م.م مصطفى محمود
قسم إدارة الأزمات
كانون الاول/ 2023
إنَّ من أهم أقوال الفيلسوف الفرنسي فولتير (إذا أردت أن أفهمك فعليك أن تحدد مصطلحاتك), وانطلاقاً من هذا القول, تتضح أهمية المصطلحات الناشئة في الدراسات البحثية والعلوم كافة, لاسيما حقل العلوم السياسية, ويعدّ مفهوم (الدولة العميقة) من المفاهيم الذي بدأ استخدامهُ بالازدياد خلال العقدين الأخيرين, ولاسيما مع موجات الربيع العربي التي عصفت ببعض البلدان العربية، فشاع استخدام هذا المصطلح بشكل عشوائي في الخطابات الثورية، والتقصيات الإعلامية والبرامج السياسية العربية, ويمكن وصف الدولة العميقة (كظاهرة سياسية). وللوقوف على هذهِ الظاهرة بغية ضبطها كمصطلح سياسي ناشئ، لابد من تتبع الإرهاصات الأولى لهذهِ الظاهرة، ومن ثم تفكيكها وإعادة صياغتها.
الإرث التاريخي وتطور الظاهرة:
بدأت هذهِ الظاهرة بالظهور لأول مرة, بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية خلال القرن العشرين، وتحديداً في العام 1932، عندما أطاح (مصطفى كمال أتاتورك) بالإمبراطورية العثمانية، ليعلن تأسيس تركيا الحديثة القائمة على النظام العلماني, حيث تكونت بمباركته وتحت مظلة الحكم في الجمهورية التركية آنذاك, مجموعة من الأفراد من رجال أمن وعلماء وقضاة، شكلوا شبكة سرية هدفها الأساسي الحفاظ على علمانية تركيا, وإحاطة أي تهديد يحاول النيل من علمانية الدولة ودحره سواء كان التهديد فردًا أو جماعات.
ومن ثم تسربت هذهِ الظاهرة إلى روسيا الاتحادية وبعض دول الاتحاد السوفيتي, إذ كانت أجهزة الاستخبارات السوفيتية تعمل جاهدة على تغول الحزب الشيوعي والحكومة السوفيتية، وكبح جماح أي مخاطر تهدد الحزب والحكومة آنذاك, ومن تركيا مرورًا بروسيا الاتحادية، إلى الدول العربية في العقدين الأخيرين، وغيرها من الأمثلة السابقة واللاحقة والتي لا يسع ذكرها جميعًا, نلاحظ بعض الخواص المشتركة التي تحيط بهذه الظاهرة، ومنها:
- الاستقرار السياسي: عن طريق تتبع هذه الظاهرة، نلاحظ أن استقرار النظام السياسي، هو عامل مهم وأساسي في بزوغ هذه الظاهرة السياسية، وإن كان نظام حديث العهد، إلا إنَّه يتمتع بدرجة عالية من الاستقرار، وهذا الاستقرار يساق عن طريقه مجموعة من المصالح لجماعة معينة، تهدف إلى المحافظة على هذهِ المصالح، ومن ثمَّ تحافظ على بقاء الوضع الراهن كما هو عليهِ, وهذا ما يميز هذهِ الظاهرة عن ظاهرة (دولة داخل الدولة)، إذ من صفات الدولة داخل الدولة، حالة من عدم الاستقرار السياسي والفوضى السياسية.
- لا يشترط في أدوات تمكين هذه الظاهرة أن تمثلها الحكومة أو شخص رئيس الحكومة، بل هي عبارة عن شبكة مكونة من مجموعة أفراد تمثل البيروقراطية في الجهاز الإداري للدولة, وقد يكون الأفراد من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال.
- لا يشترط أن تعمل أدوات هذه الظاهرة وفق السياقات القانونية, بل يمكن أن يتعداها إلى أعمال خارج القانون، كالتزوير والابتزاز السياسي وقد تصل إلى حد التصفية والاغتيال وغيرهما من الأعمال الذي يحظر القانون التعامل بها.
تفكيك الظاهرة:
إنَّ عملية تحديد الخواص المشتركة لمفهوم الدولة العميقة بوصفها ظاهرة سياسية وكما تقدم, هي بمنزلة عملية تفكيك لهذا المصطلح الناشئ، من أجل حصر استخدام المصطلح في الحالات الواجبة فقط، والابتعاد عن العشوائية في استخدامه, كما يمكن وضع مجموعة من الاستثناءات تتقاطع مع خواص هذه الظاهرة “الدولة العميقة”، ومن هذه الاستثناءات النظم السياسية ذات الديموقراطية الراسخة، لأنَّ التكوين القانوني لهذه النظم السياسية، يتأسس على مجموعة ضوابط تقتضي سيادة القانون، والفصل بين السلطات، ومجموعة إجراءات رادعة من داخل البنية الداخلية للنظام السياسي, كما أنَّ النظم السياسية ذات الديموقراطية الراسخة، تسمح بوجود جماعات ضغط ومصالح وفق سياقات قانونية، لها الحرية المطلقة في تنظيم مواردها، لتحقيق غايات سياسية، كما تمارس أعمال الضغط على الحكومات، للحفاظ على مصالحها حتى إن حاولت هذه الجماعات اختراق الدولة، بالتنسيق مع أشخاص نافذين داخل مؤسسات الدولة، لتكون البذرة الأولى لتنامي هذه الظاهرة, نجدها سرعان ما تكشف بسبب السياسات الرادعة التي تنتهجها هذه النظم الديموقراطية، وتوزيع المهام والسلطات بين مؤسساتها من دون تداخل. وفي الحديث عن عملية الاختراق ومحاولة استمالة شخصيات متنفذة داخل أجهزة الدولة، لابد من الإشارة إلى الجهاز البيروقراطي الحكومي في النظم الديموقراطية، وإمكانية تسويقهُ عن طريق وسائل الصحف والإعلام والخطابات الثورية والشعبية, كرأي مطروح لبدايات نشوء هذه الظاهرة, يمكن أن يرد هذا الافتراض عن طريق القول إنَّ الجهاز البيروقراطي للدولة، هو تنظيم علني وليس سري يهدف إلى تنفيذ السياسات الحكومية، حتى إن تغيرت السلطة السياسية، فالأساس من التكوين هنا هو جهاز مهني وليس سياسيًا يخضع لمنافع ومكاسب سياسية واقتصادية.
ضبط المفهوم:
بناءً على ما تقدم, يمكن حصر مصطلح الدولة العميقة في مجموعة من الدلالات:
- يختلف المصطلح عن مصطلحات مقاربة كالدولة داخل دولة وجماعات المصالح وحكومات الظل، وجوهر الاختلاف يكمن في خواص هذهِ الظاهرة “المفهوم”, كطبيعة النظام السياسي، وحالة الاستقرار السياسي، وسرية التنظيم المكون لهذه الظاهرة أم علانيته.
- لا يشترط بالضرورة أن تكون هذه الظاهرة سلبية, بل يمكن أن تتخللها عدة جوانب إيجابية، كالحفاظ على سيادة الدولة ومصالح الطبقات الاجتماعية، وخلق حالة من الاستقرار السياسي، حتى إن كان النظام السياسي شموليًا أو تسلطيًا.
وأخيراً يمكن القول إنَّ مصطلح الدولة العميقة كظاهرة سياسية، يمكن أن يساق إلى جانبي الخير أو الشر، ولا يمكن إسقاط تجارب دولة معينة في خوض هذه الظاهرة على دولة أخرى, لاختلاف طبيعية النظام السياسي والمناخ السياسي الذي يختلف باختلاف الدول, لكن هناك مجموعة من الخواص المشتركة، والتي يمكن أن تكون كدلالة لهذه الظاهرة، وهذه الخواص يمكن أن توظف عن طريق التعريف الآتي: (مجموعة من الأفراد يجمعهم إطار سري منظم، في دولة تشهد حالة من الاستقرار السياسي، وغالبا ما تخضع لنظام حكم شمولي/ تسلطي, تعمل كشبكة منظمة وفق السياقات القانونية, وأحياناً تقفز على القانون من أجل الحفاظ على الوضع الراهن كما هو عليهِ، والتصدي لأي عملية تغيير, قد يكونوا من ضمن الجهاز البيروقراطي بشقيه الإداري والأمني، أو قد يكونوا خارج جهاز الدولة).