أ . م . حيدر خضير مراد
باحث في قسم الدراسات السياسية – مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء
حزيران-يونيو 2019
شهد التاريخ الإسلامي العديد من الفتن والحوادث المذهبية التي ترجع في ظاهرها الى خلافات عقائدية او فقهية بين الفرق والطوائف الاسلامية والتي استغلت من قبل أرباب السلطة السياسية او المقربين منهم لتحقيق اهداف ومأرب معينة تخدم تلك السلطة او المتنفذين في ظلها كأزاحة واقصاء خصوم سياسيين محتملين او التخلص من المعارضين والمناوئين او اعادة تموضع او اكتساب شرعية او تحقيق مكاسب سياسية وغيرها من الاهداف والمصالح التي تخدم اصحاب السلطة السياسية واعوانهم والتي تمثل استغلالاً سياسياً للاختلافات العقدية والفقهية بين الفرق والتيارات الإسلامية المختلفة .
ومن تلك الحوادث والفتن المذهبية محنة خلق القرآن في عهد الخليفة المأمون ( 198 – 218هـ / 813 – 833 م ) الذي قرب المعتزلة وتأثر بأفكارهم ومنها فكرة خلق القرآن، وتعصب على الفقهاء والمحدثين تعصباً مفرطاً ، وفرض عليهم القول بخلق القرآن بالقوة، وهدد من يخالفه بالقتل والسجن والحرمان، وقام بالتمكين للمعتزلة في دولته على حساب الفرق والتيارات الاسلامية الأخرى. (1)
وعلى ما يبدو ان الدوافع الكامنة وراء تبني الخليفة المأمون لهذه الفكرة هي استغلال المنهج العقلي لتحقيق اهدافه السياسية بالتخلص من نفوذ الفقهاء والمحدثين واقصاء خصومه السياسيين والتخلص من المعارضين والمناوئين لسياسته.
وعندما تخلت السلطة السياسية عن المعتزلة في عهد الخليفة المتوكل (232 – 247هـ/846 – 861 م) ونصرت المحدثين والحنابلة. وما أن رأى الناس تحول السلطة عن المعتزلة حتى هجروهم، وصار الاعتزال سراً وتلاشى المعتزلة كتيار مؤثر بمرور الزمن.(2)
وحينما تحالف الحنابلة مع السلطة السياسية في عهد الخليفة العباسي القادر بالله (381- 422هـ/ 991 – 1031 م ) الذي قربهم وأظهر ميله الى مذهبهم (3) ، قاموا بأقصاء خصومهم من المذاهب والفرق الأخرى وكبتوا كل الافكار المخالفة لهم بقوة السلطان.(4) وقد كان هذا الخليفة بحاجة الى دعمهم ومؤازرتهم لتنفيذ برنامجه السياسي والفكري المناهض لأرباب التيار العقلي كالمعتزلة والشيعة الامامية والاشاعرة (5)، لاسيما وان الحنابلة كان لهم نفوذ قوي بين العامة في بغداد خلال تلك الحقبة (6)، فأراد الخليفة استغلال دعمهم ومساندتهم له في تعزيز سلطته الشخصية والتخلص تدريجياً من السيطرة البويهية.(7) ومن أجل التصدي للخلافة الفاطمية والحد من امتداد نفوذها نحو العراق، (8) أصدر رسالة عرفت بالاعتقاد القادري نصر فيها الحنابلة وأهل الحديث وكان هذا الاعتقاد موجهاً ضد المعتزلة والشيعة والاشعرية ، حيث حُرِمَ بموجبه أي نشاط رسمي لهذه الفرق الثلاث في بغداد مقابل السماح للحنابلة بالقيام بنشاطهم الوعظي والسياسي. (9)
وفي سنة 469هـ/ 1076 م دخل أبو نصر القشيري بغداد حاجاً وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس، وجرى له مع الحنابلة فتن، لأنه تكلم على مذهب الاشعري ونصره، وكثر اتباعه والمتعصبون له، وقصد خصومه الحنابلة سوق المدرسة النظامية واعتدوا عليها، وقتلوا جماعة ، فتصدى لهم اتباع القشيري ، وقتل من الفريقين أكثر من عشرين قتيلاً (10) وأتهم الاشاعرة الوزير ابن جهير بالتواطؤ مع الحنابلة. واستمرت الفتنة حتى تدخل الوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي وأرسل رسالة الى الخليفة المقتدي بأمر الله (467- 487هـ/1074 – 1094 م ) يسأله عزل الوزير ابن جهير بتهمة انه كان سبباً في الفتنة، فتم عزله إرضاء لنظام الملك الذي كان أشعري المذهب. (11)
لقد كانت هذه الاحتكاكات المذهبية تنطوي على توترات سياسية بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية ، وتشير الروايات التي توردها المصادر التاريخية بأن هنالك تحالفاً بين الخلافة والحنابلة من جهة ، وبين السلطنة السلجوقية والاشاعرة من جهة أخرى (12) ، وان فتنة ابن القشيري والحنابلة في حقيقتها ماهي الا مظهراً من مظاهر الصراع السياسي الخفي وغير المباشر بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية في تلك الفترة من التاريخ الإسلامي .
أن ما ذكر سابقاً كانت بعض الشواهد التاريخية على استغلال السلطة السياسية للخلافات العقائدية والفقهية بين الفرق والتيارات الاسلامية لتحقيق اهدافها واجندتها السياسية، كما انه وفي نفس الوقت استغلت بعض الفرق والمذاهب الاسلامية مساندة السلطة السياسية لها في اقصاء خصومها والتفوق على الطوائف الأخرى المنافسة لها ، وفرض افكارها عليها بقوة السلطان ، مما يعني ان الكثير من الخلافات العقدية والفقهية التي ورثتها الأمة الاسلامية عبر الاجيال كانت في حقيقتها ظواهر لخلافات سياسية عميقة بين جهات متنفذة معينة وزعامات او قيادات او فرق واحزاب ذات مصالح متباينة .
واليوم وفي عصرنا الراهن تحاول الدوائر والجهات الاستعمارية والامبريالية والصهيونية استغلال الخلافات المذهبية العقائدية والفقهية التي ورثتها الأمة الاسلامية جيلاً بعد جيل من أجل تمزيق وحدة المسلمين وتفريق كلمتهم بأثارتها للنعرات الطائفية والمذهبية بين أطياف المجتمع في البلدان العربية والإسلامية من اجل اضعافها واستنزاف قوتها ، لكي تتمكن من تحقيق مشاريعها وتمرير مخططاتها واجندتها الاستعمارية في استغلال تلك البلدان وامتصاص خيراتها وثرواتها .
لذلك يجب علينا الان ، وبعد تعاقب هذه الحقب من التاريخ الإسلامي، ان نستنبط الدروس والعبر من الاحداث والوقائع التي شهدها تاريخنا ، وان نبتعد عن التعصب والتزمت في المسائل الدينية ، وان تكون روح التسامح المذهبي وتقبل الفكر الأخر ، ووجهة النظر الأخرى هي السائدة في مجتمعنا ، وينبغي ان ننظر الى الاختلافات العقائدية والفقهية بين المذاهب الإسلامية على انها ليست عامل فرقة وخصام، بل هي عامل تكامل وتنوع في الحضارة الاسلامية. لذلك يجب تغليب لغة الحوار والتفاهم بين المذاهب الإسلامية، والعمل الجاد على تضييق شقة الخلاف بينها بهدوء وروية وتفاهم، ونبذ العنف والارهاب والافكار الدينية المتطرفة تحقيقاً للوحدة الاسلامية ولما فيه نفع الاسلام ومصلحة المسلمين.
الهوامش :
- علال ، خالد كبير , التعصب المذهبي في التاريخ الإسلامي ، (الجزائر : دار المحتسب ، 1429 هـ / 2008 م ) ، ص135 ؛ باتون ، ولتر ملفيل ، أحمد بن حنبل والمحنة ، ترجمة : عبد العزيز عبد الحق ، مراجعة : محمود محمود ، ( القاهرة : دار الهلال ، 1377 هـ / 1958 م ) ، ص131 وما بعدها ، ص 172 – 173 .
- جار الله ، زهدي حسن ، المعتزلة ، ( القاهرة : مطبعة مصر ، 1366 هـ / 1947م) ، ص183 – 184 .
- ابن الجوزي ، عبد الرحمن بن علي (ت 597 هـ / 1201 م ) ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، تح : محمد عبد القادر ومصطفى عبد القادر ، تصحيح : نعيم زرزور ، ط1 (بيروت : دار الكتب العلمية ، 1412 هـ / 1992 م ) ،ج14 ، ص354 ؛ السيوطي ، عبد الرحمن بن الكمال ( ت 911 هـ / 1505م) ، تاريخ الخلفاء ، تحقيق : رضوان جامع رضوان ، ط1 (القاهرة : مؤسسة المختار ، 1425 هـ / 2004 م ) ، ص446 .
- أمين ، أحمد ، ضحى الاسلام ، ط 7 ( القاهرة : مكتبة النهضة المصرية ، 1964 م ) ، ج3 ، ص199 – 200 .
- سلهب ، حسن ، تاريخ العراق في العهد البويهي دراسة في الحياة الفكرية 334 – 447 هـ / 945 – 1055 م ، ط 1 ( بيروت : دار المحجة البيضاء ، 1429 هـ / 2008 م ) ، ص 217 ؛ ميتز ، آدم ، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام ، ترجمة : محمد عبد الهادي أبو ريدة ، ط 4 ( بيروت : دار الكتاب العربي ، 1387هـ / 1967 م ) ، مج 1 ، ص 379 .
- أمين ، ضحى الاسلام ، ج 3 ، ص 200 – 201 ؛ مراد ، حيدر خضير ، ابن القشيري والحنابلة في بغداد ، مجلة جامعة كربلاء العلمية ، المجلد 16/ العدد الثالث / أنساني ، ( رئاسة جامعة كربلاء ، 2018 م ) ، ص 51 .
- مكدرموت ، مارتن ، نظريات علم الكلام عند الشيخ المفيد ، تعريب : علي هاشم ، مراجعة : الدكتور محمود البستانيّ ، ط1 ( مشهد : مطبعة الاستانة الرضوية المقدسة ، 1413هـ ) ، ص44.
- الكثيري ، محمد ، السلفية بين أهل السنة والإمامية ، ط 2 ( بيروت : الغدير للطباعة و النشر و التوزيع ، 1425 هـ / 2004م) ، ص 630 – 631 .
- ابن الجوزي ، المنتظم ، ج 15 ، ص 279 – 284 ؛ الكثيري ، السلفية بين أهل السنة والإمامية ، هامش ص 629 .
(10) ابن الأثير ، علي بن محمد الجزري الشيباني (ت630 هـ / 1233م) ، الكامل في التاريخ ، تحقيق : عبد الله القاضي ، ط 1 ( بيروت : دار الكتب العلمية ، 1407هـ / 1987 م ) ، ج 8 ، ص413 ؛ ابن رجب ، عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي البغدادي (ت795هـ/1392م) ، الذيل على طبقات الحنابلة ، تحقيق : أسامة حسن وحازم علي بهجت ، ط1 ( بيروت : دار الكتب العلمية ، 1417 هـ / 1997 م ) ، ج1، ص 16 – 17 .
(11) ابن الجوزي ، المنتظم ، ج 16 ، ص 198 – 199 ؛ السيوطي ، تاريخ الخلفاء ، ص456 .
(12) مراد ، ابن القشيري والحنابلة ، ص 54 .