مركز الأبحاث العلمية والدراسات الاستراتيجية للشرق الأوسط / طهران
المؤلف: مسعود رضائي
المترجم: أ. م. خالد التميمي
مراجعة: د. حسين أحمد السرحان
https://www.cmess.ir/Page/View/2023-10-23/8302
أثار الهجوم المفاجئ الذي شنته قوة المقاومة الفلسطينية (حماس)، على إسرائيل يوم 7 اكتوبر 2023، خلال عملية أطلق عليها اسم “عاصفة الأقصى”، دهشة العالم واستغرابه. لدرجة أنَّ العديد من المسؤولين والمراقبين الغربيين ووسائل الإعلام الدولية، قد أشاروا إلى وقوف إيران وراء هذه العملية، وعدّت العقل المدبر لها. إذ إنَّه حدث نادر وغير مسبوق، قد سلط الضوء عليها ظاهريا بمفاهيم عديدة، مثل: الفشل التاريخي، وتشويه سمعة الردع، وضعف جهاز الاستخبارات والأمن، ونهاية أسطورة “إسرائيل” التي لا تقهر. وهي قضية بالطبع مع تصريحات عديدة ومواقف متناقضة للعديد من الشخصيات السياسية والعسكرية في طهران، مثل الحرب في أوكرانيا والتي أعطت أبعادًا جديدة وأوسع للوجه الأمني الايراني.
واعتمادًا على ما إذا كنا نقبل أنَّ “إسرائيل”، على الرغم من امتلاكها مجموعة واسعة من الأصول الاستخباراتية والأمنية، (من محطات الإنذار الأرضية إلى الأنظمة الفضائية والإلكترونية)، لم تكن على علم بالتخطيط والتحركات، وإمكانية وقوع مثل هذا الهجوم في “حلقته الأولى” “الحدود التي يمكن الدفاع عنها”. أو كما حدث في 11 سبتمبر/أيلول، ينبغي لنا أن نعدّ تجاهلًا مثل هذا الحادث، بمنزلة قرار صعب وخطة سرية، لتطهير غزة من قوات حماس، وكمنصة لتمهيد الطريق لمبادرات أمنية مستقبلية في الشرق الأوسط. هناك إجابات عن أسئلة مثل ما إذا كانت “إسرائيل” تريد حقًا أن يُنظر إليها على أنَّها الجانب الخاسر في حرب المعلومات، أو ضحية العنف بالوكالة في هذه الحرب؟ ونتيجة لهذه الحرب من سيُهزم ومن سينجو؟ سيكون الأمر مختلفاً إذا كانت إيران وجبهة المقاومة ستستفيدان من هذه الحرب، أم أنَّهما لعب عن غير قصد على “الأراضي الإسرائيلية”.
وبغض النظر عن هذه الاعتبارات والغموض الاستراتيجي، فضلا عن التهديدات الواضحة التي أطلقتها طهران في بداية الحرب، بشأن إمكانية فتح جبهات جديدة ضد “إسرائيل”، مباشرة أو من قبل حزب الله والحوثيين في اليمن، فقد أبلغ القائد العام وعلى أعلى مستوى، أنَّ “ايران لم تقوم بأي دور في العمليات العسكرية لحماس”، ونتيجة لذلك فإنَّها بعثت ضمنا برسالة واضحة، مفادها أنَّها لا تريد أن يأخذ نطاق هذه الحرب أبعادا إقليمية مع دخول ايران الى المنطقة. وعلى الرغم من الهجمات الشرسة التي شنتها وتشنها “إسرائيل” على مواقع حماس العسكرية، وارتفاع الخسائر البشرية في صفوف المواطنين العزل في قطاع غزة، الأمر الذي قد يؤدي إلى القضاء التام، على حلقة الدفاع الإيرانية هذه في استراتيجية التوازن عن بعد والردع الممتد، إلا إنَّ الأسباب التي دفعت إيران إلى اتخاذ هذا القرار الحذر، تتبع منطقين استراتيجيين:
أولاً- منذ مرحلة الخمسينيات، أظهرت إيران أنَّها لا تدخل بسهولة في حرب مباشرة، وهذا ينطبق أكثر على أمريكا و”إسرائيل”، لأنَّ التفكير الأمني الإيراني وبنيته، وآلية اتخاذ القرار في هذا المجال، هي أمور محافظة ومعقدة للغاية. كما أنَّ أزمة غزة هي من أخطر مجالات التقييم والالتزام بهذه الثقافة الاستراتيجية، ولاسيما عندما تتولى حكومة موحدة إدارة الأمور؛ مجال “الدبلوماسية” يقدر “المجال” أكثر مما كان عليه في الماضي. وبسبب التوتر المتزايد مع الغرب و”إسرائيل” بشأن قضية أوكرانيا، كانت روسيا هي أقرب لها من إيران. والأهم من ذلك، ومع العديد من المشاريع الدفاعية المحددة في مجال الصواريخ والطائرات بدون طيار، فإنَّ الردع التقليدي لإيران يشهد اتجاهًا تصاعديًا.
لكن خلافاً لرأي بعض النخب السياسية، فضلا عن اتخاذ مواقع هجومية، يتمتع كبار القادة العسكريين الإيرانيين، بفهم تفصيلي لنطاق القوة العسكرية للولايات المتحدة و”إسرائيل”، ومدى القوة الهجومية الدفاعية المحلية، وبالطبع لديهم معرفة بحجم الأضرار والخسائر في عملية مكلفة وطويلة الأمد. هذه الحقيقة الخطيرة جعلت إيران منذ بداية القرن الحادي والعشرين، تركز طاقتها قبل كل شيء في تعزيز الحدود الغربية والجنوبية، واستراتيجية الحرب غير المتكافئة في المنطقة الرمادية من غرب آسيا. ونتيجة لهذا فإنَّ ثقل سياسة إيران الإقليمية واستراتيجية الردع الدفاعي، لا يزال يؤثر لمصلحة الصراع بالوكالة ضد أميركا وإسرائيل. وقد أدى ظهور حالات أمنية جديدة في الجوار، لاسيما في الحدود الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية، إلى الحد من حرية إيران في التصرف خارج حدودها الإقليمية.
وأمّا المسألة الثانية فتشير إلى العلاقة بين انقضاء الدور التقليدي للحرب في خلق التكامل الداخلي، وتغير الخطاب الاستراتيجي الوطني في إيران. لقد وضعت حرب السنوات السبع (1756-1763 م) المستعمرين الأمريكيين والبريطانيين، على الطريق لتشكيل أمة جديدة ودولة جديدة. في وقت ما ايضا تمكَّن أوتو فون بسمارك في القرن التاسع عشر، من الفوز بثلاث حروب حاسمة في غضون خمس سنوات. وهذه الحروب التي أصبحت تُعرف باسم “حروب توحيد ألمانيا”, قد بنت الدولة التي نعرفها بهذا الاسم اليوم. وفي السياق نفسه، يخلص ستيفان بيرغر إلى أنَّ “حروب التوحيد، أدت في النهاية إلى إضفاء المثالية على الحرب في التاريخ الألماني”. لقد شكلوا تسلسلات هرمية وبيروقراطية، ومؤسسات أصبحت تدريجيًا مستقرة وتطورت. وبالنسبة لهذه البلدان الناشئة، جلبت إنجازات الحرب تجارب مشتركة مهمة، لأنَّه حتى الفشل يمكن أن يكون أكثر توحيدًا من النصر.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت الحروب على مستوى العالم، بمنزلة قوى مدمرة للدول في المقام الأول، لأنَّه يبدو أنَّ الدول التي في قلب الحرب تنهار بدلاً من أن تتحد. وفي بلدان اليوم من ليبيا إلى ميانمار، تعمل الصراعات الداخلية والخارجية على إضعاف الحكومات، وتهدد بتدمير الأمم. وفي العراق فإنَّ الحرب التي بدأتها الولايات المتحدة في بداية القرن الجديد، ظاهرياً لإنقاذ البلاد إلا إنَّها وصلت إلى عدم الاستقرار. ومن ناحية أخرى تشهد أفغانستان دوامة هابطة من العنف الداخلي. وعلى الرغم من أربعة عقود من الحرب مع الاتحاد السوفييتي (السابق)، وتجربة الحرب الصعبة مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، فإنَّ هذا البلد (افغانستان) يعاني من مشكلة الاستقرار والأمن والتماسك الداخلي.
كما أنَّ أنماط التاريخ تخبرنا أنَّه على الرغم من التحديات العديدة التي واجهتها هذه البلاد أمام الأعداء الأجانب، كان ينبغي لأفغانستان أن تخرج من تلك الكارثة بطريقة موحدة. وبدلاً من ذلك وبعد الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة كقوة احتلال، والذي أدى إلى صعود ميليشيا طالبان، وانهيار تماسكها الاجتماعي والوطني، ولا يزال من الممكن تجربة حرب أخرى وسط صراعات داخلية شديدة.
كما قدمت سوريا تجربة قيمة أمام النخب والرأي العام الإيراني. لقد أحدثت الصراعات المسلحة، مهما كان مصدرها وعواقبها، انقطاعًا في تقدم هذا البلد وأعاقت التنمية، وأظلمت الآفاق المستقبلية لحياة طبيعية في شكل بلد. وفي الواقع، وبدلاً من أن تكون الحرب عاملاً موحدًا، أصبحت الحرب مرضًا فتاكًا ذا قدرات مثيرة للانقسام في أجزاء كبيرة من الشرق الأوسط.
يعكس المصطلحان المستخدمان على نطاق واسع، “الأمة التي مزقتها الحرب” و”دوامة العنف” لوصف البلدان التي تشهد صراعات حقيقة واضحة، مفادها أنَّ أغلب البلدان التي تشهد حربًا هي بلدان تسير على نحو خطير على طريق الفشل والانحدار. وهذا يعني أنَّه على عكس العقود القليلة الماضية، يمكن للحرب أن تكون بمنزلة حافز لخلق الوحدة تحت علم واحد. لقد رسمت الحرب في العصر الحالي، نمطاً من النهاية الحزينة والمظلمة، وليست بداية للتماسك وبناء الدولة القومية.
وفي هذا الصدد، إذا كان الرأي العام لمجتمع ما، يعزو تراجع السوق الاقتصادية وزيادة المعاناة الاجتماعية للبلاد، إلى المُثُل والأهداف غير الوطنية للنظام السياسي، ففي هذه الحالة يتجه الخطاب الاستراتيجي الوطني أكثر فأكثر، نحو النفور من الحرب وعدم مصاحبة الرواية الرسمية (حتى في مواجهة العدوان ودفع تهديد العدو)، وهي مسألة أصبحت شواهدها وأمثلتها منذ عام 2017 (بسبب زيادة التضخم الاقتصادي وتشديد القيود الاجتماعية)، أكثر وضوحا. ويبدو أنَّه في استمرار وتعزيز هذه الدورة والبنية الذاتية، لا تتضرر العلاقة بين الحساسية الوطنية والضعف فحسب، بل تتضرر أيضًا مجموعة من الرأي العام والقوة الصارمة والردع العسكري (الذي هو في الأساس داعم وحامي لكل دولة). ولضمان البقاء الوجودي للدولة والأمن، يتم تقييمهم بما يتعارض مع الأهداف والتطلعات الوطنية. ونتيجة لذلك فإنَّ أي أزمة إقليمية مثل الحرب بين حماس و”إسرائيل”، تنعكس عواقبها بطريقة أو بأخرى على المجال الداخلي.
وفي استمرار تعميق الخطابات الاستراتيجية الوطنية الخطيرة نفسها، والتي قد تهدد وتتحدى مستوى التلاحم الوطني الحالي في المستقبل، فإنَّ دخول إيران المباشر في حرب مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة، يقابل بالشكوك والنزعة المحافظة الوطنية، وحتى الأعمال العدائية ضد المنشآت العسكرية، والأصول الاستراتيجية للبلاد، قد تُقابل باللامبالاة وحتى [للأسف] بالرضا من جانب شريحة من المجتمع الايراني. ويمكن في هذا السياق تقييم وقياس توسع الهجمات والتخريب الإسرائيلي المحدود داخل الأراضي الإيرانية في السنوات الثلاث الماضية، وملاحظة اللامبالاة من الرأي العام.
بسبب هذه الزيادة في معرفة النخب السياسية والعسكرية ووعيهما حول مجتمع اليوم، وعلى الرغم من النبرة الأكثر عدوانية لإيران، يبدو أنَّ استراتيجية الردع التقليدية الإيرانية مقارنة بالماضي – أي إنّه مع الدعم الشعبي يمكن أن تكون أقرب إلى الحرب, بوصفها “مسألة مقاومة ملحمية”، تميل لمصلحة الحرب بعدّها “مسألة استراتيجية”، وفي المستقبل سيعطي قيمة أكبر لتعزيز القوة العسكرية الكلاسيكية. إنَّ قرار هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، بزيادة دور الجيش في هيكل الردع الإيراني على مدى السنوات الثلاث الماضية، والتسوية مع الرياض في إطار “استراتيجية درء الشر”، يجب أن يتم البحث عنه في سياق هذا المتغير الحساس لـ “السياسة الداخلية”، والتغيير الملموس في السرد الاستراتيجي الوطني.
التحليل:
يتضح أنَّ مواقف إيران من الحرب بين حماس و”إسرائيل”، مرتبطة بأهدافها الإقليمية والدينية، ويظهر الدعم الإيراني لحماس تعاملًا معقدًا بين الأبعاد السياسية والدينية، حيث ترى إيران في حماس جزءًا من محور المقاومة ضد “إسرائيل”، ويبرز تحول إيران نحو تعزيز القوة العسكرية التقليدية، والرد الكلاسيكي كاستجابة للتحديات الأمنية في المنطقة، وقد يكون ذلك جزءًا من استراتيجية لتعزيز القدرة الدفاعية وتحقيق التأثير الإيراني.
وعلى الصعيدين الإقليمي والداخلي، يمكن أن يكون دعم إيران لحماس استراتيجية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، وفي الوقت نفسه توجيه الانتباه عن القضايا الداخلية المثيرة للجدل، وتعكس هذه المواقف التفاعل المعقد للعناصر السياسية والدينية في سياستها، مما يظهر التوترات بين المذهبين الشيعي والسني، ويبرز الطابع الديني للصراعات الإقليمية.