الاستقرار الأمني في العراق مقاربة في مفهوم “المعضلة الأمنية”

      التعليقات على الاستقرار الأمني في العراق مقاربة في مفهوم “المعضلة الأمنية” مغلقة

 

 

الباحث: م. حسين باسم

قسم الدراسات السياسية / مركز الدراسات الاستراتيجيةجامعة كربلاء

نيسان-ابريل 2019

يُعد مفهوم “المعضلة الأمنية” مفهوما شهيرا لدى طلاب العلاقات الدولية ولاسيما المتخصصون في الشؤون الأمنية والاستراتيجية. ويقدم المفهوم تفسيرا مهما لإسباب ودوافع نشوب الصراعات المسلحة فيما بين الدول وكذلك داخلها. فما هو ذلك المفهوم؟

مفهوم المعضلة الأمنية

المعضلة الأمنية هي الحالة التي تتسبب فيها الإجراءات التي تتخذها الدولة لزيادة أمنها في ردود أفعال من دول أخرى تؤدي إلى انخفاض في أمن الدولة بدلاً من زيادته. ويجد بعض خبراء العلاقات الدولية أن المعضلة الأمنية هي أهم مصدر للصراع في العلاقات الدولية. حيث يجادلون بأنه لا يوجد في العالم الدولي احتكار مشروع للعنف -أي لا توجد حكومة عالمية مسؤولة عن فرض الأمن والنظام وإحلال السلام لكافة شعوب العالم-ونتيجة لذلك، يجب على كل دولة أن تعتمد على نفسها من أجل تحقيق أمنها وبقائها. لهذا السبب، فان الهدف الأساس للدول هو تعظيم أمنها. وحتى لو كانت الدول تركز فقط على هذا الهدف –أي الدفاع عن النفس فحسب-وليس لديها أي نيّة لإلحاق الأذى بالآخرين، فإن العديد من الإجراءات التي تتخذها الدول لزيادة أمنها -على سبيل المثال إمتلاك الأسلحة وتطوير التقنيات العسكرية الجديدة-سوف يهدد أمن الدول الأخرى. إن تهديد أمن الآخرين لا يضع الدولة تلقائيًا في معضلة، الا ان البُنية الدولية الفوضوية –أي غياب الحكومة العالمية -تجعل امتلاك إحدى الدول للسلاح، تحفيز للدول الأخرى لامتلاك السلاح ايضا. وذلك لأنه لا يمكن لباقي الدول معرفة ما إذا كانت الدولة المسلحة ستستخدم قدراتها العسكرية المتزايدة للهجوم في المستقبل أم لا؟

لهذا السبب ستختار باقي الدول إما زيادة قدراتهم العسكرية من أجل إعادة توازن القوى، أو شن هجوم وقائي لمنع الدولة المسلحة من زعزعة التوازن الموجود في المقام الأول. إذا اختاروا الخيار الأول، فقد تكون النتيجة دوامة الأمن. دوامة الأمن هي عملية الفعل ورد الفعل، حيث يتم ربط دولتين –أو أكثر-في سباق التسلح وخلاله تستجيب كل دولة للزيادة في شراء الأسلحة ونفقات الدفاع التي تُجريها الدولة الأخرى مما يؤدي بهما إلى تسلّح أكثر فأكثر بشكل كبير. وهذا قد يؤدي إلى الحرب على المدى الطويل. أما إذا اختاروا الخيار الثاني، فسيكون الصراع العسكري وشيكاً.[1]

تم وصف منطق المعضلة الأمنية لأول مرة من قبل “هربرت بترفيلد” في عام 1949. وقد صاغ المصطلح “جون هيرتز” عام 1950 في كتابه “الواقعية السياسية والمثالية السياسية”.[2] على الرغم من أن منطق “المعضلة الأمنية” يبدو متوافقًا بشكل خاص مع التنافس الأمني بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (السابق) خلال الحرب الباردة، إلا أن مؤيدي هذا المصطلح/المفهوم لا يرون أنه مرتبط بعصر تاريخي محدد. إذ إنه يعكس بشكل أساس الطبيعة المأساوية للحياة في النظام الدولي. اذ ينتهي المطاف للجهات الفاعلة من أجل السلام والاستقرار، الى الصراع العسكري. وبالتالي، حتى لو كانت جميع الدول هي قوى الوضع الراهن التي ترغب فقط في السلام والأمن، فقد تحدث الحرب بسبب الخوف وانعدام الأمن الناتج عن البنية الفوضوية للنظام الدولي.

هذا التركيز على تأثير الفوضى الدولية على سلوك الدول نموذجي لما يسمى بـ “الواقعية البنيوية” الذي يفترض أن النظام الدولي هو نظام للمساعدة الذاتية أو الإعتمادية الذاتية، حيث يجب على الدول الإعتماد على نفسها في التركيز على مصالحها الخاصة من أجل تعظيم فرصهم في الأمن والبقاء. على وجه الخصوص، فإن منطق المعضلة الأمنية أساسي لما يسمى بـ تيار الواقعية البنيوية الدفاعية“. إذ يزعم أنصار الواقعية الدفاعية أن الدول تسعى إلى تعظيم فرصها في الأمن والبقاء من خلال الحفاظ على موقعها في النظام الدولي، وليس عن طريق التوسع.[3]

ومن جهة أخرى يصف البروفيسور “جون ميرشماير” جوهر “المعضلة الأمنية” على أنه: معظم الخطوات التي تتخذها أي دولة لتعزيز أمنها الخاص ستضعف بالضرورة من أمن الدول الأخرى. على سبيل المثال، أي دولة تعمل على تحسين موقعها في ميزان القوى الاقليمي أو العالمي سيتم ذلك على حساب الدول الأخرى، والتي ستفقد نسبيا من قوتها. وفي هذه اللعبة التي محصلتها صفر، من الصعوبة بمكان أن تقوم الدولة بتحسين فرصها في البقاء دون تهديد بقاء الدول الأخرى. وبطبيعة الحال، فإن الدول المُهدَدَة التي فقدت نسبياً من قوتها تفعل كل ما هو ضروري لضمان بقائها، والذي بدوره يهدد الدول الأخرى مجددا، وكل ذلك يؤدي إلى تنافس أمني دائم ومستمر، وهو ما يعرف بالمعضلة الامنية.[4]

وقد قيل في تفسير المعضلة الأمنية: إن انعدام الأمن يؤدي إلى تسلّح الدول… غير إن إمتلاك الأسلحة يؤدي إلى المزيد من انعدام الأمن!!.

طبيعة الصراعات في العالم المُعولم.

جادل صامويل هنتنغتون بشكل شهير في عام 1996 بأن الصراع المستقبلي على المستوى الكلي ينتُج عن الاختلافات في الثقافة بين الحضارات غير المتوافقة. في حين أنه على المستوى الجزئي، سوف تصبح الثقافات المتحاربة داخل الدولة التهديد غير النظامي السائد. تخوض الجيوش النظامية الحروب وفقاً للمعايير والطرائق المعمول بها، في حين يستخدم محاربوا العصابات مزاياهم الاجتماعية والثقافية لتعويض المزايا التكنولوجية التي يمتلكها الجنود النظاميين. وفقا لهذه الحجة، فالجنود غير متماثلين مع المحاربين. ويشير أنصار هذا الرأي إلى أن توفر الأسلحة الصغيرة الحديثة وازدراء قواعد الحرب النظامية يعطي المحاربين الثقافيين –أي المقاتلين لدواعي تتعلق بالهوية العرقية أو الطائفية-تفوقهم العسكري. فالأهداف السياسية لا تهم رجال القبائل الصوماليين، ممن يتناولون القات ويجوبون مقديشو في سيارات مدنية مدججة بالسلاح. ثقافة المحارب تملي أهدافا – كـالشرف، الغنيمة، أو الرجولة -بدلا من الأهداف السياسية.[5]

وهكذا، يرى عدد من المراقبين ان العنف في المستقبل سيكون عرقياً أو قائماً على الهوية. والأساس السياسي الذي إفترضه كلاوزفيتز للحرب سوف يكون غير ذي صلة حيث لا تستطيع الدول الحكم بفعالية، ولا يمكن أن تمثل إرادة الشعب بكامله. والأثر الصافي هو الفوضى والإضطراب بين مجموعات فرعية داخل حدود “الدولة”، وهذا سيكون القاعدة الجديدة للحرب.[6]

وفي نفس السياق ناقش كُلاً من “جون غارنيت” و”جون بايلز” –أبرز علماء العلاقات الدولية ولاسيما في الشؤون الأمنية والاستراتيجية المعاصرة-وجهة النظر السابقة ذاتها وذكرا بأنه غالبا ما يقال إن العنف بين الدول هو الآن أقل مشكلة مما كان عليه قبل سنوات مضت. والواقع أنه قد تم حساب أن أقل من 10 في المائة من الصراعات المسلحة منذ عام 1970 فصاعدا كانت عبارة عن حروب بين الدول تقاتل من أجل تحقيق أهداف تقليدية.[7]

أحد الأسباب التي تدفع إلى القول بإنتهاء موضة الحروب التقليدية بين الدول هو أن القيمة المتوقعة للغزو قد تضاءلت في عالم معولم وتضاعفت تكاليفها الاقتصادية والسياسية على السواء. فمن الأفضل أن تنفق الدول على تحسين مستويات معيشتها لاسيما إنفاق أموالها على التعليم والبحث والتكنولوجيا بدلا من أن تغزو بلدان أخرى وتحاول تقليص عدد السكان المعادين. ان المعضلة الأخلاقية المعاصرة تجعل الحروب العدوانية صعبة التبرير، وثورة الإعلام تجعل من الصعب تجنب الخزي المرتبط بشنها.[8]

وفي سياق هذه الفكرة فقد ذكرت “ماري كالدور“: أن الحرب -وهي موضوع مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات الدولية -قد تغيرت بشكل عميق وأن الحروب الجديدة يجب أن تُفهم في سياق العملية المعروفة باسم العولمة“. هذه الحروب الجديدة تختلف عن الحروب القديمة في ثلاث طرق: النظر في الأهداف والتمويل وأساليب الحرب. وقد إفترضت “كالدور” بأن الحروب الجديدة يتم إنشاؤها من خلال تغيير العلاقات الاجتماعية في الحروب، باعتبارها نتاجا للعولمة وبسبب التكنولوجيات الجديدة. كما وإعتقدت أيضا أن تأثير هذه “الحروب الجديدة” على العلاقات الدولية والدراسات الأمنية كان عميقاً.[9]

الجنرال السير “روبرت سميث“، أحد أحدث المعلقين في سلسلة طويلة من المعلقين الذين يرددون هذا التصور المألوف وهو أن الحروب التقليدية باتت نموذج قديم غير معمول به اليوم. فقد بيّن “سميث” في إن “العنف موجود، وحروب المستقبل التي لن تشن بين الدول، ستُخاض عبر الشعوب“. وفي مورد آخر أكد سميث قائلا: وبينما يصف كلاوسفيتز الحرب على أنها إختبار للقوة وصراع الإرادة. فالحرب الميكانيكية هي حول القوة، أما الحرب عبر الشعوب هي حول الفوز في معركة الإرادة. والهدف من ذلك هو عدم سحق الشعوب وإنما تغيير عقولهم.[10]

وإذا تم القبول في أن هناك تراجعا في الحروب بين الدول، فان ذلك لا يفسر ارتفاع معدل اندلاع الحروب داخل الدول. فهناك عدد من الأسباب التي جعلت الحروب الأهلية شائعة، وربما كان أبسطها هو أنه في أجزاء كثيرة من العالم، فقدت الدول ذات السيادة -التي تُعرف عادة من حيث احتكار القوة العسكرية التي تمارسها داخل أراضيها-قدرة احتكار القوة والسيطرة على مجموعة متنوعة من الجماعات، سواء اكانوا قبائل أو جماعات عرقية أو إرهابيين أو أمراء حرب أو جماعات منشقة أو عصابات مسلحة. وكما يُظهر الصراع في سوريا، عندما تفقد الحكومات احتكارها للقوة العسكرية، فإنها لا تعُد قادرة على السيطرة على أراضيها أو شعبها. وتبدأ البيئة المحلية لتكون مشابهة للنظام الدولي غير الخاضع للحكم الذي هو سبب بنيوي “متسامح” للحرب. في الفوضى التي أشار لها “هوبز” فإن التوترات القديمة والكراهية التي كانت تُكبح سابقا سوف تنفجر إلى السطح. وقد تكرر ذلك كما شهدنا في البوسنة وكوسوفو والشيشان وأفغانستان والصومال.[11]

إن ما يثير الرعب بشكل خاص عن الحروب –الإثنية أو الطائفية-هو أن الناس يتعرضون للوحشية والقتل ليس بسبب أي شيء قاموا به، ولا حتى بسبب سياساتهم، بل بسبب من هم فقط!! وهذا ما هو فظيع جدا بشأن اضطهاد التوتسي في رواندا، والتاميل في سري لانكا، والمسلمين في البوسنة، والألبان في كوسوفو. وتختلف الحروب العرقية اختلافا كبيرا عن صراعات كلاوسفيتز ذات الدوافع السياسية حيث يختلف المتحاربون على شيء ويسعون إلى حل خلافهم عن طريق الحرب بين الدول، وهو نشاط يتم وفقا للقواعد الأخلاقية والقانونية المعروفة. قد يكون من المبالغ به وصف الحروب بين الدول على أنها ممارسات عقلانية ومتحضرة، ولكن هناك شعور محدود بانها كذلك. الحروب العرقية/الطائفية مختلفة تماما، فهي لا تتعلق بالسعي إلى تحقيق مصالح على انها مفهومة جيدا، انما تدور حول الضغائن والأحقاد فحسب، وهي غير مقيّدة بأي قانون أو قواعد. وبينما ترافق مع بروز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق الشام (داعش) في عام 2014 ممارسات أنطوت على “التطهير الديني” وحتى “التطهير العرقي” بإعتبارها “الحل النهائي”، فهي بالتأكيد واحدة من أكثر الممارسات المُخزية عند دخول القرن الحادي والعشرين.[12]

التطبيقات المحلية لمفهوم “المعضلة الأمنية

وفقا لما تقدم عند شرح مفهوم “المعضلة الأمنية” تبيّن أن المفهوم يتجسد عندما تسعى الدولة إلى اتخاذ إجراءات للحفاظ على الأمن، ومن ثم تنتج بشكل عرضي غير مقصود ردود فعل تنتقص من أمنها. وعندما يتم استخدام المصطلح في مجال السياسة الدولية، فانه يشير دائمًا إلى الطريقة التي يمكن أن تسلح بها الحكومة نفسها فقط من أجل أن تكون أكثر أمنًا مقابل الهجمات المحتملة. ولكن هذا السلوك يُقلق الحكومات الأخرى ويُحفزها إلى التسلّح أيضا، ومن ثم لا يتحسن أمن الجميع بل قد يتضاءل. وغالبًا ما يمتد التحليل إلى الإيحاء بأن ديناميكية ردّة الفعل هذه يمكن لها أن تغذي الشكوك وتثير المخاوف، وفي النهاية تساعد في إثارة التنافس وحتى الحرب.

في الواقع، فان لمفهوم “المعضلة الأمنية” تطبيقات محلية أخرى. إذ يتم تطبيقه الآن من قبل بعض المحللين على الصراعات الداخلية، مثل تلك الموجودة بين مختلف الإثنيات العرقية والطوائف المحلية. وباتت المعضلة الامنية اليوم ترتبط بالمكونات العرقية داخل الدول الضعيفة والفاشلة أكثر مما ترتبط فيما بين الدول أي قوى الوضع الراهن. على سبيل المثال، إذا أصبحت الدولة ضعيفة وغير مستقرة، فقد تبدأ الجماعات العرقية والطائفية في البلاد في الشعور بعدم الارتياح بشأن المستقبل. ويبدأ التساؤل، ماذا لو نشأ صراع عرقي أو طائفي وكانت الدولة أضعف من قمعه؟ قد يؤدي ذلك إلى قيام مجموعة إثنية أو طائفية باتخاذ خطوات للإستعداد والتأهب للمشكلة المحتملة-كالحصول على بعض الأسلحة، أو ربما تشكيل ميليشيات لتوفير الحماية ضد أي هجوم، وربما إقامة نقاط تفتيش للحد من الوصول إلى المناطق السكنية الرئيسة للمجموعة. لكن مثل هذه الخطوات، والخطاب السياسي الذي يساعد على تبنيها من قبل قيادة المجموعة الإثنية، يمكن أن يُحرّض المجموعات العرقية أو الطائفية الأخرى على تطوير وتبني مخاوف وخطوات مماثلة، وإطلاق سلسلة ردود فعل مماثلة.[13]

اليوم، الصراع العسكري بين الدول هو أقل تواترا مما كان عليه الحال في معظم تاريخ العالم. في الوقت نفسه، أصبح الصراع المرتبط بالدول الضعيفة والفاشلة مصدرا رئيسا لعدم الاستقرار في العديد من أنحاء العالم. يجادل بعض العلماء أنه على الرغم من أن هذا التطور يبدو غير ملائم لفكرة الجهات الفاعلة الحكومية الموضوعة في مأزق أمني في نظام دولي فوضوي، إلا أنه ربما لا يزال من المنطقي تطبيق المنطق الأساس للمعضلة الأمنية من خلال تطبيقات محلية أخرى. على سبيل المثال، وجد “باري بوسن”، عند تحليله للعنف العرقي بين الجماعات العرقية في انهيار يوغوسلافيا في أوائل تسعينيات القرن الماضي، أن الصرب والكروات عانوا من معضلة أمنية في فوضى ناشئة حيث اضطرت كل مجموعة إلى الاعتناء بأمنها.[14]

إن تطبيقات مفهوم المعضلة الأمنية محليا تعكس بشكل اساس الطبيعة المأساوية للوضع المحلي داخل الدول الضعيفة: اذ تسعى الجماعات – العرقية أو المذهبية-الفاعلة لتعزيز قوتها من أجل الدفاع عن نفسها، ولكن ينتهي بها المطاف في الصراع العسكري. وبالتالي، حتى لو كانت كافة الإثنيات والطوائف هي القوى المسلّحة المحلية الموجودة التي ترغب فقط في المحافظة على أمّنها من دون النيّة بإلحاق الأذى بالأخرين، فقد تحدث الحرب أو الصراعات المسلحة بينها بسبب الخوف وانعدام الأمن الناتج عن المناخ المحلي الذي تسببت في إيجاده الدولة الضعيفة والمشابه للنظام الدولي الفوضوي غير الخاضع لحكومة عالمية. فإذا أمتلكت إحدى الجماعات المحلية السلاح، ستتبعها بذلك الجماعات المتنوعة –عرقيا أو مذهبيا-الأخرى. وذلك لأنه لا يمكن لباقي الجماعات المتنوعة معرفة ما إذا كانت الجماعة المسلحة الأولى ستستخدم قدراتها العسكرية المتزايدة للهجوم في المستقبل أم لا؟

هذا التركيز على تأثير المناخ الفوضوي يفترض ان الدولة الضعيفة تنتج نظام يقوم على الإعتمادية الذاتية، حيث يجب على الجماعات العرقية أو المذهبية الإعتماد على نفسها في التركيز على مصالحها الخاصة من أجل تعظيم فرصهم في الأمن والبقاء.

بعبارة أخرى، إن جوهر “المعضلة الأمنية” محليا يتمثل بـ: معظم الخطوات التي تتخذها أي جماعة –إثنية أو مذهبية-لتعزيز أمنها الخاص ستُخفض بالضرورة من أمن باقي الإثنيات والطوائف الأخرى. على سبيل المثال، أي جماعة –إثنية أو مذهبية-تعمل على تحسين موقعها في ميزان القوى المحلي/الداخلي سيتم ذلك على حساب الإثنيات والطوائف الأخرى، والتي ستفقد نسبيا من قوتها. وفي هذه اللعبة التي محصلتها صفر، من الصعوبة بمكان أن تقوم جماعة –إثنية أو مذهبية-بتحسين فرصها في البقاء دون تهديد بقاء الإثنيات والطوائف الأخرى. وبطبيعة الحال، فإن الإثنيات والطوائف المُهدَدَة التي فقدت نسبياً من قوتها تفعل كل ما هو ضروري لضمان بقائها، والذي بدوره يهدد الجماعة –الإثنية أو المذهبية-الأولى مجددا، وكل ذلك يؤدي إلى تنافس أمني دائم ومستمر، يُجسد المعضلة الامنية محليا.

الإستقرار الأمني في العراق، في ضوء مفهوم “المعضلة الأمنية“.

ينبغي على الدول عموما ولاسيما الضعيفة والتي تعاني الأزمات الأمنية الداخلية بتكرار – كالعراق على سبيل المثال لا الحصر-أن تنتهج استراتيجيات أمنية رشيدة بغية تحقيق الإستقرار الأمني المستدام، وفي هذا الصدد أفترض ضرورة تحقيق المتطلبات التالية:

  • يتحتم على الحكومة العراقية –التي واجهت أزمات أمنية محلية متكررة-أن تستهدف المناخ المحلي المشابه للمناخ الدولي الفوضوي، إذ يُعد هذا المناخ سبب بنيوي “متسامح” لنشوب التوترات والصراعات المُسلحة –على المستوى العرقي والمذهبي والعشائري. ان المناخ المحلي الحالي يُعد المُحفز الأساسي للجماعات الإثنية والمذهبية والعشائرية في الإعتماد على نفسها من أجل صيانة أمنها وسلامتها وبالتالي تسليح نفسها والإخلال بميزان القوى المحلي وتهديد باقي الجماعات الإثنية والمذهبية والعشائرية المحلية وتحفيزهم على الأعتماد على أنفسهم في صيانة أمنهم وسلامتهم.

وهكذا، فإن التحدي القائم أمام الحكومة العراقية المُتمثل بتحقيق الإستقرار الأمني المستدام يتوقف على مدى تمكُن الحكومة من تغيير المناخ المحلي المشابه للمناخ الدولي الفوضوي، من خلال ممارسة الحكم بفعالية وقوة وملء أي فراغ محتمل أن تشغله الجهات الفاعلة غير الحكومية، وحصر السلاح بيد الدولة بإعتبارها الجهة الشرعية الوحيدة ذات الحق بإمتلاك القوة الغاشمة ووسائل العنف المُسلّح. ومن خلال ذلك، يتم تخفيض مخاوف وقلق الجماعات الإثنية والمذهبية والعشائرية المحلية، عبر إقتناع هذه الجماعات الكامل بوجود حكومة قوية وفعالة تتمكن من قمع أي إعتداء مُحتمل قد يطال هذه الجماعة -العرقية او المذهبية أو العشائرية-او غيرها.

  • كما وينبغي على وجهاء الجماعات المسلحة -العرقية والمذهبية والعشائرية-المحلية في العراق أن يتّعِضوا من مفهوم المعضلة الأمنية، وأن يدرِكوا بأن تأمين أنفسهم بالإعتماد على أنفسهم وليس على الحكومة الشرعية المُنتخبة في العراق يترتب عليه الأتي:
  • مساهمة هذه الجماعات في تقويض قدرة الحكومة في الحكم بفعالية ومزاحمتها في إختصاصها، ومن ثم عرقلة جهود الحكومة الرامية إلى خلق مناخ محلي مستقر وآمن ومختلف عن المناخ الدولي الفوضوي. إذ أن إحتكار العنف المسلح هو من إختصاص الحكومة وأجهزتها النظامية حصرا، وإن مزاحمتها في ذلك يساهم في ترسيخ مناخ فوضوي مشابه للبيئة الدولية، ومعيق لمساعي الحكومة في حصر أجهزة الأمن والإكراه بيدها لتوفيره بالمحصلة للجميع.
  • إن إصرار الجماعات المحلية على إمتلاك القدرات العسكرية بغية تأمين نفسها، سوف تكون له إرتدادات سلبية على أمن تلك الجماعات الخاصة –سواء العرقية أو المذهبية أو العشائرية-على المدى الطويل.

فلو أصرّت الجماعة –العرقية أو المذهبية أو العشائرية- (A) على الإعتماد على نفسها في توفير أمن وحماية جماعتهم الخاصة، سوف يحفز ذلك باقي الجماعات –العرقية أو المذهبية أو العشائرية- المحلية (B، C، D…الخ) بإنتهاج نفس أسلوب الجماعة (A) الرامي إلى صيانة أمن وسلامة جماعاتهم –العرقية أو الطائفية أو العشائرية- الأخرى من خلال الإعتماد على أنفسهم، ومن ثم سعي تلك الجماعات (B، C، D…الخ) إلى إمتلاك القوة العسكرية الخاصة بهم أو إنتاج ميليشيا عسكرية خاصة بجماعاتهم الأخرى بغية تحقيق توازن قوى محلي رادع لتعريض هذه الجماعة أو تلك من الإعتداء المحتمل من قِبل الجماعة المسلحة المحلية (A) أو غيرها من الجماعات المحلية التي تسلّحت كردة فعل على تسلح الجماعة (A). ومن ثم إنخراط الجميع في لعبة محصلتها صفر يتهدد من خلالها أمن الجميع بدلا من أن يتحقق أمن وسلامة هذه الجماعة أو تلك!! وهو ما يجري في العراق.

الخلاصة

لن تتمكن الحكومة العراقية من تحقيق إستقرار أمني مستدام ما لم تستهدف إصلاح المناخ المحلي المتسامح بنيويًا مع نشوب الحرب والصراعات المُسلّحة، إذ أن هذا المناخ هو المسؤول عن وجود جماعات إثنية/طائفية/عشائرية محلية موضوعة في مأزق أمني ضمن نظام محلي فوضوي!

إن هذا المناخ يُحفز الجماعات المحلية في الإعتماد على نفسها فيما يتعلق بأمن وسلامة جماعتهم، وذلك بسبب القلق والخشية من دون وجود قوة عُليا قادرة على قمع أي إعتداء محتمل قد تتعرض له مجموعتهم. ولذلك، تتجلى أهمية تعزيز الحكومة العراقية لقوتها المادية والأخلاقية وحصر وسائل الإكراه والعنف المسلح والقوة بيدها فقط، وهو ما يُبدد أي قلق أو مخاوف محتملة لمختلف الجماعات –العرقية والطائفية والعشائرية-المحلية.

وفي سبيل تمكين الحكومة العراقية على ممارسة الحكم بفعالية والقدرة على فرض الأمن والنظام، يتوجب على كافة الجماعات المسلحة ذات الخلفيات –العرقية أو المذهبية أو العشائرية-المحلية أن تتعض من مفهوم “المعضلة الأمنية” وتتفهم أن أمن جماعتهم الخاصة لن يتحقق على المدى الطويل وبشكل مستدام إلّا بوجود حكومة قوية تمارس الحكم بفعالية وكفاءة قادرة على قمع إي إعتداء مُحتمل من باقي الجماعات المحلية الأخرى. وخلافا لذلك فإن الإجراءات التي تتخذها هذه الجماعة –العرقية أو المذهبية أو العشائرية-لزيادة أمنها سوف تتسب بالضرورة في ردود أفعال من الجماعات الأخرى، مما يؤدي إلى تهديد أمن الدولة والجماعات المتنوعة داخلها بدلاً من زيادته!!. ومع تفهّم وجهاء مُختلف الجماعات المسلحة المحلية لهذه الحقيقة، يتوجب عليهم مساندة الحكومة في حصر السلاح بيدها والإذعان لإحتكار الحكومة وأجهزتها النظامية كافة وسائل العنف والإكراه والقوة الغاشمة حصرا وعدم منازعتها لإختصاصها، بغية توفير وتحقيق إستقرار أمني حقيقي ومستدام.

وكما قيل حول الدول، يمكن له أن ينطبق على الجماعات –العرقية أو المذهبية أو العشائرية-أيضا: إن ضُعف الأمن داخل الدول الضعيفة يؤدي إلى تسلّح الجماعات العرقية والمذهبية والعشائرية… غير أن إمتلاك الجماعات المتنوعة للأسلحة يؤدي إلى المزيد من ضُعف وانعدام الأمن.

الهوامش:

[1] – Anders Wivel. “Security Dilemma” University of Copenhagen. January 2011. p2.

[2] – Paul Roe, “The Intrastate Security Dilemma: Ethnic Conflict as a ‘Tragedy’?”. Journal of Peace Research. Issue: 36. March 1999. pp.183–202.

[3] – Anders Wivel.  Op.Cite. pp 2-3.

[4] – Tim Dunne & Steve Smith. “International Relations Theories: Discipline and Diversity”. Chapter 4, Structural Realism. Oxford University press. Third edition, 2013. p80.

[5] – John Baylis & Colin S. Gray & James J. Wirtz. “Strategy in the Contemporary World.” Chapter 11, “Irregular Warfare: Terrorism and Insurgency.” By: JAMES D. KIRAS. Oxford University Press. 6th edition. 2019. p200.

[6] – Ibid.

[7] – John Baylis & Colin S. Gray & James J. Wirtz. “Strategy in the Contemporary World.” Chapter 5, “The Causes of War and the Conditions of Peace.” By: John Garnett & John Baylis. Oxford University Press. 6th edition. 2019. p84.

[8] – Ibid.

[9] – Alan Collins. “Contemporary Security Studies.” Chapter 11, “Military Security” By Michael Sheehan. Oxford University Press, 3d edition, 2013. p152.

[9] – Anders Wivel.  Op.Cite. p4.

[10] – Sir R. Smith, “The Utility of Force: The Art of War in the Modern World”. 2006

[11] – John Baylis & Colin S. Gray & James J. Wirtz. “Strategy in the Contemporary World.” Chapter 5, “The Causes of War and the Conditions of Peace.” By: John Garnett & John Baylis. Oxford University Press. 6th edition. 2019. p84.

[12] – Ibid.

[13] – Alan Collins. “Contemporary Security Studies.” Chapter two, “Security in International Politics: Traditional Approaches” By Patrick Morgan. Oxford University Press, 1st edition, 2007. p18.

[14] – Anders Wivel.  Op.Cite. p4.