م.د. حيدر فوزي الغزي
باحث في قسم ادارة الازمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
كانون الأول-ديسمبر 2018
اقدمت الولايات المتحدة الامريكية في يوم الاربعاء 19-12-2018 على اعلان انسحاب قواتها التي تنتظم في 15 قاعدة عسكرية في الضفة الشرقية لنهر الفرات، ويكون الانسحاب بشكل جزئي من المناطق الحدودية في سوريا (2000 جندي) على ان يكون الانسحاب الكامل في وقت لاحق والذي يستغرق (60-100) يوم، حيث تواجدت هذه القوات منذ صيف عام (2014) في تحالف دولي يضم اكثر من (60) دولة لقتال عصابات الجريمة والتطرف (داعش) في منطقة الشمال السوري اضافة الى تواجدها في مثلث التنف الواقع شرق سوريا قرب الحدود مع العراق والاردن، كل ذلك كان دون موافقة الحكومة السورية والتي اتهمت بدورها- اي الحكومة السورية هذه القوات بارتكاب جرائم منظمة ضد الشعب السوري وانتهاك سيادة البلاد، وقد علّلت الولايات المتحدة انسحابها بأنه قد تزامن مع اندحار ما يسمى بدولة الخلافة الاسلامية وتنظيم داعش الارهابي وأن الحملة الامريكية هناك قد انتقلت الى مرحلة جديدة حسب البيان الذي اصدرته المتحدثة بأسم البيت الابيض (سارة ساندرز) لان النصر على داعش قد تحقق وان الارهاب كان هو السبب الرئيس لبقاء القوات الامريكية في سوريا، واشارت المتحدثة بان تنظيم مايسمى بالدولة الاسلامية كان قوة كبيرة جدا وخطيرة في الشرق الاوسط لكنه اندحر على يد القوات الامريكية، ولكن التصريح الاكثر غرابة عندما تقول المتحدثة “بأن الولايات المتحدة ستواصل العمل على حرمان الارهابيين الاسلاميين من الاراضي والتمويل والدعم والوسائل التي يستخدمها الارهابيين لعبور الحدود الامريكية”، فأي حدود امريكية يمكن للارهابيين عبورها من سوريا، وهل هناك تنظيم ارهابي في دول جوار امريكا ؟
وقد رافق اعلان انسحاب القوات سحب جميع موظفي وزارة الخارجية الامريكية الموجودين في سوريا والمنتشرين في الاراضي التي تسيطر عليها قواتها بالرغم من عدم وجود اي جهد دبلوماسي بين الطرفين الامريكي والسوري، ولكن الولايات المتحدة تبرر وجودهم منذ عام 2017 وعلى لسان وزير الدفاع الامريكي (جيمس ماتيس) بانهم يعملون على اعادة الخدمات واحضار المتعاقدين وادارة الاموال التي خصصت لمحاربة داعش وتدريب القوات المحلية على ازالة العبوات الناسفة لضمان عدم عودة التنظيم الارهابي الى الاراضي المحررة، وقد اعلن (ماتيس) في 2-10-2018 عن مضاعفة عدد الدبلوماسيين الامريكيين في سوريا تناسبا عكسيا مع تقلص العمليات العسكرية الامريكية فيها، وقد اكد منسق البعثة الدبلوماسية الأمريكية لدى الأمم المتحدة (رودني هانتر) التزام الولايات المتحدة بالقضاء على تنظيم داعش في سوريا على الرغم من انسحاب القوات.
وتوجهت الآليات العسكرية الامريكية والصهاريج وكاسحات الالغام عبر منذ سيمالكا الحدودي الى قاعدتها العسكرية في اربيل/ العراق تاركة المناطق الكردية السورية تواجه مصيرها تحت المطرقة العسكرية التركية بعد ان اظهرت قوات سوريا الديمقراطية مخاوفها الحقيقية من التدخل التركي واعادة النشاط الى خلايا داعش النائمة المدعومة من دول معروفة ومنها تركيا، علماً ان القوات الامريكية لم تنسحب بعيداً بل انها تفكر في اقامة غرفة عمليات مشتركة مع البيشمركة في العراق وبيشمركة (روج أفا) على الحدود السورية العراقية والتي يتم ادارتها من اربيل.
وعلى اثر الانسحاب استقال وزير الدفاع الامريكي (جيمس ماتيس) في يوم الخميس 20-12-2018 وتبعه في ذلك في يوم الجمعة 21-12-2018 استقالة (بيرت ماكغورك) ممثل الولايات المتحدة لدى التحالف الدولي ضد داعش، والذي تم تعيينه عام (2015) من قبل الرئيس الامريكي السابق باراك اوباما، وقد وصف ترامب استقالة (ماكغورك) بانها ضرب من التصنّع وانه قد كان من المقرر ان يترك المنصب في فبراير/ 2019 ، في حين ان اكثر المصادر تعلل استقالة الاثنين (ماتيس وماكغورك) بسبب الانسحاب الامريكي المفاجئ من سوريا، وقد وصفت وزيرة الدفاع الفرنسية (فلورانس بارلي) وزير الدفاع الامريكي بالجندي العظيم والشريك في جميع المناسبات، وان قرار الرئيس الامريكي حول الانسحاب من سوريا هو قرار خطير وان الحرب على داعش لم تنته بعد.
وتشير المصادر العسكرية التركية الى ان هناك اتفاق امريكي-تركي على قيام الاخيرة بملء الفراغ بدل القوات الامريكية وقيام الجيش التركي بعمليات عسكرية شرق الفرات، وهنا انكشف اللثام عن الولايات المتحدة بأن خوّلت تركيا على القيام بدور بديل عنها في دعم مليشيات الجيش السوري الحر ضد وحدات حماية الشعب السوري في منطقة كردستان سوريا (قوات سوريا الديمقراطية) (YPG)التي يمثلها حزب (الاتحاد الديمقراطي الكردستاني) كواجهة سياسية، وتعتبر الفصائل الكردية هي الهدف الاول من هذه العملية من قبل تركيا، لان تركيا تعتبرها امتداد لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تعتبره تركيا منظمة ارهابية حيث تخوض مجاميعه صراعاً مسلحاً ضد الحكومة التركية منذ عام (1984) لاجل نيل الحكم الذاتي، وهذه محاولة تركية اخرى للاستحواذ على الاراضي التي خسرتها بالقوة بعد الحرب العالمية الاولى وتنازلها عن المناطق الكردية في العراق وسوريا في اتفاقية لوزان عام 1923 وهذا ما سبب قلقا كبيرا لاكراد سوريا الذين كانوا يأملون استقلالهم ولو بشكل جزئي في حكم ذاتي بعد مساعدتهم للقوات الامريكية، ولكن الحليف التركي كان اقرب الى الامريكيين حيث سيبادر بقصف المناطق الكردية التي يتواجد فيها حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تسبب بأرق للحكومة التركية خصوصا في مناطق عفرين ومنبج، وفور بدء الانسحاب هاجم مسلحوا داعش مساء الخميس 20-12-2018 وحتى ساعات الصباح الاولى من يوم الجمعة 21-12-2018 مواقع لقوات سوريا الديمقراطية في بلدة هجين شرقي دير الزور من عدة محاور لأن مسلحوا داعش اصلا يسيطروا على 65% من مساحة بلدة هجين، استخدمت عصابات داعش خلاله السيارات المفخخة والصواريخ الحرارية والانتحاريين، وأكد مجلس سوريا الديمقراطية بتصريح من العاصمة الفرنسية باريس بأن قواته قد تنسحب من دير الزور اذا تدخلت القوات التركية في شمال سوريا عسكرياً لان ذلك سيعطي قوة لفصائل داعش المتتشدة ضدهم، وهذا دليل آخر على دعم تركيا لعصابات داعش في هذه المعركة، فكيف تكون معادلة الولايات المتحدة بحربها ضد داعش من جهة ومن ثم ترك الباب مفتوحاً لتركيا بالتدخل العسكري في شمال سوريا التي ترعى هذه العصابات اصلاً، حيث صرّحت القيادية في مجلس سوريا الديمقراطية (الهام احمد) ان تركيا تنظر الى كل كردي على انه ارهابي ولا تنظر لعناصر داعش بهذا المفهوم، كما اكدت بان المسلحين الاكراد لن يتمكنوا من الاستمرار باحتجاز اسرى داعش اذا خرج الوضع عن سيطرتهم.
وطالب مجلس سوريا الديمقراطية فرنسا بلعب دور اكبر في فرض حظر جوي وملء الفراغ بعد انسحاب واشنطن من شمال سوريا لكبح جماح تركيا التي تستعد لشن عملية عسكرية في المنطقة دعماً لعصابات داعش ولمصالحها القومية، لان التدخل التركي سيؤدي الى سفك المزيد من الدماء، ولا ننسى دور الحكومة السورية الرسمي بعد الانسحاب الامريكي، فمن المتوقع ان يدخل الجيش السوري في نزاع على المنطقة خصوصاً مع وجود الدعم الروسي والايراني لفرض نفوذه بقوة القانون على اعتبار ان الحكومة السورية هي الجهة الشرعية التي تملك حق فرض الارادة على اراضيها.
وحسب تحليلنا فانه بغياب الولايات المتحدة الامريكية عن شمال سوريا فانه ستبقى الساحة مفتوحة للوجود الروسي والايراني ولن يكون لتركيا الدور الكبير للتأثير بخارطة المنطقة، وان هذا الانسحاب يعد نصراً لروسيا اذا صدقت امريكا في انسحابها، لانها اليوم اخذت دور المراقب عن بعد من خلال لعبتها في سحب قواتها الى داخل الاراضي العراقية في اربيل وتشكيل مجاميع كردية عراقية-سورية للتحكم بها عن بعد.
وامام كل ماطرحناه يبقى باب الدبلوماسية مفتوحاً، حيث سيعقد الدبلوماسيون والعسكريون الاتراك والامريكيون اجتماعاً في الولايات المتحدة الامريكية في يوم (8-1-2019) تتم فيه مناقشة وضع الحدود التركية السورية التي تمتد (822) كم ما بعد انسحاب القوات الامريكية، وحصول تركيا على شريط امن بعرض 20-30 كم شمالي سوريا، بمحاذاة الحدود من جرابلس الى الزاوية السورية التركية العراقية مع تفكيك نقاط المراقبة في (كوباني) عين العرب ورأس العين وابعاد وحدات حماية الشعب الكردية عن الحدود، مع انتشار البيشمركة العراقية والتي ترافقها قوات كردية سورية تدربت في شمال العراق.