81%D9%89 (5) الصلاحيات، معجم المصطلحات السياسية في تراث الفقهاء، ص231.
(6) منجود، مصطفى محمود، الأبعاد السياسية لمفهوم الأمن في الاسلام، ( القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ/1996م)، ص477.
(7) المرجع نفسه، ص477.
(8) اليعقوبي، أحمد بن اسحاق (ت بعد 292هـ / 905م)، تاريخ اليعقوبي، ط1 (قم: مطبعة شريعت، 1425هـ)، ج2، ص171 – 173.
(9) الاميني، عبد الحسين النجفي، الغدير، ط4 (بيروت: دار الكتاب العربي، 1397هـ /1977م)،ج9، ص19.
(10) اليعقوبي، تاريخ، ج2، ص173.
(11) الزركلي، خير الدين، الأعلام، ط16 (بيروت: دار العلم للملايين، 2005 م)، ج3، ص205.
(12) ينظر: هورتز، انطونيو دومينقير وبرنارد بنثنت، تاريخ مسلمي الاندلس الموريسيكون “حياة … ومأساة اقلية”، ترجمة: عبد العال صالح طه، ط1 (الدوحة: دار الاشراق، 1988م)، ص219 وما بعدها.
(13) “مورسكيون”، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، الرابط على الانترنت:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%88%D8%B1%D8%B3%D9%83 %D9%8A%D9%88%D9%86
(14) ينظر: مصطفى، أحمد عبد الرحيم، الثورة العرابية، (القاهرة: دار القلم، 1961م)، ص117-120.
(15) ينظر: ابراهيم، عبد الله عبد الرزاق وشوقي الجمل، تاريخ مصر والسودان الحديث والمعاصر، (القاهرة: دار الثقافة، د. ت)، ص291- 292.
(16) ينظر: صالح، محسن محمد، القضية الفلسطينية خلفياتها التاريخية وتطوراتها المعاصرة، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات،2012م)، ص61 – 63.
(17) ينظر: معهد القانون الدولي وحقوق الانسان، تقرير: بين المطرقة والسندان أقليات العراق منذ سقوط الموصل، ط1 ( بروكسل، 2015م)، ص 11 – 15، الرابط على الانترنت:
https://www.refworld.org › cgi-bin › texis › vtx › rwmain
؛ داعش في ريف حلب: تهجير 21000 عائلة واعدامات، صحيفة العربي الجديد، 23 تموز 2014، مقال منشور على الانترنت على الرابط : http://sn4hr.org/sites/media/blog/2014/07/23