أ.م.د. حمد جاسم محمد
قسم إدارة الأزمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
شباط/ 2024
فرض الاحتلال البريطاني لمنطقة الشرق الاوسط العربية بعد الحرب العالمية الاولى، واقعًا جديدًا عن طريق تفتيتها إلى دول، اختلفت من حيث الحجم والتوجهات، وكانت فلسطين ضمن هذا التقسيم، وفرض الانتداب البريطاني عليها، إلا أنَّها وعلى خلاف كل دول المنطقة، فرض على أرض فلسطين واقعًا جديدًا آخر، وهو صدور وعد بلفور عام 1917، والذي منح أرض فلسطين لشتات اليهود في العالم، ومنذ ذلك التاريخ سهلت بريطانيا الهجرة اليهودية إلى فلسطين وبكل الطرق، وفي الوقت نفسه ضيقت على الوطنيين الفلسطينيين، وبدأت تطبق سياسة فرق تسد بينهم، بإثارة الخلافات بين العائلات الكبرى فيها، واتباع طرق أخرى وهي نشر الوعود الكاذبة، وإصدار الأفكار التي تعرف مسبقا بأنَّها مرفوضة من قبل الشعب الفلسطيني، ومنها إصدار مذكرة الكتاب الابيض عام 1936، والتي تعد أول وثيقة أكدت على تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب الفلسطينيين. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، استغلت الحركة الصهيونية أحداث الحرب، وما تعرض له اليهود خلال الحكم النازي في المانيا، وفتحت أبواب الهجرة لهم بأعداد كبيرة جدا، وتسليحهم من أجل تشكيل عصابات عسكرية، كان لها دور في إنشاء ما يسمى (بإسرائيل) عام 1948. خلال هذه المدة تمَّ إصدار قرار التقسيم رقم (181)، والذي يقضي بتقسيم فلسطين إلى منطقة دولة يهودية وعربية، ومنطقة تحت إدارة دولية وهي الأراضي المقدسة في القدس وبيت لحم، بعدها انسحبت بريطانيا من فلسطين، مما شجع العصابات الصهيونية على توسيع سيطرتها على المزيد من الأراضي، وسط تراجع عربي وعدم قدرتهم على المواجهة، ثم جاءت حرب 1967 والتي استولت فيها (اسرائيل) على كل فلسطين، فضلا عن الجولان السوري وسيناء المصرية، والتي استعادتها مصر في حرب 1973، وإبرام اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر (واسرائيل) عام 1979. هكذا توالت الأحداث على الفلسطينيين، وعلى الرغم من كل ما قاموا به من انتفاضات ومواجهات مع الكيان الصهيوني، إلا أنَّ وقوف الولايات المتحدة والغرب مع (اسرائيل)، ودعمها بالمال والسلاح والضغط على الدول العربية، مكنها من الاستمرار في التوسع في بناء المستوطنات، وارتكاب الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وآخرها حرب غزة 2023، والتي بدأت من خلال قيام حركة حماس بهجوم مباغت على (اسرائيل)، وقتل المئات وأسر أعداد أخرى. ولأكثر من أربعة أشهر، ما زالت الحرب مستمرة والتي ارتكبت فيها (اسرائيل) مجازر مروعة، لم يشهدها العالم من قبل بحق أهالي غزة، وصلت إلى عشرات الآلاف من الشهداء وضعفهم من الجرحى، وأكثر من مليون مهجر وتدمير مئات الآلاف من المنازل، وقصف المدارس والمستشفيات وتدميرها، وكل هذا تحت أنظار الأمم المتحدة ودول العالم، ولاسيّما الدول العربية، والتي أصبح بعضها بيدقًا بيد الولايات المتحدة الأمريكية، تحركها كيفما تشاء.
بعد كل هذه المدة من الحرب والمجازر بحق أهالي غزة، بدأت الأصوات تتعالى الآن من أجل إقامة دولة فلسطينية، على حدود عام 1976 في الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس الشرقية، وهي تشكل (22%) من مساحة فلسطين، والاعتراف بسيطرة إسرائيل على (78%) من مساحة فلسطين، والحل هذا هو حسب قرار الامم المتحدة (242)، والذي نصَّ على انسحاب (اسرائيل) من أراضٍ محتلة عام 1967، وليس الأراضي المحتلة، لأنَّ حذف (ال) التعريف يبقي التكهنات مفتوحة، حول مساحة الأرض التي سوف تمنح للفلسطينيين. وبالرغم من كل الدعوات الدولية الآن، بضرورة إقامة دولة فلسطينية، وطرح المبادرات، وظهور هذه التصريحات حتى من دول غربية عديدة، ومن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وقيام دول عربية بطرح هذه الفكرة (مثل السعودية)، وأنَّها مستعدة للتطبيع مع (اسرائيل) في حالة قيام دول فلسطينية، إلا أنَّ ما يطرحه الغرب ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، من دعوات لإقامة هذه الدولة، لا تتعدى من كونها عملية إلهاء وتشتيت الأفكار، ووقف أي دعم عربي حتى إن كان ضعيفًا لأهالي غزة، وإيهام العالم بأنَّ الإدارة الأمريكية مع حل الدولتين، إذ إنَّ مشروع حلّ الدولتين مشروع معقد ويصطدم بعدة عقبات، منها:
- (اسرائيل) ومسارات التسوية، بالرغم من كل مسارات التسوية بين القيادة الفلسطينية و(اسرائيل)، والتنازلات التي قدمتها القيادة الفلسطينية، إلا أنَّ الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة وبكل مسمياتها، رفضت فكرة إنشاء دولة فلسطينية، وتعارضها بشكل علني، حتى أنَّ ما تضمنه اتفاق اوسلو لعام 1993، من ترتيبات لإقامة حكم ذاتي انتقالي، يمهد إلى إقامة دولة فلسطينية على مراحل، إلا أنَّ (اسرائيل) عمليا نقضت كل ذلك، وما زالت السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال وإدارته، وهي بمنزلة قوة حماية لـ(إسرائيل)، أكثر من كونها تمثل الشعب الفلسطيني، وأصبحت إسرائيل المتحكم في كل قرارات السلطة الفلسطينية، والانتخابات، ومداهمة أراضي الضفة الغربية، كذلك الخنق الاقتصادي للسلطة الفلسطينية، عن طريق فرض العقوبات، كوسائل ضغط، وابتزاز، وتركيع سياسي واقتصادي وأمني، وتعطيل الانتخابات التشريعية، واعتقال مؤيدي تيار المقاومة، مثل وزراء حماس ونوابها في المجلس التشريعي، يضاف إليه أنّ الفكر الديني اليهودي الذي يحكم الكيان حاليا، يريد تطبيق مقولة (من النيل للفرات أرض إسرائيل)، وهنا لا يريد أي تنازل أو تسوية تقود إلى قيام دولة فلسطينية مهما كان شكلها، مما يؤدي إلى تعطيل آليات عمل السلطة الفلسطينية، وبث الخلافات بينها حول سياسة التعامل مع (إسرائيل).
- الموقف الفلسطيني، إنَّ الانقسام الفلسطيني، واختلاف المرجعية الفكرية والأيديولوجية للفصائل الفلسطينية، ووجود خلافات بينها، إذ لا توجد مرجعية فكرية واحدة تحدد شكل الدولة الفلسطينية وحدودها، بل إنَّ ذلك خاضع لأفكار وتوجهات كل فصيل ومرجعيته، فالتيارات الإسلامية ترفض الاعتراف بـ(إسرائيل) أو التنازل عن أي شبر من أرض فلسطين التاريخية، في حين تعترف تيارات أخرى، مثل: منظمة التحرير الفلسطينية، وتيارات علمانية أخرى بالأمر الواقع، وبالمصلحة والقرارات الدولية، والعمل لإقامة دولة فلسطينية معترف بها دوليًا، كذلك وجود خلافات حتى على تشكيل الحكومة الفلسطينية ودورها وصلاحياتها وشكلها، هذا الخلاف والتناحر سيكون عائقًا أمام قيام أي دولة فلسطينية غير متفق عليها.
- التطبيع العربي، إنَّ الدور العربي ولاسيما دول جوار فلسطين، في تعميق هوة الخلاف بين الفصائل، في تعميق أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، عن طريق دعم جهات سياسية فلسطينية على حساب أخرى، مما عمق الأزمة، وحدَّ من قدرة الشعب الفلسطيني على تنظيم نفسه بحرية في تلك الدول، مما أصبح عائقًا أمام حلم الدولة. وخلال حرب غزة نرى أنَّ بعض الدول ولاسيما المطبعة، مثل: مصر والاردن وبعض دول الخليج العربية، وقفت (إن لم نقل ضد) موقف المتفرج دون أن تحرك ساكنًا، أو تقف إلى جانب الشعب الفلسطيني في غزة، وبعضها دخل من باب طرح المبادرات لإنهاء الصراع، وادخال المساعدات مثل دور قطر، هذا الموقف وضع حركة المقاومة في مأزق ضعف الدعم العربي، وتشجيع العدوان الصهيوني على غزة، ومنع أي أفكار أو مبادرات لإقامة الدولة الفلسطينية.
- البيئة الدولية، الموقف الغربي بشكل عام ولاسيما الأميركي، يمارس تأثيرًا كبيرًا في المسار الفلسطيني، فالدعم الغربي المطلق لإسرائيل، وتوفير الغطاء الدائم لاحتلالها وانتهاكاتها وممارساتها ضدّ الشعب الفلسطيني، وفرض الشروط غير المقبولة على قوى المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل، ووقف المقاومة المسلحة، والاعتراف بالاتفاقيات التي وقعتها المنظمة، بما فيها اتفاقيات أوسلو، بدون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة، شكَّل ذلك تدخلًا في تحديد مسارات وخيارات الشعب الفلسطيني ومواقفه، كما سعت أميركا وحلفاؤها إلى إسقاط المقاومة الاسلامية وعزلها، وعدَّها حركات ارهابية وعدم الاعتراف بها، فضلا عن معاقبة الشعب الفلسطيني، وفرض عقوبات عليه، إذا اختار حكومة معارضة لأفكار الدول الغربية وأمريكا أو معادية (لإسرائيل)، إذ أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا، داعمًا أساسيًا (لإسرائيل) بالسلاح والمال، وتهديد أي دولة تقدم الدعم لحماس في حرب غزة، بل وقفت ضد أي هدنة أو وقف الحرب على غزة، على الرغم من كل المجازر التي ترتكب ضد أهالي غزة، هذا السلوك الأميركي المتحيّز أصبح السبب في إفشال مسار التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، وأصبح عائقًا أمام طرحها في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة.
- الأمم المتحدة، بالرغم من كل القرارات الخاصة بالقضية الفلسطينية، ابتداءً من قرار التقسيم (181) لعام 1947، مرورًا بالقرارات الأخرى والخاصة منها بتقديم المساعدات وشؤون اللاجئين، وتنظيم عمل الاونروا، واحترام حقوق الفلسطينيين، والسلام في الشرق الاوسط، والدعوة لانسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم قرار جعل فلسطين دولة مراقبة غير عضو، مئات القرارات صدرت من الأمم المتحدة لم تنفذها الأمم المتحدة، ولم تلتزم بها (اسرائيل)، ولم يتم حتى اجبارها على التقيد بالقرارات الخاصة بالقضايا الانسانية، وحقوق الانسان الفلسطيني، ناهيك عن القرارات الأممية الخاصة بالحقوق السياسية، وهذا كله نابع من ضعف الأمم المتحدة، وسيطرة الولايات المتحدة واللوبيات الصهيونية على الدول فيها من جهة، وضعف وعدم وجود مناصرين من العرب والمسلمين للقضية الفلسطينية، وهو ما جعل الكيان الصهيوني يمعن في رفض القرارات الدولية وعدم تطبيقها.
أخيرًا، إنَّ ما ارتكب في حرب غزة، وما زال مستمرًا من جرائم وتدمير وتهجير، هو دليل واضح على عمق الأزمة، ودليل آخر على الدعم الدولي ولا سيما من جانب الغرب وامريكا (لإسرائيل)، وإنَّ عدم التزام (اسرائيل) بالقرارات الدولية، جعل منها تعارض أي فكرة لإقامة دولة فلسطينية علنًا، بل وصل الأمر إلى أنَّ المتطرفين الصهاينة، يطرحون فكرة تهجير الشعب الفلسطيني إلى دول الجوار، والدعوة إلى يهودية (اسرائيل)، وإنَّ حرب غزة الحالية، والجرائم المرتكبة من جانب (اسرائيل)، والصمت الدولي والعربي، جعل من الدعوة إلى اقامة دولة فلسطينية صعبة التطبيق.