م.م عبد المحسن عبد الأمير العكله
جامعة كربلاء/ مركز الدراسات الاستراتيجية
شباط / 2024
هي حرب دارت بين الاسبان والانكليز في 8/8/1588، ففي أوائل ثلاثينيات القرن السادس عشر، وبناءً على تعليمات من الملك هنري الثامن Henry VIII (1491-1547)، انفصلت الكنيسة البروتستانتية في إنجلترا، عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. وبعد وفاة هنري، خلفته ابنته الكبرى ماري تيودور Mary Tudor (1516-1558)، وفي محاولة لاستعادة الكاثوليكية إلى البلاد، تزوجت من الملك فيليب الثاني Philip II (1527-1598)، ليكون أبًا وريثًا من شأنه أن يعيد إنجلترا في النهاية إلى الحظيرة الكاثوليكية. رغم ان البرلمان الإنجليزي لم يويد زواجهما، وعندما ماتت ماري بدون أطفال عام 1558.
كانت أختها البروتستانتية غير الشقيقة إليزابيث الأولى Elizabeth I(1533-1603)، ابنة آن بولين، هي من خلفتها في الحكم. كانت السفن الإنجليزية التي يقودها “قراصنة”، مثل: (دريك, فروبيشر, هوكينز) (Drake, Frobisher, Hawkins)، ينهبان بلا رحمة السفن والأراضي الإسبانية في العالم الجديد، إذ كان دريك ورفاقه أبطالًا، لكن بالنسبة للإسبان لم يكونوا أكثر من مجرد قراصنة.
يُعتقد أنَّ فيليب اتخذ قراره بغزو إنجلترا في وقت مبكر من عام 1584، وبدأ على الفور تقريبًا في بناء أسطول ضخم من السفن، التي يمكنها حمل جيش قادر على قهر عدوه البروتستانتي الانكليزي, وقد حصل على الدعم البابوي لمشروعه، حتى أنَّه حدد ابنته إيزابيلا لتكون ملكة إنجلترا التالية.
كان الإعداد المطلوب لمثل هذا المشروع ضخمًا، وكانت هناك حاجة إلى المدافع والبنادق والبارود والسيوف، ومجموعة كاملة من الإمدادات الأساسية الأخرى، ومع استمرار كل هذا النشاط، كان من الصعب جدًا على الإسبان إبقاء الأسطول سرًا، وربما كان في نيتهم استخدام بعض تكتيكات “الصدمة والرعب” المبكرة، لإثارة قلق عدوهم. قرر السير فرانسيس دريك، في ضربة استباقية جريئة، الإبحار بأسطول إنجليزي صغير إلى ميناء قادس، مما أدى إلى تدمير العديد من السفن الإسبانية التي بُنِيت هناك وإتلافها, قامت إليزابيث أيضًا بتعيين اللورد هوارد من إيفنغهام لقيادة الأسطول الإنجليزي، وهو قائد يعدّ قويًا بما يكفي لإبقاء دريك وهوكينز وفروبيشر تحت سيطرته، وبعد أن أبحر الأسطول الإسباني أخيرًا في يوليو 1588، وتجمع ما يقرب من (130) سفينة، وعلى متنها ما يقرب من (30) ألف رجل. ومن أجل الدعم المعنوي والروحي الواضح، تضمنت حمولتهم الثمينة أيضًا (180) كاهنًا، وأبحرت الأرمادا في تشكيلها الهلالي المعروف، مع وجود السفن الشراعية الأكبر والأبطأ في المنتصف، التي كانت محمية بسفن أصغر حجمًا، وأكثر قدرة على المناورة تحيط بها. وتحركت الأرمادا عبر (خليج بسكاي), على الرغم من أنَّ الأسطول قد انطلق بالفعل، إلا أنَّه لم يكن متجهًا في البداية إلى إنجلترا. كانت الخطة التي وضعها الملك فيليب، هي أن يلتقط الأسطول جنودًا إسبانًا إضافيين، من على سواحل هولندا قبل غزو الساحل الجنوبي لإنجلترا. بعد وفاة الأدميرال الإسباني الشهير سانتا كرو، الذي كان مرشحًا لقيادة الأسطول الاسباني، اتخذ فيليب بطريقة ما، قرارًا غريبًا بتعيين دوق مدينة سيدونيا Medina Sidonia لقيادة الأرمادا. كان قرارًا غريبًا، لأنَّه على الرغم من عدَّه جنرالًا جيدًا وكفؤًا للغاية، لم تكن لديه أي خبرة في البحر، ويبدو أنَّه سرعان ما أصيب بدوار البحر، بعد مغادرة الميناء في 19 يوليو، وشوهدت أشرعة السفن قريبا من السواحل الانكليزية بعد شهر من الابحار، ووصلت الأخبار إلى دريك، الذي كان منشغلًا بلعبة (الطاسات)، وهي أشبه بلعبة البولنك، ويقال إنَّه عندما تم إخبار دريك بوصول الاسبان، أجاب ببساطة أنَّ لديه متسعًا من الوقت لإنهاء لعبته, ربما كان ذلك شجاعة منه، أو لإزالة الخوف في هاجس القادة الانكليز.
أدخل دريك في النهاية سفنه إلى القناة الانكليزية، ولم يكن هناك الكثير مما يمكنه فعله، لإلحاق الكثير من الضرر بهياكل السفن الإسبانية الصلبة المبنية جيدًا. كما أثبت تشكيل الإبحار على شكل هلال الذي اعتمدوه، فعاليته الكبيرة في ضمان أن كل ما يمكن أن يحققه دريك بشكل رئيس، هو إهدار الكثير من الذخيرة في إطلاق النار على الأرمادا.
وبعد خمسة أيام من تبادل المدافع المستمر مع سفن دريك، أصبح الإسبان الآن يعانون من نقص شديد في الذخيرة، فضلا عن ذلك، كان لدى سيدونيا تعقيدات إضافية، تتمثل في أنَّه كان بحاجة أيضًا إلى جمع القوات الإضافية التي يحتاجها للغزو من سواحل هولندا، وفي 27 يوليو قرر الإسبان الرسو قبالة جرافلين، بالقرب من كاليه الحديثة، في انتظار وصول قواتهم في سواحل الأراضي المنخفضة (هولندا وبلجيكا).
سارع الإنجليز إلى استغلال هذا الوضع الضعيف. بعد منتصف الليل مباشرة، انجرفت ثماني سفن انكليزية، وهي سفن قديمة محملة بأي شيء يمكن أن يحترق، إلى الأرمادا المستقرة والمكتظة. مع السفن المصنوعة من الخشب بأشرعة قماشية ومحملة بالبارود، لم يكن بوسع الإسبان إلا أن يدركوا الدمار، الذي يمكن أن تسببه هذه السفن النارية. وسط الكثير من الارتباك، قطع الكثيرون كابلات التثبيت وأبحروا إلى البحر، ولكن عندما اقتحموا ظلام القناة، اختفى تشكيلهم الدفاعي على شكل هلال، وأصبح الأرمادا الآن عرضة للهجوم. لقد هاجم الإنجليز بالفعل، ولكن تم صدهم بشجاعة من قبل أربع سفن شراعية إسبانية، كانت تحاول حماية بقية الأسطول، وقد فاق عدد السفن الشراعية الانكليزية، الأربع سفن الاسبانية بعشرة أضعاف، مما أدى إلى هلاك ثلاثة من السفن الشراعية الاسبانية في النهاية، مع خسائر كبيرة في الأرواح. اتخذ الأسطول الإنجليزي موقعًا لمنع أي فرصة لدخول الأرمادا إلى القناة الإنجليزية. وهكذا، بعد إعادة تجميع الأسطول الإسباني، لم يكن بإمكانه التوجه إلا في اتجاه واحد، شمالًا إلى اسكتلندا. ومن هنا، ربما يمكنهم الإبحار عبر الساحل الغربي لإيرلندا، للوصول إلى موطنهم في إسبانيا، وفي محاولة للإبحار شمالًا وبعيدًا عن المشاكل، تسببت السفن الإنجليزية الأكثر مرونة في أضرار جسيمة للأرمادا المنسحبة، بعد حرب استمرت عشرة أيام، كان الانتصار حليفًا للإنكليز في هذه الحرب.
من أهم الأسباب التي أدت إلى خسارة الاسبان الحرب، هو عدم كفاية الإمدادات، إلى جانب بداية الطقس الانكليزي الخريفي القاسي. وبينما كانت الأسطول يدور حول شمال اسكتلندا في منتصف سبتمبر/أيلول، أبحر في واحدة من أسوأ العواصف التي ضربت هذا الساحل منذ سنوات. بدون كابلات التثبيت، لم تتمكن السفن الإسبانية من الاحتماء من العواصف، ونتيجة لذلك تحطم العديد منها على الصخور، وتسببت في خسائر فادحة في الأروح, اتجهت السفن التي نجت من العاصفة إلى إيرلندا الكاثوليكية والصديقة، من أجل إعادة الإمداد لرحلتها إلى الوطن في إسبانيا. لجأ البحارة الإسبان المنهكون إثر العواصف والخسارة إلى الشاطئ الايرلندي، حيث لجأوا إلى ما يسمى الآن خليج أرمادا، (جنوب غالواي) مباشرةً، بحثا عن الأكل والشرب، وأخذ وقت كافٍ للراحة, لكن لم يكن الايرلنديون كما توقع الاسبان منهم، فلم يبادروا إلى ضيافة الاسبان، ولم يجد الاسبان أي احترام من قبل الايرلنديين، خوفا من ملاحقة الانكليز لهم.
عندما عاد الأرمادا الممزق في النهاية إلى إسبانيا، كان قد فقد نصف سفنه وثلاثة أرباع رجاله، وقُتل أكثر من (20) ألف بحار وجندي إسباني. لم يخسر الإنجليز أي سفينة، ولم يخسروا سوى (100) رجل في المعركة, تم الترحيب بالانتصار على الأرمادا في جميع أنحاء إنجلترا، وعدَّ هذا الانتصار موافقة إلهية للقضية البروتستانتية، كما تم الترحيب بالعواصف التي اجتاحت الأرمادا، بعدَّها تدخلًا إلهيًا من الله. وأقيمت القداسات الكنسية في طول البلاد وعرضها لتقديم الشكر لهذا النصر الشهير، وتم ضرب ميدالية تذكارية كتب عليها “نفخ الله فتفرقوا”, وأصبحت انكلترا من هذا التاريخ البلاد البحري المسيطر على العالم، والامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بعد أن هزمت أكبر أسطول بحري في العالم، الذي كان يطلق عليه الأسطول الذي لا يقهر.