د. زيد هلال هنون
جامعة كربلاء/ رئيس قسم الدراسات القانونية
لا نحتاج الخوض في دستورية مشروع التعديل المطروح، على بساط مجلس النواب العراقي، فله سنده الواضح في ثنايا نصوص دستور العراق لسنة ٢٠٠٥، التي أشارت صراحة في موارد كثيرة، إلى أنَّ: “الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع” و “لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام”، لاسيَّما في مسائل الأحوال الشخصية والأسرة، ثم إنَّ مشروع التعديل يتضمن خيار تطبيق مدونة الأحكام الشرعية للمسلمين، تحقيقًا لمبادئ الديمقراطية والحرية، لكون الدستور أكَّد أيضا على أن: “لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية” و “لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور” و” يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما يضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة، والممارسة الدينية، كالمسيحيين والايزديين والصابئة المندائيين”
فاعتراف الدستور بأنَّ الإسلام دين الدولة الرسمي، هذا يعني عدم السماح بتطبيق قوانين مخالفة للشريعة الإسلامية، على الاقل في مسائل الأحوال الشخصية. كما أنَّ الحريات مكفولة استنادًا إلى الشريعة الإسلامية السمحاء من جهة، والدستور من جهة أخرى، إذ نصَّت الفقرة ذاتها على عدم نص قانون يتعارض مع حقوق الأفراد وحرياتهم، وهذا ما يتجسد بوضوح في مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية، بأنَّه: “للعراقي والعراقية عند إبرام عقد الزواج اختيار المذهب السني أو الشيعي…“، مما يعني عدم إجبار شخص على اتباع أحكام مذهب معين، فله الحرية في الاختيار، أو البقاء على قانون الأحوال الشخصية رقم ١٨٨ لسنة ١٩٥٩، وهذا ليس إلا تطبيقًا للمادة الثانية من الدستور، في الحفاظ على الحريات، والمادة (٤١) من الدستور الخاصة بضمان حقوق الأفراد، في الالتزام بأحوالهم الشخصية وحسب مذاهبهم.
أمّا بالنسبة للضجة الإعلامية حول زواج القاصرات، وذلك استنادًا إلى المادة الخامسة منها، والتي جاء فيها: “تصادق محكمة الأحوال الشخصية عقود الزواج، التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين، على يد من لديه تخويل شرعي، أو قانوني من القضاء، أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني، بإبرام عقود الزواج بعد التأكد من توافر أركان العقد، وشروطه، وانتفاء الموانع في الزوجين”. وهذا نص يتعلق بالتوثيق لا بابتداع أحكام مخالفه للقانون، أو الفطرة البشرية، الغاية منها الحفاظ على حقوق المرأة، إذ يشهد الواقع حالات كثيرة من الزواج خارج المحكمة، والتي مرَّ عليها سنين، دون أي اثبات للحقوق الشرعية للمرأة، بحجة أنَّ ما يفعله لا يخالف الشرع فلا أهمية للقانون، مما أدى إلى حرمان الكثير من الدخول للمدرسة، بسبب عدم امتلاكهم لأبسط حقوقهم، وهي الهوية المدنية، نتيجة عدم مصادقة عقد زواج الأب والأم. وفق مدونة التعديل سيكون القانون حامياً لحقوق جميع أفراد الأسرة، سواء المرأة، أو الرجل، بل حتى الأبناء، للمصادقة على عقد الزواج من قبل المحكمة. كما أنَّ من يعترض على زواج البالغة المأذون لها، نقول: إنَّ البلوغ الشرعي للمرأة، لا يعني أنَّها مؤهلة للزواج، ما لم يتوفر شرطان، هما: الاستعداد النفسي والجسدي للمرأة، بعد موافقتها وموافقة وليّها، وكذلك الشاب الذي يريد أن يقبل على الزواج. أتساءل، هل تستطيع منع البالغ من النضوج الطبيعي له، وما يحتاجه؟ الفكر الآخر عجيب أمره، يحلل الزنا والشذوذ، ليلبي للشباب متطلباتهم الغريزية، ويحرم الزواج المبكر!!
لماذا لا نعي هذه الأمور؟! ألم ينتشر الشذوذ، وبات في بعض البلدان أمرًا عاديًا، بعد أن كان كارثة تدينه كل الدول والشعوب، بل أصبحت له قوانين تنظم العلاقات الشاذة، وحقوقها، تحت مسمى الحرية والديمقراطية. إلى أين نحن إلى أين؟ مستعمرون فكريا لا جدال. كما أنَّ المدونة لم تتضمن الاجبار على زواج القاصرات، بل حفظ لحقوقها بالمصادقة على الزواج، الذي يجري خارج المحكمة دون علم القضاء، الذي نتج عنه الكثير من التنافر بين الزوجين، وعدم الاعتراف بالأولاد بشكل رسمي كما بيّنا. ليس أعظم من الإسلام في ضمان حقوق المرأة، والرجل، وحرياتهما، لأنَّه دين يراعي حقوق الجميع، حتى الأقليات، فلا يظلم شخص اعتنق أحكامه، وإن كان غير مسلم، لكن العجب من المسلمين أنفسهم، ممّن صدقوا الاشاعات التي يطرحها الطرف الآخر ضد الإسلام، محاولة منه لتطبيق الأحكام العلمانية في دولة إسلامية، لاسيَّما أنَّ ازدواج الشخصية العراقية، ليس أساسها سيطرة فكر البداوة على هذه الشخصية، على الرغم من مظاهر الحداثة المعاشة، كما يرى د. علي الوردي، بل نتفق مع ما طرحه د. هادي الكعبي بأنَّ الازدواجية: “مردها شيء آخر بعيد عن قيم البداوة، ويختلف عنه تماماً، يتعلق بأنَّ ما نؤمن به من قيم وثوابت، غير مطبق علينا كنظام قانوني ملزم، بل ما مطبق علينا هو نظام يستمد أصوله العامة، من قواعد أخرى لا نؤمن بها كعراقيين، ولذلك أصبحت الازدواجية بالتفكير والتصرف، لأنَّ ما تؤمن به شيء، وما يطبق عليك شيء ٌ آخر، في تعاملاتك المالية، وفي أحوالك الشخصية، وجميع أمورك الأخرى. وأخشى أن يرد عليّ أحد المتفيهقين، فيقول: إنَّ العالم قد تغير وأصبح قرية واحدة، ولا بدَّ أن نسير مع تطور الحياة والأمم. فأرد عليه ببساطة: إنَّ الأمم التي تتحدث عنها، ما زال نظامها القانوني مستمدًا من أصول، تصل إلى أربعة آلاف سنة، فالنظام القانوني اللاتيني المتبع في فرنسا، وجل الدول العربية، أساسه القانون الروماني القديم، والنظام القانوني الانگلوسكسوني المتبع في بريطانيا، وأمريكا، وأستراليا، ونيوزلندا، والكثير من الدول الأخرى، هو مستمد من القانون البريطاني القديم، التي تعود أصوله إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة. والنظام القانوني الجرماني المتبع في ألمانيا، والدول الإسكندنافية، قواعده تعود إلى حقب موغلة في القدم. وجميع هذه الأنظمة تفتخر بنظمها القانونية، وتحافظ عليها من المسخ، والتشويه، والتحريف. إلا نحن المسلمون، فنحن تصيبنا الحساسية الفكرية المفرطة، عندما نذكر الفقه الإسلامي، وهو فكر حديث نسبياً، وعمره الزمني أقرب، بالنسبة إلى الفكر اللاتيني، والانگلوسكسوني، والجرماني، وهو فكر تقدم على مجمل الفكر القانوني العالمي في حينه، بمسائل كثيرة أذكر منها على عجالة:
١ – في ترجيح جهة المبادلة على جهة الإفراز، بخصوص الملكيات الشائعة عند وقوع القسمة، وهذا الأمر لم يكن معروفاً في القانون الروماني، وهو أرقى قانون وضعي، توصل إليه الفكر الانساني على مر التاريخ.
٢- الاعتراف الكامل بالذمة المالية المستقلة للمرأة، كأم، وزوجة، وأخت، وبنت، في حين كانت المرأة في كل العالم، تعامل معاملة الرقيق.
٣- اشتراط الفقهاء المسلمين شرط المصلحة، في طلب اللجوء إلى القضاء دون الشروط الأخرى، وهي الاهلية والصفة، والتي تراجع عنها الفقه العالمي أخيرًا، وأخذ برأي الفقه الإسلامي قبل ألف وأربعمائة سنة، بعَدّ المصلحة هي الشرط الوحيد لإقامة الدعوى أمام القضاء.
٤- أول من فرَّق بين الشهود في حال الاستماع إليهم، في حال الاثبات أو النفي هو الفقه الاسلامي، وكان الرائد في ذلك هو أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) … وغيرها كثير.
ومع انتقاداتنا الفنية لصيغة مشروع التعديل، من حيث وجوب المواءمة بين تعديل المادة الثانية من القانون، والمادة الأولى، فيما يتعلق بمبادئ الشريعة الإسلامية، وضرورة أن تكون مشيرة إلى الفقه الإسلامي، بشقيه الجعفري الاثني عشري، والحنفي، كونهما مذاهب غالبية الشعب العراقي. وإنَّ الفقرة الثالثة المراد اضافتها للمادة (2) من قانون الأحوال، ينبغي أن تضاف إلى الفقرة الأولى من المادة المذكورة، فتستثنى الطوائف الإسلامية شأنها شأن الطوائف المسيحية، والموسوية، وليس في ذلك تفرقة لأبناء الشعب العراقي. لذلك، ولحماية حقوق أفراد الأسرة، نطالب بإقرار قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، تحقيقًا للمبادئ الدستورية والقانونية المتقدم ذكرها.