أ.م. ميثاق مناحي العيسى
قسم الدراسات السياسية
تشرين الثاني/ نوفمبر 2023
يعد الاغتراب ظاهرة إنسانية عامة، وهي قديمة قدم الإنسان نفسه، إذ لازمته في جميع العصور والأزمنة، فالإنسان ربما هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن ينفصل عن نفسه أو مجتمعه أو عالمه. ولعل الاغتراب السياسي جزء من هذه الظاهرة، إذ ينتاب المواطن شعور بالغربة عن حكومته والنظام السياسي وكل ما يتعلق بالسلطة، وإحساسه بأنَّ المشاركة السياسية (الانتخابية) مجرد لعبة سياسية؛ نتيجة لمجموعة عوامل، ولاسيما تلك التي تتعلق بالوضع الاقتصادي، والاستقرار السياسي والأمني، ومستوى رفاهية المجتمع؛ الأمر الذي يجعله يميل إلى عدم اتخاذ سلوك انتخابي إيجابي. ويعتقد أكثر المتخصصين أنَّ هناك علاقة تفاعلية بين الاغتراب السياسي، والسلوك السياسي للمجتمع أو ما نسميه بالسلوك الانتخابي، ولاسيما في الديمقراطيات الناشئة، إذ يؤثر الاغتراب السياسي تأثيرًا مباشرًا في السلوك الانتخابي للمواطن ومشاركته السياسية. فكيف يمكننا أن نفهم تلك العلاقة التفاعلية وهذا التأثير، وانعكاسه على مستقبل التجربة الديمقراطية والنظام السياسي في العراق.
يعد الاغتراب السياسي من أهم الآثار المترتبة على العزوف الانتخابي، إذ يتولد لدى أغلب المواطنين، ولاسيما عند فئة الشباب، شعور باليأس وفقدان الأمل من القدرة على إحداث تغيير سياسي أو حكومي أو في نتائج الانتخابات، أو يتولد لديهم شعور بأنهم غير مؤثرين في القرارات الحكومية التي يصدرها صانع القرار، ومن ثمَّ تحولهم إلى متلقين فقط؛ مما يزيد من فرصة اعتزالهم عن الفعاليات الاجتماعية والتطورات السياسية. وفي ظل مجريات الأحداث في العراق، وحالة عدم الاستقرار، وتفشي الفساد والبطالة، ظهرت نخبة حاكمة وأغلبية محكومة، وهذه النخبة تعيد نفسها بمسميات جديدة، مما مكَّنها من احتكار القرار السياسي دون تغيير؛ وهذا من شأنه أن يبعث برسائل سلبية نحو فقدان الأمل في تحقيق الطموح السياسي، ففي كل دورة انتخابية نرى ضعف الاقبال على صناديق الاقتراع، وكان يفترض اتساع المشاركة لإحداث التغيير المنشود، وإنَّ ضعف المشاركة هي أعلى درجات الاغتراب السياسي؛ بسبب عدم المبالاة وشعور الفرد بأنَّ الموضوع لا يعنيه، كما أنَّ الاحباط المتولد من استشراء الفساد في مفاصل الدولة وضعف الخدمات، فضلًا عن وجود الفقر وارتفاع معدلات البطالة، أهم الأسباب التي تؤدي إلى عزلة الفرد عن بيئته وشعوره بالاغتراب السياسي.
إنَّ حالة الإحباط التي أصيب بها الناخب العراقي، نتيجة لتكرار المشهد السياسي لأكثر من عقدين من الزمن، وتلكؤ الحكومات المتعاقبة في توفير الخدمات الأساسية، وحماية الدولة والمجتمع والمال العام، فضلًا عن التدخلات الخارجية الخطيرة، ولَّدت قناعة لدى الناخب العراقي بأنَّ بعض الأحزاب والقوى السياسية الحاكمة، لا يمكنها أحداث تغيير سياسي لمصلحته وأمنه ورفاهيته، بقدر ما تبحث عن تعضيد مكاسبها السياسية والأمنية والاقتصادية وإدامتها، مع كل دورة انتخابية جديدة، والعمل على إدامة وجودها لأطول فترة ممكنة، وسط تنامٍ وتضخم كبير في مواردها المالية ومكاسبها الاقتصادية والسياسية؛ ونتيجة لذلك نرى أنَّ الاغتراب السياسي، قد دفع ويدفع بالمواطن العراقي إلى خيارات أخرى، فمرة يدفعه إلى التحالف أو الانضمام للمجاميع الإرهابية والجهادية المتطرفة، كمصدٍ راديكالي للنظام السياسي القائم، كما حدث إبَّان اجتياح تنظيم داعش الإرهابي للموصل وصلاح الدين وتكريت والرمادي، وطبيعة التحالف الذي حصل بين التنظيم وبعض الأهالي المستائين من السلوك السياسي للحكومات المتعاقبة، ومرة يدفعه إلى الانتماء للجماعات المسلحة؛ نتيجة لغياب دور القانون وضعف الاندماج السياسي بين المجتمع والنظام السياسي، ومرة يدفع به إلى الاحتجاج بشكل راديكالي، أو المقاطعة السياسية، كما حصل في انتفاضة تشرين 2019، وكذلك مقاطعة الصدريين للانتخابات وانسحابهم من العملية السياسية، أو غيرها من الاحتجاجات المسلحة والسلمية التي حصلت من داخل المنظومة السياسية المشاركة في إدارة العملية السياسية؛ الأمر الذي أدى بالمواطن إلى مقاطعة الانتخابات بكل أشكالها؛ مما ينعكس سلبًا على عملية التغيير السياسي، ويجعل الانتخابات وما تفرزه من نتائج ومخرجات، غير فاعلة وليست مؤثرة في القرار السياسي الداخلي والخارجي، وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات وتحولات على النظام السياسي، ومستقبل العملية الديمقراطية في العراق، فضلاً عن تداعياته على المجتمع والدولة بشكل عام.