أ.م.د. حمد جاسم محمد.
قسم إدارة الأزمات.
مركز الدراسات الاستراتيجية –جامعة كربلاء.
تشرين الثاني/ 2023
على الرغم من الدعم الظاهري العربي للقضية الفلسطينية، ومشاركة بعض الدول العربية ولاسيما التي كانت دولة مستقلة حينذاك، مثل: العراق ومصر والاردن وسوريا في الحرب العربية ضد الكيان الصهيوني عام 1948، ورفضها لقرار التقسيم المرقم 181 والصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، والذي منح الكيان الصهيوني (57.7%) من أرض فلسطين مقابل (42.3%) للعرب، مع بقاء القدس وبيت لحم منطقة تحت إدارة الأمم المتحدة، ثم مشاركتهم في حرب عام 1967، والتي كانت نتيجتها ضمّ الكيان الصهيوني شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان، وقد صدر القرار 242 والذي لم ينص صراحة على إقامة دولة فلسطينية، بل ذكر على الانسحاب من أراضٍ محتلة، وحل مشكلة اللاجئين واحترام سيادة الدول، وحرية الملاحة في الممرات البحرية، وهي تعد ضمنا اعترافًا بحق الكيان المحتل ضم الأراضي العربية، وقد أصبح هذا القرار مرجعًا بعد ذلك في المطالبة بحل الدولتين، وبداية التراجع العربي لدعم القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من انتصار مصر في حرب العام 1973 وتحرير سيناء، إلا أنَّه نتج عنها عقد معاهدة السلام المصرية – الصهيونية عام 1979، ثم بدا التراجع بشكل أوضح بعد إعلان اتفاق أوسلو لعام 1993، بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني ووقّع في واشنطن، وحدد عدة شروط، منها: وجود مدة انتقالية لمدة 5 سنوات لانسحاب اسرائيل من الضفة وغزة، إلغاء المقاومة المسلحة ضد الكيان الصهيوني، وتعترف (اسرائيل) بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنَّها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، إقامة حكم ذاتي (أصبح يعرف فيما بعد السلطة الوطنية الفلسطينية) على الأراضي التي تنسحب منها في الضفة الغربية وغزة على مراحل، أي: (حكم ذاتي للفلسطينيين وليس دولة مستقلة ذات سيادة)، وتعترف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة (إسرائيل) (على78%) من الأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من كل هذه التنازلات، إلا أنَّ الكيان الصهيوني لم يوفِ بالاتفاق إلى يومنا هذا, وانسحبت من غزة فقط عام 2005، أي بعد (12) سنة من أوسلو، ثم بدا التراجع العربي أكثر بإعلان أطراف عربية أخرى إقامة معاهدات سلام مع الكيان الصهيوني، ومنها عقد الأردن معاهدة سلام سميت باتفاقية وادي عربة عام 1994، ثم بدا التراجع يتضح أكثر عن طريق طرح مبادرات تمثل جامعة الدول العربية، وتتنازل فيها عن فلسطين التاريخية مقابل السلام، بالرغم من تأكيدها على حق إقامة دولة فلسطينية غير قابلة للحياة، فقد جاءت المبادرة العربية للسلام عام 2002، وطرحت في القمة العربية الرابعة عشر في بيروت بتاريخ 28/3/2002، والتي تضمنت إقامة دولة على ما تبقى من فلسطين، أي ما تسمى بأراضٍ عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وقد رفض الكيان الصهيوني المبادرة. ثم انكشف التراجع بشكل أوضح بعد ثورات الربيع العربي، بإسقاط أنظمة سياسية تقف إلى حد ما مع حقوق الشعب الفلسطيني، وإقامة حكومات محلها تخلّى بعضها بشكل كامل عن الحقوق الفلسطينية، واقامة علاقات كاملة مع العدو الصهيوني، اولها صفقة القرن والتي لم تبقِ من فلسطين سوى (15%) فقط، لإقامة دويلة غير قابلة للحياة وبشروط تجعل منها أشبه بمقاطعات تتمتع بحكم ذاتي محدود، وقد أعلنت الصفقة في 28 كانون الثاني 2020، من قبل الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) مع رئيس الوزراء الصهيوني (نتنياهو)، والتي حضرها بعض المندوبين العرب من السعودية والامارات والبحرين وعمان ومصر، وصمت الآخرين، كانت تهدف ظاهريا إلى حل سلمي للصراع الفلسطيني- (الاسرائيلي)، بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على (15%) من مساحة فلسطين التاريخية، تصل أجزاؤها عن طريق الجسور والانفاق تحت السيطرة الصهيونية، من خلال المفاوضات وبشكل نهائي، بضمانات أمريكية عربية لمدة انتقالية، ومنح الفلسطينيين مساعدات مالية كبيرة تصل إلى (50) مليار دولار، لبناء مشاريع وبنى تحتية ومنشآت ومطارات لتشغيل الفلسطينيين، بعضها في سيناء المصرية بعد الاتفاق مع مصر على شراء الأرض واستثمارها، وينفق بعض هذه الأموال في مصر ولبنان والأردن، وحل كل فصائل المقاومة، وذلك لوقف أي مقاومة للكيان الصهيوني مستقبلا، واعتراف فلسطيني عربي بيهودية الكيان الصهيوني، وعقد سلام دائم معها، وبقاء سيطرة الكيان الصهيوني على (30%) من الضفة الغربية، ضمن المناطق التي تعرف باسم “ج”، وفق تصنيفات اتفاق أوسلو المبرم عام 1993، وضم جميع مستوطنات الضفة الغربية التي يزيد عددها عن 100 مستوطنة، وضم منطقة الاغوار والبحر الميت لإسرائيل، لمنع أي اتصال بين فلسطين والمشرق العربي، ومنع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضي فلسطين المحتلة، وامكانية اسكانهم في الدول العربية. وجاءت الموافقة الصهيونية على الصفقة بعد أن حصلت على ما كانت تريده من الإدارة الأمريكية، وإنَّ الصفقة النهائية في مصلحتها، إذ لم يعد هناك شيء تتفاوض عليه.
إنَّ هدف الصفقة منذ البداية كان إنهاء القضية الفلسطينية من جهة، والسماح بإقامة علاقات مع الدول العربية من جهة أخرى، وهو ما تم بالفعل تحت مسمى (اتفاقات ابراهام) أو التطبيع، وكانت بدايته مع الامارات والبحرين عام 2020، ثم تبعهما المغرب والسودان، وحاليا مفاوضات جارية مع السعودية لعقد اتفاق مع الكيان الصهيوني.
بعد ذلك بدا التراجع العربي بشكل واضح جدا من قضية فلسطين، بل أصبح التعاون مع الكيان المحتل، وإقامة علاقات اقتصادية معه أولوية لهذه الدول، لاسيما بعد خروج العراق بسبب الاحتلال الأمريكي وسوريا بسبب الأحداث الداخلية من هذه المعادلة، فقد تسابقت عدد من الدول العربية في إقامة علاقات، وتطبيع مع الكيان الصهيوني، والابتعاد عن ثوابت القضية الفلسطينية، وإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
واستمر التراجع العربي بشكل أوضح في الحرب الجارية حاليا في غزة في تشرين الثاني 2023، فبعد أن نفذت حركة حماس هجومًا على المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى المعابر وبعض الوحدات العسكرية، وقتل أكثر من (1300) من جنود العدو وأسر المئات، نفذ العدو هجوما بربريا واسعا على القطاع وحصار مطبق، وقطع كل شرايين الحياة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من عشرة آلاف مدني، أغلبهم من الأطفال والنساء، وجرح عشرات الآلاف، وتدمير أحياء بأكملها ومدارس ومستشفيات ومؤسسات خدمية، فضلا عن تنفيذ هجوم بري واسع هدفه حسب تصريح العدو الصهيوني القضاء على المقاومة الفلسطينية، والتصريحات الصهيونية بتهجير أهالي غزة إلى سيناء المصرية أو إبادتهم. وبالرغم من كل هذه الجرائم نرى أنَّ هناك صمتًا عربيًا مطبقًا، إلا من بعض الأصوات التي هي بعيدة عن ساحة المعركة، وبعض المساعدات الانسانية التي لا تغني ولا تسمن، بل إنَّ بعض الحكومات العربية ولاسيما الدول المطبعة، قد وجهت النقد إلى المقاومة الفلسطينية، وحملتها مسؤولية ما يحدث في غزة، واستمرت في تعاونها مع الكيان الصهيوني على مستوى العلاقات الدبلوماسية أو الاقتصادية، بل إنَّ بعض التقارير ذكرت أنَّ الاسلحة الأمريكية تنقل من قواعدها في دول عربية لدعم الكيان الصهيوني.
إنَّ التراجع والصمت العربي عن دعم القضية الفلسطينية، وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم، والوقوف موقف المتفرج، لم يأتِ من فراغ بل له أسبابه المعلنة والمخفية، ومنها:
- ثورات الربيع العربي عام 2011، والتي ضربت دولًا كان لها وزنها في المنطقة العربية، وأصبحت هذه الدول تحاول أن ترمم نفسها، وتعيد وحدة شعبها التي مزقتها الحروب والتناحر، كذلك إنَّ هذه الثورات انتجت أنظمة حكم، أصبح التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإقامة علاقات معه، أولوية لها، وعدته وسيلة لضمان حمايتها مستقبلا.
- ضعف الدعم العربي للمقاومة الفلسطينية، جعل الأخيرة تتجه إلى دول أخرى كـ(إيران وتركيا)، لطلب العون والمساعدة في تحقيق أهدافها في التحرر وإعلان دولتهم المستقلة، وان نظرت بعض الدول العربية لإيران كعدو في المنطقة، جعلها تضع المقاومة ولاسيما في غزة في خانة الدول الداعمة لها، مما جعل أغلب حكومات دول الخليج العربية، تقف صراحة إلى جانب العدو الصهيوني ضد حركات المقاومة في غزة.
- ارتباط أغلب الدول العربية باتفاقيات حماية مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد داعمًا رئيسًا للكيان الاسرائيلي في المنطقة بالمال والسلاح والدعم في المنظمات الدولية، لهذا فهذه الدول لا تريد أن تكون طرفًا في الحرب، خوفًا من رد فعل الولايات المتحدة من جهة، كذلك تريد حماية أنظمتها السياسية من جهة أخرى، إذ إنَّ إرسال الولايات المتحدة حاملتي طائرات وسفن حربية، بعضها يعمل بالطاقة النووية، وفرق عسكرية مثل دلتا إلى المنطقة، هدفها حماية الكيان الصهيوني، وردع أي دولة تحاول أن تدخل الحرب إلى جانب المقاومة الفلسطينية.
- ارتباط حركة المقاومة الاسلامية حماس بحركة الاخوان المسلمين المحظورة في بعض الدول العربية، مثل: مصر والسعودية والامارات والبحرين، جعلها منبوذة في هذه الدول ومعادية لهم، كذلك اتهام مصر لحماس بأنَّ لها يدًا في أحداث سيناء الارهابية، وقتل عدد من الجنود المصريين أيضا، ألقى بظلاله على مكانة الحركة لدى الحكومة المصرية.
- البعد المكاني لبعض الدول العربية عن ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني، والتي موقفها واضح ودائم مع تحرير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، كالعراق والجزائر واليمن، أو ضعف امكانات بعضها، مثل سوريا، جعل دول المواجهة تمنع أي تحرك عربي ضد العدو انطلاقا من أراضيها.
إنَّ ما يحدث في قطاع غزة الفلسطيني، من انتهاك صارخ لكل المواثيق والأعراف الدولية، وضرب حقوق الانسان، وإبادة للسكان، وتهجير وحصار، ومنع الغذاء والماء والدواء، واستهداف المستشفيات والمدارس، هو عمل همجي بكل المقاييس ضد شعب محتل أعزل، هنا يتبين أنَّ الخط العربي كان في تراجع دائما، وأنَّهم كانوا وما زالوا يريدون حل القضية الفلسطينية، بغض النظر عن الخسائر التي تلحق بالشعب الفلسطيني، وإنَّ صفقة القرن هي دليل على عدم جدية الحكام العرب، في ما كانوا يدعون له من مقاومة لتحرير فلسطين، والطلب من الولايات المتحدة، وهي الشريك في الجريمة، بوقف العدوان أو مناشدة المنظمة الدولية، وهي أضعف من أن تطبق أي عقوبات على الكيان المحتل، الذي ضرب ويضرب كل القوانين الدولية، هو طلب لا يقدم أي حل للقضية الفلسطينية، بل موقف قد يقود مستقبلا إلى أن يقوم العدو الصهيوني بمباركة أمريكية غربية، باستهداف دول أخرى، مثل لبنان وسوريا وحتى مصر والاردن مستقبلا.