الهويات: طائفية أم جيوسياسية؟ الانقسام الاقليمي الشيعي – السني في الشرق الاوسط

      التعليقات على الهويات: طائفية أم جيوسياسية؟ الانقسام الاقليمي الشيعي – السني في الشرق الاوسط مغلقة

 

ماري لوومي  Mari Luomi

معهد فنش للشؤون الدولية / هلنسكي – فنلندا / 2008

ترجمة: ا. م. د. حسين احمد السرحان

 

 

ترجمة: ا. م. د. حسين احمد السرحان

الهدف من هذه الدراسة هو تعزيز فهم الوضع الجيوسياسي الجديد الذي يتكشف حاليا في سياسات الشرق أوسطية التي ظهرت منذ بداية الحرب الاميركية على افغانستان والعراق. وتركز الورقة على مفاهيم الانقسام السني – الشيعي، وصعود الشيعة.

في هذه الدراسة تأكيد بأن الديناميكيات الحالية للانقسام الاقليمي السني – الشيعي تعزز وتحفز عبر كل من الاعتبارات الجيوسياسية ومصالح الامن القومي للدول. التاريخ والهوية لايكفيان وحدهما لتوضيح منطق الانقسام على المستوى الاقليمي. تسعى الدراسة لتوضيح كيف، ولماذا تعزز الجغرافية وسياسات القوة الانقسام الطائفي الحالي في الشرق الاوسط.

تتناول الدراسة الانقسام في سياسات الشرق اوسطية على مستويين من التحليل: المستوى المحلي، والمستوى الاقليمي. ركز التحليل في هذه الدراسة على المستوى الاقليمي، حيث الديناميكية او الخطاب  الطائفي لم يظهر بعد كما هو واضح على المستوى المحلي (في بعض الدول)، وحيث دفعت الصراعات الطائفية دولتين هما العراق ولبنان الى حافة الانهيار تقريبا.

الفصلين الاول والثاني يحاولان تحديد كيف ولماذا ظهرت الاعتبارات الطائفية على المستوى الاقليمي والنهج النظري والفلسفي الذي يمكن للعلاقات الدولية من خلاله ان توضح هذه الاحداث على افضل وجه.

على المستوى المحلي، تم رسم خط الصدع في معظم الحالات بين “الحُكام” (السُنة) و”المحكومين/ المظلومين” (الشيعة). الانقسامات الطائفية تظهر في اشكال مختلفة في دول مختلفة، ولكن هناك بعض العناصر المشتركة: في الدول التي يحكمها السنة، غالباً ما كان ينظر إلى الشيعة على أنهم هراطقة، اعداء لأيديولوجية الدولة و/او تهديد للاستقرار الداخلي. وبسبب حقيقة ان الشيعة في اغلب الدول العربية هم اقلية ، يتجلى الانقسام على المستوى المحلي في اوضح صوره كصراع على السلطة بين الاغلبية والاقلية.

لقد كان الشيعة دائما مظلومين في الاسلام، وجزئيا نتيجة لهذا السبب، عادة ما يُنظر لهم على انهم اكثر انغماس في السياسة. وهذا يجعلهم التهديد المحتمل في الوضع الجيو سياسي الجديد في عيون الانظمة العربية السنية في هذه البلدان التي تضم سكان شيعة، أما اقلية (لبنان، العربية السعودية، اغلب دول الخليج الصغيرة، اليمن والى حد ما الاردن) أو اغلبية (البحرين، العراق). ويبقى ان ننظر الى اي مدى ستعزز هذا الاتجاه في المستقبل القريب. التطورات في العراق والوضع الاقليمي ايضا والسياسات الخارجية لايران سوف تحدد مستقبل العلاقات الشيعية السنية داخل دول الشرق الاوسط.

على المستوى الاقليمي ، الدول العربية الخاضعة للحكم السني، وبالخصوص المملكة العربية السعودية تواجه تحديا متزايدا من قبل ايران في الصعود كقوة اقليمية. الاقليم الذي حُكم تقليديا من قبل بغداد ودمشق والقاهرة يصبح مصيره الان بيد واشنطن وتل ابيب وطهران. ان الحاجة الى الاختيار بين الولايات المتحدة (المهيمن حاليا على المنطقة)، وأيران ” المنافس الشيعي”، تفضل الدول العربية الولايات المتحدة. ايضا اكتشفت الدول العربية التي يحكمها السنة بأن مصالحها الامنية تتعزز عبر التقارب بشكل متزايد مع مصالح اسرائيل. ايران من جانبها تسعى الى تقليل التوتر بين البلدان الاسلامية في الشرق الاوسط، لكن سلوكها المرتبط بالبرنامج النووي، وتزايد نفوذها في العراق، وحرب 2006 في لبنان كانت غير مؤاتية ولاتتناسب مع مسعاها.  

ان التركيز فقط على نتائج الخلافات التأريخية في محيطها الحالي، وعلى حل المشاكل يؤدي الى اعتماد موقف معياري بشأن هذه القضية. ولذلك تسعى الدراسة لمعرفة كيف ان خطوط الصدع الحالية في المنطقة، والفجوة بين السنة والشيعة، و”صعود الشيعة على مستوى الدولة” جاءت نتيجة الصعود الجيوسياسي لايران؟.

تتضمن الدراسة محاور عدة:

  • الفصل الاول: الانقسام الاقليمي السني – الشيعي في عهد ما بعد صدام.
  • الصدع الطائفي في العصر الحديث.
  • الحرب في العراق: قَلبَ الميزان الاقليمي ( ميزان القوى).
  • الحرب في لبنان 2006: دعوة يقظة بالنسبة للدول السنية.
  • الفصل الثاني: توضيح صعود الشيعة
  • البنيوية والهوية الشيعية النامية.
  • تفسير المحافظين الجدد كمدرسة فلسفية، وأيديولوجية الإدارة الأمريكية في تفسيرهما للصراع الطائفي.
  • تفسير مدرسة الواقعية الجديدة ونظرية الفائدة المشركة للصراع الطائفي.
  • الفصل الثالث: جعل السياسات الاقليمية طائفية.
  • اختبار التحالف المضاد لايران (الولايات المتحدة، السعودية والدول العربية الأخرى التي يقودها السنة، اسرائيل).
  • مستقبل العلاقات السنية – الشيعية في الشرق الاوسط.
  • الاستنتاجات

 

الفصل الاول: الانقسام الاقليمي السني – الشيعي في عهد ما بعد صدام

في شرق اوسط ما بعد صدام، خضعت البيئة الامنية لمنطقة الخليج الفارسي الى تغيير عميق. وكان لذلك تداعيات على الشرق الاوسط بأكمله. ان اختفاء عراق قوي يهيمن عليه السنة، قد حطم توازن القوى فيه وكذلك في ايران والسعودية وبدا ان ميزان القوى مال لصالح ايران. وعملت الدول السنية القوية بعد سقوط نظام صدام حسين على اعادة تنظيم انفسهم من اجل التعامل مع التحدي الايراني. ومن بين العلامات على هذا التوجه، تشكيل الهيئة الرباعية العربية ، واعادة اطلاق مبادرة السلام العربية عام 2002 في أوائل عام 2007، ومؤتمر انابوليس للسلام في وقت لاحق من العام نفسه.

ازالة صدام حسين ونظام البعث هز توازن القوى ليس فقط على المستوى الاقليمي فحسب بل، على ما يبدوا، في المستوى المحلي. في العراق، صعود الشيعة الى السلطة وضع النهاية لتوازن القوى القديم بين “الاقلية” و”الاغلبية” في المنطقة التي شهدت استثناءات قليلة للحكم السني في تاريخها.

اعادة التنظيم السياسي على طول تطبيقات الخطوط الطائفية لن للعراق فحسب، بل من المحتمل ايضا، في المستقبل، لجميع الدول في الشرق الاوسط مع اقلية شيعية كبيرة او الاغلبية الشيعية المضطهدة. فضلا عن ذلك ان هناك اعادة تعريف مماثلة تجري على مستويات مختلفة للسياسات المحلية والمحلية والاقليمية وشبة الدولية. ان ازالة نظامي طالبان والبعث، وما ترتب على ذلك من ضعف العراق و ” صعود ايران”، تزمنا مع الاخفاقات المتكررة لسياسات الولايات المتحدة بما يرتبط بالشرق الاوسط، قد عملت كمحفزات للإعلان عن ظهور انقسام في المنطقة وفق خطوط طول طائفية، وكما يؤكد ذلك آشر سوسر Asher Susser البروفسور الفخري لتاريخ الشرق الاوسط في جامعة تل ابيب :

       ” في هذا النظام الاقليمي الجديد، تلعب الهويات البدائية ادوارا حاسمة ليس في السياسة الداخلية فحسب، بل في العلاقات بين الدول أيضا. خط الصدع السائد بين دول الشرق اوسطية لم يعد كما كان سابقا ممالك مقابل جمهوريات أو حكومات مؤيدة لأميركا وحكومات اخرى مؤيد للاتحاد السوفيتي، ولكن اصبح الانقسام السني – الشيعي. وبطريقة مماثلة، لم تعد مخاوف النخب المسلمة السنية الحاكمة تركز على تهديد التيارات الايديولوجية مثل الشيوعية، او الاشتراكية، او القومية، او غير ذلك، بل اصبحت تركز على دعم ايران للمكونات الشيعي في بلدانهم والتي تشكل اقليات مهمة وبارزة في دول الخليج والمملكة العربية السعودي”.

وطبقا لسوسر، لقد فشل المشروع القومي العلماني للنخب العربية السنية وسعت ايران ولازالت لملء الفراغ. وهذا الشيء حالة ملموسة في العراق. كما ان سوسر يتنبأ أيضا في صعود ايران ، وفي صعود الشيعة ويرى في ذلك التهديد الوجودي لنظام الدولة في منطقة الشرق الاوسط بأكملها. ويذهب في ذلك الى ابعد اذ يقول:

“العالم العربي” مفهوم سقيم، في المصطلحات السياسية، وان نظام الدولة العربية في حالة من الفوضى وعدم الثقة وان ايران الشيعية تطمح وعازمة على ملء الفراغ الناتج عن ذلك. واصبحت القومية العلمانية في موقف دفاعي متزايد ان لم يكن في حالة تضاءل. مثل تشكيل الجامعة العربية بوضوح هيمنة العرب السنة في الشرق الاوسط، وأشرت استمرارية النظام السياسي والاجتماعي السني العثماني القديم والمهيمن، واجزاء كبيرة من هذا النظام هي في حالة يرثى لها، اذ اصبحت القومية العربية قوة مستهلكة ووجود نظام الدولة والتفوق السني اصبحا تحت التهديد الوجودي”.

مع ذلك، قد يكون من المستحيل التنبؤ بنهاية نظام الدولة في العالم العربي. القومية – يستثنى منها الى حد ما الشكل العروبي لها – لاتزال موجودة الى حد كبير في جميع الدول العربية تقريبا. ومع ذلك، هناك علامات واضحة على ان التفوق العربي السني منذ الف عام ونصف يخدم بشكل متزايد مصالح القوى غير العربية: الولايات المتحدة، اسرائيل ، وايران. وحتى تركيا بدأت مؤخرا ترى تحقيق مصالحها في العودة الى الشرق الاوسط واصبحت (مرة اخرى) لاعب مهم وبشكل متزايد في المنطقة. غير ان شدة الصدع الشيعي – السني في مرحلة ما بعد صدام، والذي بدأ يتكشف خلال المرحلة الماضية وتأثيره بالنسبة لنظام الدولة في الشرق الاوسط، تبقى مسألة محل نظر ومتابعة.

كذلك ما تؤكده هذه الدراسة ان اعادة تنظيم بين الدول وبعض القوى الفاعلة من غير الدول وفقا للخطوط الطائفية والواضحة في الوقت الحاضر، ستصبح اكثر وضوحا وأهمية في السياسة الاقليمية في الشرق الاوسط على المديين القصر والمتوسط.

يُعتقد ان تجزئة العراق تتعزز بطرق واشكال مختلفة داخل دول الشرق الاوسط، وان هناك مشاكل مشتركة ترتبط بكل الدول العربية، وبالتالي سيتوجب على تلك الدول التعامل معها منها: ان الدول التي يحكمها قادة سُنة، سينظر للشيعة فيها بالغالب على انهم عدوا (ايديولوجيا) للدولة وتهديد للاستقرار الداخلي. وهذا يحل في داخل دول مل لبنان والمملكة العربية السعودية والبحرين وحتى الكويت، ومن المرجح ان يظهر الانقسام بشكل واضح على انه راع بين “الحُكام” و”المحكومين المظلومين”، كما وقد شوهدت امثلة حديثة لبنان. ان مستقبل العلاقات الشيعية – السنية داخل دول الشرق الاوسط يتحدد بشكل كبير بفعل التطورات في العراق، وايضا سياسات ايران والولايات المتحدة في المنطقة. الولايات المتحدة، الهيمنة الاقليمية، تلعب بالفعل دورا مركزيا في تعزيز الفجوة الطائفية بين الدول وحتى داخلها سواء عن  قصد او من غير قصد. وادناه ابرز العوامل التي ادت الى اعادة ظهور الانقسام الطائفي الحالي على المستوى الاقليمي.                          

  • 1 / الصدع الطائفي في العصر الحديث:

ويبدوا ان ايران، والمملكة العربية السعودية، العراق، لبنان وسوريا، والى حد اقل، الاردن ومصر والممالك العربية الخليجية الصغيرة في الخليج العربي تنزلق الى صراع سني – شيعي، الصراع الذي ظهر من جديد خلال العقود والسنوات القليلة الماضية بنمط غير مسبوق، ولكن له جذور تمتد لآلاف السنين، كيف ولما يحدث هذا؟

الكثير من مصادر الصراع الطائفي الحالي تعود الى بداية الاسلام والى “الانشقاق الكبير” اذ تم فصل الشيعة عن الاسلام السائد آنذاك . وفي البداية كانت المسألة سياسية واصبحت في وقت لاحق مسألة تتعلق بالايمان والمعتقد. اذ تم تقسيم المجتمعات السنية والشيعية لأسباب سياسية ومن ثم تفاقمت الفجوة بينها (المجتمعات السنية والشيعية) عبر قرون من الحروب والاقتتال والقمع السني للشيعة. فالشيعة كانوا دائما على هامش السلطة في الشرق الاوسط وكان لذلك أثره البالغ في العلاقة بين فرعي الاسلام وذلك عبر عقود عديدة وساد ذلك الوضع على مر التاريخ مع استثناءات قليلة. وعلى الرغم من، وبسبب تاريخهم في المعاناة، باتت الخاصية النموذجية لاتباع المذهب الشيعي وطموحهم هي فكرة (اعادة) كسب السلطة. ولد المذهب الشيعي اساسا كطرف في صراع على السلطة ولم يفقد ابدا هذه الخاصية او هذا الطابع الاصلي. ومن منظور تاريخي، يبدوا ان ازالة صدام حسين قد سمح للشيعة اخيرا – بعد قرون طويلة –  من العودة الى السُنة والوجود في السلطة.

ما هو ضروري لفهم الهويات الطائفية الحديثة، وفقا لـ   Vali Nasr ، ليس عبر ما حدث في القرن الاول للاسلام، ولكن تم تشكيلها (اي الهويات) في العصر الحديث وفقا للقاعدة التي عرفها كل من السنة والشيعة وهي ” من لديه ومن ليس لديه، ومن الذي يجلس على الطاولة ومن الذي لا يستطيع”. كما يرى نصر بأن القومية العربية تظهر تحيزا متأصلا ضد الشيعة وان “الورقة الطائفية” عادة ما يلعبها السنة وليس الشيعة. والشيعة دائما كانوا “يريدون الانتماء”. لكنهم كانوا مستبعدين من السلطة دائما. مع ذلك، من المهم التأكيد انه على الرغم من ان التاريخ وحدة لا يفسر السياسات المعاصرة، ولا حتى الهويات في دول الشرق الاوسط المسلمة، الا انه يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار لان صلات العصر الحديث بالماضي لها اهمية رمزية كبيرة في الذاكرة الجمعية لمختلف الجماعات الطائفية.

وبالنسبة لمعظم عقود القرن العشرين، تميزت العلاقات السنية – الشيعية بالتعايش السلمي نسبيا في الشرق الاوسط. وفي معظم القرن العشرين ، كان هناك تهديد مشترك للإسلام من العلمانية في شكلها الامبريالي ، التي قادت الى الانسجام الشيعي –السني في المنطقة. قاتل الشيعة والسُنة سوية ضد حكم الاستعمار البريطاني للعراق في عام 1920، واصطفوا جنبا الى جنب ضد اسرائيل بعد عام 1948. ومع ذلك، وعلى الرغم من احتضان الشيعة للقومية العربية والعراقية، استمر الترحيب المتوجس بالشيعة العراقيين من قبل القادة السُنة.

نهاية القرن العشرين اختلف الامر، وفقا لخبراء، اذ اشرت نقاط صدام عديدة بين الطائفتين. فالتطورات القليلة الرئيسة ساهمت في اعادة ظهور الانقسام الطائفي في القرن الواحد والعشرين. ومن بينها: الثورة الايرانية عام 1979الحرب العراقية الايرانية 1980-1988، حكم دام حسين للعراق، وخاصة في عقد التسعينيات من القرن العشرين، واخيرا الغزو الاميركي للعراق عام 2003.

قلقت الدول العربية منذ عام 1979 – ان لم يكن دائما – من ان تبح ايران قوة اقليمية. لقد كانت الثورة الايرانية بالتحديد هي التي شجعت الشيعة في الشرق الاوسط وخاصة في لبنان، والتي عززت تجاه الفاعلية التي استمت الى اليوم. وهذا هو السبب في تمويل حزب الله، على سبيل المثال – كنتيجة للاعتبارات الجيواستراتيحية الايرانية – ودعمه عسكريا وماليا من قبل ايران منذ ذلك الحين. مثال آخر هو الطريقة التي يصور بها المرشد الأعلى لإيران بعد الثورة، آية الله الخميني ، نفسه على أنه الزعيم الروحي للعالم الإسلامي كله، وليس فقط الشيعة. وناشد الشارع العربي السني بالطريقة ذاتها التي فعلها زعيم حزب الله الحالي حسن نصر الله بعد حرب لبنان الثانية عام 2006. وهذا قاد القادة السنة في المملكة السعودية ودول اخرى في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي لتأكيد الانقسام الطائفي والعرقي بواسطة توظيف الخطاب المضاد للشيعة. ومن جانبها، بدأت السعودية آنذاك بالاستثمار في الحركات الاولية والتي اسهمت في انتشار الحركات الاسلامية السلفية الراديكالية، ومنها تنظيم القاعدة  – الذي تحول في وقت لاحق ضد السعودية والغرب وعدوهم القديم الشيعة.

1-2 الحرب في العراق: ميل النطاق الاقليمي

مكن سقوط نظام البعث في العراق الشيعة من الظهور كقوة سياسية مؤثرة في العالم العربي. فالحرب في الحقيقة أصل لبعد جديد في توازن القوى، اسميا بين الشيعة والسنة في الشرق الاوسط. فعدم التوازن كان موجود تحت السطح دون ان يلحظه صانعوا القرار والمحللون الغربيون.

فضلا عن ذلك، في السنوات الاخيرة، تساءل العديد عن ما حدث للامة العراقية- اذا كانت موجودة الا، كيف استبدلت القومية العراقية بسرعة كبيرة بالطائفية؟. وفقا لـ جارس تونسنك Chris Toensing، “فان العراق بعد انظام الملكي قدم اوضح مثال للطائفية التي تنكرت بلباس القومية العلمانية، والقومية العربية التقدمية”. وكان هذا هو الحال في العراق في ظل حكم حزب البعث وحتى قبل ذلك. وكما أظهرت دراسة أجراها معهد هدسون ، فإن الوضع السيء لحقوق الإنسان يميل دائما إلى الترابط مع التعصب الديني. لاشك انه على الرغم من ان حالة نظام دام حسين لا تعكس الكثير من الاعتبارات الطائفية، بل الاعتبارات والولاءات القبلية، الا ان الحال كان كذلك بالنسبة للشيعة.

صوّر صدام حسين الحرب العراقية الايرانية على انها معادية للفرس بشكل اساس وليس جزء من الصراع مع الشيعة. خلال الحرب ولثمان سنوات، بدلا من استخدام الخطاب الطائفية، استخدم صدام خطابا عرقيا في ازدرائه المستمر للفرس واستخدم الخطاب القومي العربي لأجل كسب دعم العالم العربي السني، ولأجل المحافظة على ولاء الشيعة العراقيين للعراق. ومع ذلك، كان الشيعة العراقيين أُدرج ضمنيا في جانب العدو، وكان دام يعاملهم كخونة محتملين، نتيجة لذلك، لم تؤثر الحرب على العلاقات بين ايران والعالم العربي فحسب، بل ايضا على العلاقات الطائفية داخل العراق.

خلال الحرب العراقية – الايرانية وخاصة  بعد حرب الخليج 1991، حدث تحول في حكم صدام حسين، وتميز هذا التحول بالتحرك من الخطاب القومي العربي الى القومية الاسلامية. وفي الوقت نفسه، وعلى نحو متناقض،  تميز عقد التسعينيات من القرن الماضي بسياسات قاسية مناهضة للشيعة ومعادية للأكراد. وكان المحفز لهذه السياسات هو الانتفاضات الشعبية في شمال وجنوب العراق، واللذان شجعت عليهما الولايات المتحدة بعد نجاحها في طرد الجيش العراقي من الكويت. الانتفاضة في المناطق الجنوبية الشيعية قُمعت بوحشية من قبل الجيش وتلتها عمليات قتل منهجية لرجال الدين الشيعة العراقيين. وكان الشعور بالاضطهاد هو الغالب في جنوب العراق ذو الاغلبية الشيعية لان الولايات المتحدة أنشأت ملاذا آمنا في المناطق الكردية فقط واستمروا بوتيرة متفاوتة حتى حرب الخليج الثانية.

أخيرا، قادت الولايات المتحدة غزو العراق عام 2003 ازاحت نظام البعث السني وجلبت الاغلبية الشيعية الى السلطة، على الرغم من ان الحكم يستند على تقاسم السلطة اسميا. ولم تكن هناك خطة واسعة النطاق لترتيبات ما بعد الحرب في علاقات السلطة من قبل الولايات المتحدة، وظهرت العديد من التوجهات مخالفة للتوقعات، تبين ان الشيعة غير راغبين بشدة في تشكيل قطب معادٍ لايران تماما، وان السنة لم يكونوا راضين عن دورهم الجديد كأقلية محرومة. فضلا عن ذلك ، وجدت إيران نفسها في موقف إقليمي قوي لم يسبق له مثيل ويقال إنه تعزز باستمرار من خلال المبالغة في تقدير هذا الموقف وهذا التأثير من قبل الولايات المتحدة.

ايضا جلبت نهاية عهد دام حسين، نهاية ثلاثة عقود من تبنيه قومية حزب البعث العراقية. ويبدوا اليوم ان البلد يتألف من “قبائل بدون اعلام”. وسعت القاعدة وجماعات مشابهة الى تأليب السنة ضد الشيعة عن قصد، وأضطر الاشخاص الذين يبحثون عن الامان في وسط القتال الطائفي الى اختيار الجوانب. واشار اغلب الخبراء الى ان تفجير مرقد الامامين العسكريين ع كنقطة التحول التي اشرت زيادة مهمة في الانقسامات الطائفية والعداوات في العراق. واشار آخرين الى ان العراق عام 2003 كان في الحقيقة عراقا طائفيا، وهذا يحمل حقيقة انه اعتقاد الولايات المتحدة انها حررت العراق، هو في الحقيقة حررت الشيعة العراقيين. وقد اُستبدلت الايديولوجيات العراقية الفاشلة – الدولة والقومية العربية – بالهويات العرقية والطائفية المتشضية، والهويات القبلية.  

المؤرخون مغرمون بتذكيرنا بانه لا يوجد شيء اسمه الشعب العراقي. اذ عملت فرنسا وبريطانيا على تشكيل العراق من بقايا الامبراطورية العثمانية وتم انشاء دولة مصطنعة تضم ثلاث مجموعات عرقية ودينية: الاكراد في الشمال، والسنة في الوسط، والشيعة في الجنوب. لذا اذا كان بإمكان المرء ان يتحدث عن دولة عراقية، فليس من الممكن حتى الآن التحدث عن امة عراقية. اذ تضم حدود العراق الحالية مجموعة متنوعة من الشعوب التي لم تقم بعد ملتحمة في مجتمع سياسي واحد يتمتع بحس مشترك بالهوية.

  • 3 الحرب في لبنان: دعوة اليقظة للدول السنية

في كثير من النواحي، اثبتت الحرب اللبنانية الثانية عام 2006 انها حدث حاسم في ظهور التوترات الشيعية السنية الاقليمية الحالية. كما بدت الحرب، في المنطقة وخارجها، كدعوة لليقظة والحذر من الصدامات الطائفية. وفي الحقيقة، عكست الحرب صورة مصغرة للفجوة الشيعية السنية المتصاعدة في المنطقة.

ووفقا لغاري سيك Gary Sick فان حرب حزب الله ضد اسرائيل كان ينظر اليها في المنطقة وخارجها كامتداد للقوة الايرانية وتأثيرها في المنطقة او حتى كمعركة غير مباشرة بين الولايات المتحدة وايران. كما ان الحرب، اظهرت الفجوة بين السنة والشيعة لبنان، وبشكل متزايد في جميع انحاء الشرق الاوسط.

الفصل الثاني: توضيح صعود الشيعة                                                                                             

..ورة العلاقات الطائفية داخل الدول، وبشكل رئيس العراق ولبنان، وعلى مستوى الاقليم في الشرق الاوسط تميل الى التبسيط في الغالب وحتى اسيء فهمها من قبل الغرب. ونتيجة للحرب في العراق والصعود الاقليمي لايران والعقوبات وما ترتب عليها من تداعيات، هي تفسير ثنائي للعلاقات الطائفية التي غالبا ما يدفع بها الغرب تجاه العراق في مرحلة ما بعد صدام، كما يدفعون به بشكل متزايد داخل وخارج الشرق الاوسط على حد سواء. وقد ازدادت اهمية هذا الانقسام الديني – السياسي في العلاقات بين الدول منذ عام 2003، ولكن خلال السنوات القليلة الماضية يبدوا ان السنة والشيعة اصبح لديهم اهمية بالسياسات الاقليمية. ونقطة الخلاف الرئيسة الاخرى التي تدور حول تلك الدول المذنبة بأثارة العداوات والانقسامات الطائفية داخل الدول الضعيفة في المنطقة كالعراق، لبنان، وفلسطين ودول اخرى بشكل عام. وما يثير الاهتمام نفسه هو كيفية تطبيق البلدان للخطاب الطائفي على المستوى الاقليمي.  

وبالتالي ، فان السؤال الذي يطرح نفسه: هل يتعزز الصراع الطائفي الاقليمي من اعلى الى الاسفل من قبل الولايات المتحدة والحكومات السنية لمنطقة الشرق الاوسط؟ ام ان ايران تحقق استفادة من علاقاتها مع الشيعة في العراق، ولبنان، وسوريا واماكن اخرى لتوسيع نفوذها في المنطقة؟ ام هو صراع من الاسفل الى الاعلى طويل الامد بين الهويات التي عادت الى الظهور على المستويات الاجتماعية والسياسية بسبب الراع في العراق؟ تقدم النظريات والمناهج الفلسفية والنظرية المختلفة للعلاقات الدولية ثلاث اجابات مختلفة على هذه الاسئلة. وهذه النظريات تم التركيز عليها في هذه الدراسة، وهي: المدرسة البنائية، المحافظين الجدد، والواقعية الجديدة.

تميل تحليلات الخبراء التي تسعى لتوضيح الانقسام السني – الشيعي المعاصر على المستوى الاقليمي، الى الاعتماد على واحدة او اثنين من مقاربات او نظريات العلاقات الدولية. التفسيرات التي تؤكد على الطابع العابر للحدود والرمزية التاريخية للهوية الشيعية تتبع النظرية البنائية. بالاضافة لذلك، تسليط الضوء على اهمية الايديولوجية الشيعية الثورية للجمهورية الاسلامية في ايران بشكل عام عادة ما تتضمن مبادئ للمحافظين الجدد، في حين ان التفسيرات التي تشدد على حاجة الدول الى الانخراط في توازن قوى، وحماية مصالحها الوطنية وتشكيل تحالفات تذهب بأتجاه الواقعية الجديدة. في تفايل الفصول القادمة، طرق تحليلية مختلفة لفهم نفس التطورات السياسية الحالية في مرحلة ما بعد صدام في الشرق الاوسط وانتقادات وجهت لكل من تلك الطرق. وهذه المناهج او الطرق الخاصة بهذا الموضوع هي الاكر شيوعا الا انها ليست شاملة.

يعتقد البنيويون ان العلاقات بين الدول تتوقف على الطريقة التي يتم اعتمادها لبناء الهوية، الهويات فوق القومية والعابرة للدولة، مثل الهوية الشيعية، التي تتنافس مع هوية الدولة في الشرق الاوسط. هذه الهويات ايضا تنتج حركات عابرة للدولة وتحد من السلوك المرتكز على مؤسسات الدولة. لذلك، يؤكد خط التفسير البنائي على منطق من اسفل الى اعلى يسيطر على ادعاء احياء الشيعة.

وكتمييز لهذ الفهم، تشدد تفسيرات المحافظين الجدد على اهمية الهوية وترى بالمثل وجود الهوية الشيعية فوق القومية. الا انهم (المحافظين الجدد) يضيفون ان ايران تعمل بقوة للترويج لمصالحها الاقليمية من خلال الدعوة الذكية لهذه الهوية عبر اقامة الروابط توفير التمويل المباشر للجماعات الشيعية عبر الشرق الاوسط. ويزعمون ان ايران تستخدم الهوية الشيعية لأجل تعزيز العقيدة الثورية والتطرف في الشرق الاوسط. كذلك ينظر المحافظين الجدد الى ان الديمقراطية وتغيير النظام باعتبارها الحل الوحيد لمنع الحروب وتجاوز عدم الاستقرار في المنطقة، ومن ثم ينظرون الى ايران وحلفائها على انهم العقبات الرئيسة في طريقهم نحو بناء السلام الديمقراطي.

يبني الواقعيون الجدد تحليلهم على وجهة نظر الدولة المركزية الواضحة للعلاقات الدولية في الشرق الاوسط. وفي الحقيقة، في هذه المنطقة السمات الاساسية لتصبح الواقعية الجديدة اكثر وضوحا. فالدول تقوم بأفعالها على اساس وجدها ( البقاء اساسين النظام الحاكم او النخبة والامن) مما يؤدي الى نقص عام في الثقة فيما بين مكوناتها. تسعى الدول الى تعظيم قدراتها النسبية ، ويفعلون ذلك على مستويين داخليا وخارجيا. وطبقا لمنطق الواقعية الجديدة، فان حالة الفجوة السنية الشيعية المتطورة على مستوى الدولة تكون سياسة مخططة، والى حد ما تتعلق تتعلق بتكتيكات التوازن الخارجي. جوهر الموضوع، تستخدم الدول الطابع الطائفي (او المناهض للطائفية) لغرض صياغة وتشكيل التحالفات، ولغرض احتواء اعدائهم. اجراءات الولايات المتحدة لاحتواء ايران هي مثال على كيفية الاستخدام المهيمن للعقوبات الاقتصادية وتهديدها باستخدام القوة العسكرية من اجل وقف القوة الصاعدة التي تتداخل مصالحها مع المصالح الاميركية.

الواقعية الحقيقية هي الأفضل لتفسير ما يحدث على المستوى الإقليمي. وفي المقابل، البنائية، لها مزايا في توضيح السمات الرئيسية للانقسامات الطائفية وظهورها داخل دول الشرق الأوسط – لا سيما في العراق – وإلى حد ما على حدود الدولة، بين العرب والمجتمعات المسلمة. وأخيرًا، تفسيرات المحافظين الجدد مفيدة لأنها تسلط الضوء على السياسة الأمريكية (الحالية) في المنطقة.

كما يلاحظ هيبنوش، يجب ان تتضمن كل تحليلات الشرق الاوسط فهما لديناميكية سيادة الهوية في النظام الاقليمي. وهو يقارن بين القوة التفسيرية للنظرية البنائية والنظرية الواقعية في حالة القومية العربية، ويقول:

ويظهر التحليل البنيوي، ان معايير القومية العربية المستمدة من الهوية المشتركة العابرة للدولة اصبحت مهمة في تشكيل السلوك العربي  كتوزيع للقوة المادية التي اكدتها الواقعية. التناقض بين المعيار العالمي للسيادة – التي تكون فيها مصالح الدولة موضوعا للسياسة الخارجية – والمعايير الاقليمية للعروبة (او، الى حد اقل الاسلام) التي تتوقع ان تتوافق هذه المصالح مع قيم مجتمع الهوية العابرة للدولة، امسكت بنخب صناعة السياسة الخارجية العربية بين ادراك الدولة وادراك الامة. وبالنسبة للدول الاكثر طموحا، فان الهوية فوق الدولة قد اتاحت الفرصة لتأكيد القيادة الاقليمية من خلال دعم القضايا القومية العربية او الاسلامية.  

كل من التفسير الذي يؤكد على اهمية الهوية (التاريخية)، والتفسير الذي يركز كثيرا على اهتمامات السلطة في العصر الحديث، يمكن تطبقهما بطريقتين: الاولى، كأداة تحليلية لفهم المنطق الجديد للسياسات الاقليمية، والثانية كأداة لصنع السياسة. في كلتا الحالتين، فان الحديث حول الانقسام الشيعي – السني او صعود الشيعة، كأصول اجتماعية بنيوية، هو واقع اجتماعي. وينطبق الشيء نفسه على الهويات فوق الوطنية. لذلك ، الفرضية الـصحيحة هي ان الطائفية لديها القدرة لتـصبح “المعيار القادم” في الشرق الاوسط، وان القومية العربية والاسلام قد يخسران الشيء الكثير من جاذبيتهما الباهتة. ومع ذلك، فأن ذكر هذا لن يكفي وحده لفهم ديناميكيات الانقسام الشيعي – السني.

كلك فان العلاقات السنية – الشيعية هي – وستكون دائما – متأثرة ومتشكلة من قبل المصالح الوطنية لنخب السياسة الخارجية والفاعلين الاخرين. وستستمر النخب في استخدامها للتلاعب والحصول على الدعم العام. وفي الواقع، الطائفية هي الاداة السياسية التي لا تستخدمها الولايات المتحدة فقط، بل ايضا النخب السنية في المنطقة لأجل التعامل مع ايران كقوة اقليمية وعلاقاتها مع الفصائل الشيعية المختلفة والسكان الشيعة في ارجاء المنطقة. المملكة العربية السعودية، كمثال واضح، تؤكد وضعها الاقليمي المتنامي من خلال توظيف كل هذه المعايير (الاسلامية والى حد ما القومية العربية) في خطابها السياسي الخارجي ، وتستخدم الخطاب السني كخطاب سياسي خارجي غير رسمي. ايران، بدورها، تطبق الاسلوب والنبرة الاسلامية في سياستها الخارجية الرسمية، وفي الوقت نفسه، تشارك في تعزيز الروابط بين الشيعة والدعم الضمني للشيعة في جميع انحاء الشرق الاوسط. على الجانب الآخر، في العراق، القيادات الشيعية علي السيستاني ومقتدى الـصدر يدعون الى الوحدة بين السنة والشيعة في العراق، وواضح انها لمصلحتهم الخاصـة ايضا.

2-1 البنيوية والهوية الشيعية المنبعثة:

طريقة واحدة لفهم الاختلافات الطائفية المكتشفة حديثا وهي – على طول افكار انـصار النظرية البنيوية – انها تستند اولا وقبل كل شيء على هويات الجماعات الاجتماعية المتضاربة. وتؤكد هذه الانواع من التفسيرات على الطابع العابر لحدود الشيعة كمجتمع. ويشددون على اهمية العلاقة التاريخية القهرية بين السنة والشيعة في تشكيل هذه الهوية، الا انهم يسلطون الضوء على انها ذات طبيعة سياسية واجتماعية واقتـصادية اكثر منها دينية. وبعبارة اخرى، هم يرون ان التوتر القديم بين الطائفتين يعود في المقام الاول الى السلطة السياسية اكثر منه الى مسائل عقائدية. ومع ذلك، ما هو مهم هم ان شعور الشيعة بالاضطهاد والتأكيد على الشهادة من اجل الدين لاينبع من التجربة التاريخية فحسب ، بل من التجارب الحديثة ايضا.

على الرغم من أن الهوية الشيعية الحديثة قد تشكلت بشكل كبير في العصر الحديث، إلا أنها تعتمد بشكل كبير على الماضي. المظلومية هي احد المفاهيم المركزية في المذهب الشيعي و” استبدال” الامام علي ع في اختيار الخليفة الاول واستشهاد ابنه الامام الحسين ع لاتزال اساسية في مواقف الشيعة تجاه السنة. ومن جانبهم، اعتبر الحكام السنة ان الشيعة طبقة اقل او الطبقة الدنيا في المجتمع، وكمسلمين مُضَلَلَين عبر التاريخ، بينما يدين المتشددون، مثل رجال الدين السلفيين، الشيعية على انها بدعة. ويستخدم السنة العرب ألقاب مثل “الفارسيين” و”الصفويين” بحق الشيعة حتى في أيامنا هذه.

ووفقا لفالي نـصر، الخبير الشيعي البارز في الولايات المتحدة، ثلاثة عوامل ساهمت، وتسببت فيما يدعى بـصعود الشيعة: تمكين الشيعة في العراق، وما ترتب على ذلك من تمكين الشيعة في المنطقة (في لبنان، السعودية، الكويت، والامارات العربية المتحدة)، و”صعود ايران”. وهذه العوامل الثلاثة يدعمون بعضهم البعض ويوفرون صوتا اقوى للشيعة في السياسات الشرق اوسطية.  

كذلك نوح فيلدمان ينسب إلى آية الله روح الله الخميني اثنين من التغييرات الهامة ذات الصلة بالدينامية الحالية في العالم الشيعي”. اولهما: حوّل رجال الدين إلى ممثلين سياسيين وبالتالي حولوا الشيعة إلى قوة سياسية، وهذا على عكس الطبيعة الهادئة التي تنسب للشيعة تاريخيا. ثانيهما، عزز الخميني من وضع اية الله الاعلى مرتبة باعتباره اهم مدر للحكم في ” العالم الشيعي”، على الرغم من ان جميع كبار العلماء لم يتفقوا مع هذا التوجه حتى في المرحلة الحالية، بما في ذلك اية الله السيستاني.

اكد العديد من الباحثين الغرب على الطبيعة الديمقراطية للخيال الشيعي مقارنة بالإسلام السائد. ووفقا لنكاش Nakash ، لأكثر من قرن من الزمان، كان رجال الدين الشيعة في الشرق الاوسط يدافعون عن الحكم البرلماني والحكم العادل، وكتب نكاش:

على عكس السُنة، الذين يتوقعون من الناحية النظرية أن يطيعوا حكامهم وأن يتحملوا حتى الطاغية من أجل تجنب الصراع الأهلي وأن يحافظوا على تماسك الجالية المسلمة، فإن الشيعة لا يعترفون بأي سلطة على الأرض باستثناء سلطة الإمام، وفي غياب الامام لا يمكن ان يكون هناك انسان ذو سلطة ولدية شرعية كاملة، في حين ان رجال الدين السنة عادة ما يتم تعينهم ويدفع لهم من قبل الحكومة. وفي سياق التنافس على السلطة السياسية، فكرة الشيعة للحاكم تفسر لماذا في العراق في مرحلة ما بعد صدام – الذي يفتقر ، مثل معظم الدول العربية، الى مجتمع مدني علماني- كان رجال الدين الشيعة اكثر  صراحة في الدعوة إلى إجراء الانتخابات وحكومة تمثيلية. وفضلا عن حقيقة ان الشيعة يشكلون اغلبية ديموغرافية في البلاد، الامر الذي من شأنه ان يكون مفيدا لهم في ايجاد نظام سياسي ديمقراطي، يتوقع نصر ان يظهر توازن جديد للقوى في المنطقة ستغير المنطقة ثقافيا وتحول دول المنطقة الى دول تعددية اكثر ، مما يسمح بتوزيع اكثر مساواة للسلطة.

لقد دأب الشيعة في العراق والبحرين ولبنان وغيرها على المطالبة منذ عقود من الزمن بمزيد من التمثيل السياسي والحقوق. ومع ذلك، فان حقيقة ان الشيعة يشكلون اغلبية (نسبيا) في هذه البلدان، غالبا ما يتم تجاوزها من خلال التذكير بالتأثير الايراني على السكان الشيعة في هذه البلدان. في الواقع، الهوية الشيعية لاتعني التحالف مع او الولاء لايران. وقد أشار راي تاكيه Ray Takeyh الى أنه بعد الثورة الإيرانية، لم تسعى المجتمعات الشيعية المحلية في دول الخليج لأن تصبح تابعة لإيران أو حليفتها. وبدلا من ذلك، انتفعوا من التهديد الايراني لمحاولة اعادة ترتيب اوضاعهم السياسية في بلدانهم. في المملكة العربية السعودية في تسعينيات القرن الماضي، أكد مضاوي الرشيد أن القادة الشيعة المحليين أكدوا على الأهمية المركزية لأصالة الثقافية الشيعية، وهي هوية متجذرة في الثقافة والتاريخ العربيين، إلى جانب الدعوة الى حقوق الإنسان واحترام التنوع الديني والثقافي. في المرحلة الحالية، يركز شيعة المملكة العربية السعودية على الهوية الوطنية بسبب – ووفقا لتقرير مجموعة الازمات الدولية – ادراكهم ان بقاء مجتمعاتهم يعتمد على نظام آل سعود، رغم انه نكاش Nakash  يرى ان غزو العراق عام 2003 اعاد تنشيط الشيعة السعوديين ، والذين انضموا الى سعوديين آخرين في الدعوة الى الاصلاحات.

في هذه اللحظة، وطبقا لنصر، تدفع الدول السنية سوريا وحزب الله ، فضلا عن الطوائف الشيعية في الدول التي يهيمن عليها السنة، نحو احضان ايران. ويرى نـصر، في سياق اكثر واقعية، ان الانشقاقات الداخلية في ” التحالف الشيعي” (على المستوى الاقليمي) ستظهر فقط عندما لا يكون هناك عدو مشترك. وهذا يعني ان غياب – التحالف المناهض لايران بقيادة الولايات المتحدة  او حتى تحالف سني مضاد لايران – سيؤدي الى زيادة الاختلافات بين الشيعة العراقيين والشيعة العرب والشيعة الايرانيين، الامر الذي يـصب بالتأكيد في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط من وجهة نظر سياسية.

يعارض العديد من الخبراء “نظرية الهوية الشيعية المنبعثة” كما هو موضح أعلاه. هم يشيرون الى حقيقة بأن الهويات الشيعة – كما هي السنية – على العكس من ذلك، مجزأة ومبنية على ولاءات لا يمكن التنبؤ بها. وهذا واضح جدا في العراق، وان فهم هذا يساعد على فهم السبب، وفقا لكثير من المراقبين، انه لا يمكن تكوين “كامل متجانس” على المستوى الوطني او الاقليمي على اساس طائفي.

وطبقا لبيتر هارلنك Peter Harling وحامد ياسين، ان وجهة النظر الشعبية للـصراع الطائفي في العراق على انه صراع على السلطة بين العرب السنة والشيعة. كما يظهر نقاش في الغرب حول ما اذا كان الشيعة العراقيون موالون للعراق او لايران. من ناحية أخرى ، أثار النقاش حول الصراع على السلطة حججاً معارضة تفيد بأن القومية العراقية لا تزال قوة أقوى من التضامن الشيعي.  

بما أن جوهر الهوية العراقية غير محدد ومعقد بشكل متزايد ، فإن الهويات الشيعية والسنية المحلية أصبحت أكثر تشتيتًا واختلاطًا مع الهويات القبلية، مثل هويات العشائر. وفقا هارلنك Harling و ياسن Yasin ، تدرك إيران هذا الامر ، وعلى عكس العديد من المطالبات ، لا تسعى ايران للفوز بالولاء المباشر بين شيعة العراق،  لكنها يعملون على مستويات مختلفة وبكثافة كبيرة لزيادة حجم التأثير بقدر ما تستطيع ، مع الأخذ في الاعتبار الهويات الجماعية المختلفة. وتشمل أساليب إيران إقامة روابط مع جميع الشيعة العراقيين (ليس فقط مع حلفائهم بل ايضا مع مقتدى الـصدر، على سبيل المثال)، وتوفر الدعم محدود للجماعات على المستوى المحلي ، مع توزيع الكتب المدرسية، والعمل من خلال قناة شعبية وهي قناة العالم، والاستثمار الاقتـصادي  لخلق صورة ايجابية لنفسها.

من ناحية اخرى، لم يكن واضحا تماما قبل غزو العراق عام 2003 او حتى قبل ذلك، ما يشكل الهوية الشيعية العراقية. قبل بضع سنوات من الحرب، كتب تشارلز ترب Charles Tripp ” ليس هناك اكثر من سرد شيعي منفرد في السياسة العراقية في ظل وجود عراق واحد بحد ذاته” واشار تريب الى انه وعلى الرغم من ان الشيعة يشكلون اغلبية سكان البلاد، الا ان المختلفين والمعارضين كانوا من الشيعة. وقبلت المجموعة الشيعية والاسلامية بوضع ثانوي.

فضلا عن ذلك، من المهم أن نضع في اعتبارنا أن كل دولة عربية يحكمها السنة مع سكان شيعة هي حالة فريدة من حيث كيفية ارتباط سكانها الشيعة بالسكان والحكام السُنة والعكس بالعكس. ففي البحرين، على يشكل الشيعة غالبية السكان، الا انه في المملكة العربية السعودية يشكلون شريحة صغيرة ومجموعة ضعيفة سياسيا. وفي كلا البلدين، ترتبط المطالب والتطلعات الشيعية عمليا بالسياق المحلي. وفي لبنان، اصبح الشيعة قوة سياسية ديناميكية وقوية تشكل تحديا خطيرا للحكومة الموجودة. كذلك الشيعة اليمنيون، ومعظمهم من الزيديين، الذين لاتربطهم ص/لات بالهوية الى ايران والذين، مثلهم مثل الشيعة السعوديين والبحرينيين، يطالبون باهتمام من الحكومة القائمة فقط. وعلى وجه التحديد، بسبب تنوع وتشكيلة المجتمعات العربية الشيعية، من الصعب توقع ظهور تحالف سياسي عابر للدولة من بين الاحزاب والحكومات والجماعات والتجمعات الشيعية و، على العموم، سكان الشرق الاوسط في المستقبل. كما عبّرت عنه تارهالي Tirhalle، في إعادة صياغة ما اكده هيدلي بول:

مثلما لم يكن هناك انسجام طبيعي بين الطبقات العاملة في الين والاتحاد السوفيتي الشيوعيتين في سبعينيات القرن الماضي، يبدوا ان الاجابة على التساؤل الجوهري ومضمونه ما اذا كان المذهب الشيعي يجب ان يكون لديه مجموعة من القيم الدينية الثابتة او الهوية المرنة المُشَكلة من قبل الظروف والبيئات التي يعيش فيها الشيعة، تنـصرف الى النتيجة اعلاه وهي عدم توقع ظهور تحالف سياسي.  

في الحرب اللبنانية مع اسرائيل 2006، كانت الاستجابة الاولية للدول العربية السنية مترددة ولم تدين على الفور ترفات اسرائيل ضد حزب الله. وكانت الاهتمامات الطائفية المرتبطة بالمستويين المحلي والاقليمي واضحة هنا. خلال الحرب، اعلن شيخ السعودية انه غير جائز للمسلمين ان ينضمون او يدعون او يـصلون لحزب الله بسبب ترفات الحزب ضد اسرائيل. وحتى حكومات مر والاردن والعرية السعودية ادانت افعال حزب الله . على الجانب الاخر، تعهدت جماعة الاخوان المسلمين المـصرية، على سبيل المثال، بدعم حزب الله.

الدعم السني الشعبي للقيادات السياسية الشيعية في المنطقة توضح بأن هويات الجمهور العربي لا تتبع بالضرورة دائما الانقسام الطائفي الصارم (الشيعة مقابل السنة)، ولا حتى التمييز العرقي (الفارسية مقابل العربية). والهويات في العالم العربي هي أكثر تعقيدا مما هو مشار اليه هنا، والعراق واحد من أوضح المؤشرات على ذلك. الأهم من ذلك، فان هويات “الجماهير” ليست مساوية للهويات التي تم إنشاؤها والمحافظة عليها من قبل النخب السياسية – سواء كانت وطنية أو فوق وطنية أو عرقية أو قبلية أو طائفية.

2-2 المحافظون الجدد ونظرية المواجهة  

على الرغم من ان التفسيرات التي تنبع من المحافظين الجدد كمدرسة فلسفية من ناحية، وكأيديولوجية لادارة الرئيس جورج دبليو بوش من ناحية اخرى، يتم ابعادهما عن بعضهما البعض ، الا انهما يشتركان في العديد من الاراء الشائعة في تفسيرهما للـصراع الطائفي الذي ظهر في الشرق الاوسط الذي اُكتشِف حديثا عقب غزو العراق. القادة السياسيين الاكثر شهرة الملك عبد الله الثاني ملك الاردن والرئيس جورج دبليو بوش استخدموا الحديث الطائفي للدفاع عن مـصالحهم السياسية الخارجية. فقد عبر الملك عبد الله الثاني في كانون الاول 2006 عن قلقه من تحول الحكومة العراقية الى دمية بيد النظام الايراني. ووفقا له فان الحكومة العراقية المدعومة من ايران يمكن ان تؤدي الى ظهور هلال شيعي مسيطر من الحكومات والحركات الشيعية تبدأ من ايران الى العراق وسوريا ثم لبنان. وسوف يقوم الهلال الشيعي ايضا بتغيير توازن القوى التقليدي بين طائفتين اسلاميتين رئيسيتين، ويبرز تحديات جديدة لمـصالح وحلفاء الولايات المتحدة الاميركية. والادارة الاميركية آنذاك شاطرت ملك المملكة الاردنية هذه المخاوف التي ترى انها ترتبط بطموحات اقليمية لنظام ثيوقراطي ثوري رديكالي.

في وجهة النظر المواجهة هذه، اصبح ينظر الى النظام الثيوقراطي الايراني كأحد الاعداء الرئيسيين لمـصالح الولايات المتحدة في المنطقة، والقاعدة آنذاك هي العدو الآخر، والنظام الايراني هو المسؤول عن التحريض لإحياء الشيعية الاقليمية المتطرفة. وترى هذه النظرية ان النزاع الطائفي في العراق وفي أماكن اخرى سوف يختفي او يتضاءل، على الاقل، اذا اجبرت ايران على وقف تمويلها للشبكات الشيعية والمليشيات والارهابيين داخل وخارج حدودها. كما ترى النظرية ان الحل المنطقي للمشكلة اما بالتدخل العسكري او بتغيير النظام في ايران.

الموجودون في واشنطن الذي اعتقدوا قبل عام 2003 ان استقلال الشيعة العراقيين عن الثيوقراطية الايرانية سيؤدي الى تشكيل دولة عراقية مضادة للقوة الايرانية، علقوا امالهم على اية الله العظمى على السيستاني المولد في ايران وهو رجل دين بارز في حوزة النجف والزعيم الشيعي البارز في العراق. ويعد مرجع تقليد ومدر منافسة في الاسلام الشيعي ولديه شعبية ليس فقط في العراق ولكن في ايران كذلك ويتبعه العدد الاكبر من المقلدين مقارنة بمراجع التقليد الآخرين. ومحور فكر اية الله السيستاني هو فل الدين عن السلطة السياسية، بمعنى انه يجب على رجال الدين ان يبقوا خارج السلطة وخارج نظام الحكم. وبعابرة اخرى ان السيستاني لا يتفق مع ولاية الفقيه، اي وصاية الفقه الذي يشكل أساس الحكم في جمهورية إيران الإسلامية.

حتى الوقت الحاضر، المؤسسة الدينية الشيعية عابرة للوطنية، والاماكن المقدسة في العراق تربط بين الشيعة كمجتمع عابر لحدود الدول المختلفة. ويؤكد مهدي خلجي ، عالم دين شيعي، ان المؤسسة الدينية الشيعية تحت سيطرة النظام الايراني بشكل اساس، وان النظام الايراني قد حولها منذ بداية الثورة الايرانية الى نظام سياسي وشبكة مالية تعمل بالضد من مـصالح الولايات المتحدة في المنطقة، والمرشد الاعلى الايراني علي خامنئي، على وجه الخصوص، سعى الى توسيع سيطرته على الشبكات الشيعية واستخدامها في سياساته المناهضة للغرب.

وتنبأ خالجي بان بعد السيستاني سيكون من المستحيل في العراق بالنسبة لمجتهد ان يحـصل على اي سلطة مهمة علي الحركات والاحزاب السياسية. وفي مرحلة ما بعد المرجعية في العراق، سيوسع خامنئي شبكة الشيعة في العراق عبر توفير التمويل لها وخلق شبكة عالمية واسعة تحت سيطرته. يدعي خلجي أنه بتدمير الدور التقليدي للمؤسسة الدينية، يحاول النظام الإيراني القضاء على أي إمكانية للتغيير السياسي من الداخل ، وتهميش المجتمع المدني والحركات الديمقراطية ، وبالتالي الحد من خيارات الغرب في التعامل مع الحكومة الإيرانية بشأن قضايا خلافية مختلفة. كذلك يحذر خالجي، أنه طالما استمرت الحكومة الإيرانية في تمويل هذه المؤسسة الدينية وأن المؤسسة تقوم بنشاطاتها السياسية، فإن الشرق الأوسط مهدد من قبل الأصولية الشيعية المتطرفة.

كذلك شرح نائب الرئيس الاميركي الاسبق ديك تشيني السياسة الايرانية في العراق بمنطق طائفي في خطاب له في معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى في تشرين الاول 2007:

التخوف الايراني من انبثاق مجتمع شيعي عربي مستقل وقوي في العراق يسعى للحـصول الى التوجيه الديني ليس من قم/ ايران، بل من مـصادر السلطة التقليدية الشيعية في النجف وكربلاء، يدفع النظام الايراني الى ابقاء العراق في حالة ضعف تمنع بغداد من تشكل تهديد لطهران. وبما يكون التهديد الاستراتيجي الاكبر الذي يواجهه الشيعة العراقيون هو تعزيز دورهم الـصحيح في الديمقراطية العراقية الجديدة، هو النشاطات التخريبية للنظام الايراني.

يذهب مايكل روبين في تفسيره للتحالفات القائمة بمزيد من التركيز على الجغرافيا السياسية – وبالتالي الواقعية الجديدة – ولكنه يحمل أيضًا نبرة المحافظين الجدد. ووفقاً لروبين ، فإن إيران لا تتمتع بأي قوة قائمة على الوضع الراهن ولديها التزام أيديولوجي بدعم الثورة. ويتوقع أن تختار الدول العربية إسرائيل في نهاية المطاف بدلاً من “الشيعة” لأن القدس لا تشكل تهديدًا للدول العربية – على عكس طهران – وسوف تتوافق هذه مع الولايات المتحدة وإسرائيل في وقت قريب من أجل مواجهة “التهديد الشيعي”. وفي الواقع، الدول العربية التي يحكمها السنة ” تحتضن فعليا المظلة الأمريكية”. ويقول:

“يدرك القادة العرب أن الدول الوحيدة التي دافع عنها الجيش الأمريكي ووفر لها الحماية في الشرق الأوسط هي الكويت والمملكة العربية السعودية. وان الامارات الخليجية الـصغيرة لا تتمتع بقدرات دفاعية بدون حماية الولايات المتحدة الاميركية. ولا يكاد توجد دولة في شبه الجزيرة العربية لا تمارس التدريب والمناورات العسكرية او ترحب بوجد اميركي صغير على اقليمها. ولكن مع دعم بعض اعضاء الكونغرس الاميركي لانسحاب القوات الاميركية من العراق، واقتراب ايران من اهدافها النووية، فأن اسهم ايران ترتفع على حساب الولايات المتحدة” .

الخبراء والسياسيون الاميركان يدعمون تغيير النظام في ايران بما فيهم مايكل روبن، ويعتقدون أن النظام الإيراني الثيوقراطي لا يفهم إلا القوة وأنه لا يمكن الوثوق به تحت أي ظرف من الظروف. وفي جهودها لردع ايران عن مواصلة طموحاتها النووية والاقليمية، فقد طبقت الادارة الاميركية الخطاب الطائفي ايضا. وهذا سلط الضوء فقط على الجزء الاشكالي من تطبيق الانقسام الطائفي في السياسات الاقليمية للولايات المتحدة، وتحديدا تجاه العراق وشيعة العراق. وكاد ان يكون محور الشيعة عدو للولايات المتحدة لولا دعم الاخيرة لحكومة نوري المالكي في العراق. وهكذا كان الحل المنطقي هو تصوير النظام الإيراني باعتباره شكلاً فاسدًا ومتطرفًا في المذهب الشيعية ورسم خطا بينه وبين الشيعة في العراق. وقد ذهب الرئيس بوش إلى حد مساواة النظام الإيراني مع القاعدة، في خطابه حول الحرب العالمية على الإرهاب في سبتمبر 2006، وأعلن أن الاثنين “يمثلان وجوهان لنفس التهديد.

رسم خط بين الشيعية “الجيدة” والشيعية “السيئة” ليست بالمهمة اليسيرة للادارة الاميركية خاصة في حالة العراق. ورأى مقتدر خان أنه مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العراق، التي أعلن عنها في كانون الثاني 2007، أعلن الرئيس بوش عمليا وبشكل متناقض عن حرب على الشيعة. وشمل ذلك ميليشيات المهدي وبدر وحتى الإيرانيين والسوريين وغيرهم، في حين كانت الولايات المتحدة حتى ذلك الحين تقاتل بشكل رئيس مع أهل السنة ضد القاعدة. أما بالنسبة للشيعة الإيرانيين – الذين يشكلون حوالي 90 ٪ من السكان – رسمت الولايات المتحدة ضمنًا خطًا بين النظام ومؤيديه من جهة، وجماعات المعارضة ونشطاء الديمقراطية من جهة اخرى. طريقة أخرى لتفسير التوترات الطائفية الحالية على المستوى الإقليمي في الشرق الأوسط وهي النظر إليها كأعراض للتغيرات في الوضع الجغرافي السياسي. منذ الثورة الإيرانية، نُسبت خصائص مختلفة في الغرب إلى الشيعة، مثل الإرهابيين والأغلبية/الأقلية المضطهدة، ومنارة للديمقراطية وتهديد للاستقرار الإقليمي.

تـصبح الـصورة اوضح عندما ينظر المرء في الغرب الى الشيعة في اطار زمني اطول. في عقد الثمانينيات من القرن الماضي اكتسب الشيعة شهرة دولية بعد ازمة الرهائن في ايران، وفي عام 1983 هجمات الثكنات البحرية، وتفجير السفارة الاميركية في بيروت وحتى الحرب العراقية الايرانية. وفي بداية التسعينيات، ظهرت صورة مختلفة، وهي صورة الشيعة جنوب العراق، الذين تعرضوا للاضطهاد من قبل صدام حسين بعد انقلاب فاشل شجعته الولايات المتحدة في نهاية حرب الخليج الثانية. و في عام 2003 ، قيل إن الرئيس جورج دبليو بوش “اعتنى بأعمال والده غير المكتملة” من خلال “تحرير” الشيعة في العراق. ثم ظهرت، صورة أخرى هي: العراق والشيعة المحررين كمنارة للتغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط. 

وعودة على الهلال الشيعي، أصبح، وبشكل متزايد، من الصعوبة تحديد مفهوم الهلال الشيعي بسبب المعاني المتعددة المرتبطة بهذا المـصطلح. وفي الواقع، فأن الهلال الشيعي هو مفهوم غامض للغاية، ويمكن استخدامه بطرق مختلفة بحسب اهتمامات المتحدث، على سبيل المثال، ينظر له على انه اشارة الى دول الشرق الاوسط ذات الاغلبية الديموغرافية الشيعية، او ينظر له على انه تحذير لجميع العرب من “العدو الفارسي”، او ينظر له كتعبير جماعي آخر لـ” الفاشيون الاسلاميون” او للدول الاسلامية “المتطرفة” والجماعات المعادية لمـصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وفي جميع هذه الحالات يكون استخدامه مضلل. وفي الواقع، انه ليس هلالا بالمعنى الجغرافي على الاطلاق، فالدول الوحيدة ذات الاغلبية الشيعية ويوجد الشيعة في السلطة هما ايران والعراق، وهناك عناصر من الشيعة في السلطة او مناصب قيادية في سوريا ولبنان. ومع ذلك، البلدان المسلمة ذات الاغلبية الشيعية مثل اذربيجان والبحرين لا تشكل كتلة سياسية مع ايران ومن غير المرجح ان تفعل ذلك في المستقبل والسبب اما لان الشيعة في هذه البلدان ليس لها مـصالح سياسية مع ايران او بسبب القبضة القوية للحكومات السنية على السلطة. لذا فأن تعريف الهلال الشيعي سهل ويمكن ان نقول عنه انه الكابوس من التأثير والنفوذ الايراني الزاحف الذي يهدد مـصالح هذه الدول السياسية والاقتـصادية والاستراتيجية في ” الشرق الاوسط الكبير”.

في الواقع، زعم البعض ان الولايات المتحدة تعزو الكثير من سلطة التأثير والنفوذ الى ايران. وهذا التـصور يخلق، ما اطلق عليه سيك Sick مجموعة من الظروف التي تجعل الولايات المتحدة توجه اللوم الى ايران على نحو متزايد على مشاكلها في العراق. اكد آفشين مولافي Afshin  Molavi بأن ايران ربحت حربين بعد احداث 11/ ايلول، لكن هذا كان ممكنا فقط بسبب ما فعلته الولايات المتحدة في الشرق الاوسط لتمكين ايران، بما في ذلك تعزيز ” اسطورة القوة الايرانية” من خلال المبالغة في القدرات العسكرية والاقتصادية لايران.

2-3 الواقعية الجديدة ونظرية الفائدة المشتركة

يزعم العديد من الخبراء والمحللين أنه بعد أحداث 11 ايلول، شرعت الولايات المتحدة مرة أخرى في مهمة “فرق تسد” ، وهذه المرة على نطاق إقليمي. والاحتمال الآخر هو رؤية سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج الفارسي لما بعد الحادي عشر من أيلول، بمثابة إعادة تعديل لاستراتيجية تجاه منطقة مضطربة ذات أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة. وكنتيجة للتطورات غير المتوقعة في العراق وتعزيز وضع القوة الاقليمية لايران، اتخذت استراتيجية الولايات المتحدة شكل جديد على الرغم من حقيقة ان مـصالحها الاساسية طويلة الاجل في الشرق الاوسط بقيت على حالها. وبالمثل، تعمل جميع الدول في المنطقة على تكييف استراتيجياتها مع الوضع الجيوسياسي الجديد و “صعود إيران”. كما تحاول الدول العربية وإسرائيل إيجاد طرق لتوازن قوة إيران، رغم أن المصالح الذاتية للدول العربية باقية في ذهنية حكوماتها دائماً.

ما يشار إليه في هذه الدراسة بأسم ” نظرية المصلحة المشتركة” هو مجموعة من التفسيرات التي تدل على أن الجغرافيا السياسية تقف وراء “طائفية” السياسات الإقليمية في الشرق الأوسط. هذه التفسيرات تميل أكثر نحو التفكير الواقعي الذي يرى أن الحديث او الخطاب الطائفي هو شكل من أشكال التوازن الخارجي للممثلين الإقليميين. وجوهر الفكرة هو أن إدارة بوش تبنت تحالفًا عربي إسرائيلي معادي لإيران يساعد على الاهتمام بجميع مصالح الولايات المتحدة الرئيسة في الشرق الأوسط وهي: احتواء إيران، والسيطرة على العراق، وحماية إسرائيل ، والحفاظ على استقرار سوق النفط  العالمي ودعم الهيمنة الأمريكية في المنطقة. ومن الواضح أن إقامة هذا النوع من التحالف هو في مصلحة الولايات المتحدة على المدى الطويل، لذلك لا توجد نظرية مؤامرة مخفية. مع ذلك،  يرى البعض في المنطقة أنها مؤامرة غربية للتضحية بالمصالح العربية لصالح مصالح إسرائيل. وبتعبير آخر، يُزعم أن إسرائيل ستظهر باعتبارها الفائز الإقليمي إذا ظهرت خطوط صدع طائفية أقوى بين دول المنطق. ومع ذلك، كما هو موضح، سيكون هناك فائزون آخرون على الأرجح، على المدى القصير على الأقل، إذا تحقق تحالف “المعتدلين” ضد “الراديكاليين”.

وطبقا لهذه الرأي،  فأن قلب الانقسام الشيعي السني على المستوى الإقليمي يكمن في منطقة الخليج الفارسي ويرتبط ارتباطاً مباشراً بالمخاوف الأمنية للاعبين الرئيسيين في المنطقة. وامن الخليج الفارسي هو – في الحقيقة- يتحدد بواسطة دوله الثلاث الكبيرة، ايران والعراق والسعودية وطبعا الولايات المتحدة الاميركية. وتفضل الولايات المتحدة ان تكون المملكة العربية السعودية قوية، لأسباب موضحة في ادناه، حيث العراق وايران هما يشكلان ثنائي المشاكل في المنطقة. كما ان العراق القوي ليس مرغوبا فيه بالنسبة للولايات المتحدة ولا اي دولة في المنطقة لأنه، تاريخيا، خاض العراق القوي حروبا خطيرة. ومع ذلك، فإن انهيار الدولة في العراق امر غير مرغوب فيه. ومن ناحية أخرى، فإن وجود عراق ضعيف يعني وجود إيران قوية، وهو ما يتعارض أيضاً مع المصالح الأمريكية في المنطقة.

تضمنت الخطة الأمريكية الأصلية بعد تحرير شيعة العراق، تشكيل حكومة في العراق تكون ملائمة لإسرائيل وان تكون بمثابة قوة توازن مع القوة الإيرانية. وكان الافتراض الأميركي هو أن رجال الدين الشيعة العراقيين لن يقبلوا ولاية الفقيه الإيرانية في العراق، وأنهم سوف يتحالفون مع الولايات المتحدة ضد “الأصولية الشيعية”. ولكن الذي حـصل، ان العراق بعد صدام حسين لم يتحول الى “عائق أمام التوسعية الإيرانية”، كما اعترف بذلك مدير وكالة المخابرات المركزية، مايكل هايدن، في كانون الثاني 2007، وان العراق احتفظ بعلاقات ودية مع ايران. في الوقت الذي تبدو فيه آفاق ان يكون العراق قوة إقليمية في المستقبل، أكثر قتامة من وجهة النظر الأمريكية، فإن استراتيجية الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على احتواء إيران.

وفي السياق الإقليمي الجديد، تدرك الولايات المتحدة أن حلفاءها العرب – باستثناء العراق – جميعهم دول يحكمها السنة. ويتشاطرون مصالح مشتركة، وهي منع إيران من توسيع قوتها الإقليمية عبر حلفائها الشيعة في المنطقة ومنعها من امتلاك سلاح نووي. وكما قال مارتن إنديك Martin Indyk ، ان الولايات المتحدة “تكيف نفسها الى الحد الذي تصطف فيه مع السنة ضد الشيعة في هذا الانقسام الطائفي الأوسع”. وطبقا لـ سيك Sick، فإن الكثير مما يحدث في المنطقة هو انعكاس لصعود إيران كقطب قوة إقليمية مهمة يعارض إسرائيل. كما يرى سيك ان الولايات المتحدة وفرت الظروف المثلى لايران لتعزيز قوتها بعدما ازالت نظامي طالبان والبعث المنافسين لايران وأنشئت حكومة شيعية في بغداد.

جميع الدول تبني أعداء خارجيين (وداخليين) وفقا لمصالحهم الاستراتيجية، والسياسة الإقليمية للولايات المتحدة هي واحدة من القوى الدافعة الى ظهور التحالفات والعداوات بين الدول في الشرق الأوسط. في هذا السياق ، هناك العديد من الحقائق التي تشير إلى أن ظهور الخطاب الشيعي السني على المستوى الإقليمي هو جزء من الاستراتيجيات الإقليمية لبعض اللاعبين الرئيسيين: الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل مصر وكذلك الأردن. الاستخدام المتعمد للخطاب الطائفي هو أولاً وقبل كل شيء استراتيجية تهدف إلى احتواء قوة إيران وطموحاتها الاستراتيجية، وترتبط وظيفته الثانية بمخاوف أمنية خارجية وداخلية أخرى للدول التي يقودها السنة في المنطقة.

قبل غزو العراق، لم يولي صانعو السياسات الغربيون أي اهتمام تقريبًا لمسائل التاريخ والطائفة. مثلا، ما إذا كانت النخبة الحاكمة في سوريا من الشيعة أو من السنة، من الشيعة العلويين أو من الاثني عشرية، وما إذا كان الشيعة العراقيون أكثر ولاء لوطنهم أم لإيران. لذا اصبحت الطائفية مصطلح إعلامي عصري وغالبًا ما يتم تبسيطه من أجل استيعاب جمهور واسع وتأييد في الغرب. وإن الأحداث التي ساهمت في النهوض الجيوسياسي الحالي لإيران، وخاصة الحرب اللبنانية في عام 2006، تبعتها في الغرب موجة من التحليلات والمقالات الافتتاحية عن التوترات بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط ، التي تخفي أهدافا سياسة واضحة أو مصالح غالبا ما يتم حجبها بقناع التبسيط.

ومع ذلك، فضلا عن الولايات المتحدة ، سعى القادة الإقليميون أيضاً إلى الحصول على ميزة جيوسياسية من خلال اعتماد الخطاب الطائفي في السياسة الخارجية. ولديهم أسباب مختلفة لهذا: فالدول العربية التي يحكمها السنة، وإسرائيل تنظران الى أن إيران تزيد من النفوذ السياسي في المنطقة من خلال تمكين الأقليات الشيعية المحلية في الدول العربية والسعي لتحويل العراق إلى دولة إقليمية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، السعي وراء الثقل العسكري من خلال تطوير قدرات نووية متقدمة وتسليح حزب الله في لبنان.

وعلى الرغم من القوة التفسيرية الواضحة لنظرية الواقعية الجديدة  على المستوى الإقليمي، فمن الواضح أنها تعاني من أوجه قصور تنبع من المشاكل المتأصلة في هذا النهج النظري. وكما أشار الخبراء ، فإن الواقعية الجديدة تبالغ في استقلالية الدولة عن الظروف المحلية، وأهمية بنية الدولة، ولا تشكك عادة في مستقبل الوضع الراهن، أي نظام الدولة في الشرق الأوسط. وبالمقابل، فانه يقلل من قدرة الدول على تغيير النظام الدولي. كما تتجاهل الواقعية الجديدة الهوية وتفترض أن الجهات الفاعلة ليست اجتماعية وأن مصالحها “خارجة عن التفاعل الاجتماعي”، كما يميل هذا النهج إلى تجاهل تشكيل الفائدة.

هنا بالتحديد فإن النظرية البنائية وحتى المحافظين الجدد، في السياق الذي تم فحصهم فيه في هذه الدراسة، خطوة في دفع الانتباه الى الهويات الشيعية والسنية المحلية وعبر الوطنية، وتسمح للمراقبين الغربيين بفهم شيء لا يبدو محددًا واضحًا للدولة في البداية، أي أن الهويات الطائفية يمكن أن تلعب دوراً بالغ الأهمية في المجتمعات المسلمة في الشرق الأوسط وأماكن أخرى (كما هو الحال في باكستان ، على سبيل المثال).

علاوة على ذلك ، لا سيما في حالة الشرق الأوسط حيث الذاكرة التاريخية الطويلة والمترامية تقليديا ، يصبح اهتمام البنائية في التاريخ حاسما في فهم منطق التوترات بين الشيعة والسنة في المنطقة. وكذلك لماذا ظهور هذه التوترات مرة أخر بكثافة جدا. وهناك نقطة ضعف أخرى في التفسيرات التي تعتمدها الواقعية الجديدة وهي اعتماد الطائفية في السياسات الإقليمية. كما انها تميل إلى التقليل من شأن المصالح الاقتصادية، إن لم يكن تتجاهلها. وعلى الرغم من أن النمو الاقتصادي والقوة الاقتصادية هما عنصران أساسيان في فكرة توازن القوى، فغالبًا ما يكون التوازن الإيكولوجي والاستراتيجي والعسكري فقط في صميم التحليل الواقعي للعلاقات الشيعية السنية على المستوى الإقليمي. كما ان الترابطات بين المصالح الاقتصادية، والهويات الطائفية، والجغرافيا السياسية هي قضية معقدة، وفي بعض النواحي، قضية حساسة، تتطلب اهتمامًا أكبر من خبراء العلاقات الدولية.

الفصل الثالث : جعل السياسات الاقليمية طائفية

اظهر اختبار المقتربات الثلاثة الاكثر شيوعا في تفسير الانقسام الشيعي – السني على المستوى الاقليمي، ان التاريخ والهوية وحدهما غير كافيين لتوضيح عودة ظهور الصدع الشيعي – السني على المستوى الاقليمي. حيث تقوم الدول – القادة والنخبة وحتى وسائل الإعلام – بتوظيف الخطاب الطائفي (أو المناهض للطوائف الاخرى) لتعزيز مصالحها السياسية. الواقعية الجديدة توفر الاطار المناسب لفهم سياسات الولايات المتحدة والدول العربية السنية المضادة لايران والتنظيم الاقليمي الحالي ضد ايران، لكن هذه النظرية غير قادرة على تفسير تأثير الهوية الطائفية على العمل السياسي للدول – إن وجد.

ومع الأخذ في بنظر الاعتبار صعوبة دراسة تأثير “عامل الهوية” على السياسات الخارجية، فأن هذا الفصل سيحلل الدوافع وراء التحالفات الطائفية وتشكيلها من منظور “الواقعية الجديدة” ومن منظور المـصلحة المشتركة”، الذي يبدو أنه النهج الذي يقدم أفضل تفسير لجعل السياسيات الشرق أوسطية طائفية على المستوى الإقليمي. التركيز في الجزء الاول من الفـصل على: لماذا وكيف للولايات المتحدة وخاصـة حلفائها المملكة العربية السعودية واسرائيل تسعى لاحتواء ايران. فيما يركز الجزء الثاني منه على التأثيرات المستقبلية لجعل لطائفية السياسات على المستوى الاقليمي.

طبقا للعديد من المحللين، ائتلاف غير رسمي من الدول التي تشترك بالقلق من ايران تجمعت في تحالف استراتيجي. كما هو موضح أدناه، سعت الولايات المتحدة والسعودية واسرائيل وكذلك الاردن ومـصر والدول الخليجية الـصغيرة، سعت بوضوح للاستفادة من (توظيف) الانقسام الشيعي – السني، وصعود الشيعة لاحتواء ايران وحلفائها، والتأكيد على صداقتها للولايات المتحدة للبقاء في السلطة. وهي، الى حد ما، من مـصالح هذه الدول هو الحفاظ على الانقسام التعسفي بين “الدول السنية” و “الدول الشيعية” ، او بين “المعتدلين” او “الراديكاليين”. وبالتوازي مع ذلك، وكمؤشر على “طائفية” السياسات على المستوى الإقليمي، فأن وجود “حديث طائفي” في السياسات الإقليمية وفي وسائل الإعلام كان ملحوظًا وبكثافة منذ عام 2006، على الرغم من أن ظهور هذا النوع من الخطاب كان في الأصل مدعوما بقوة بفعل الحرب في العراق.  

ووفقا لـ Ayellet Yehiav ، فان القواسم المشتركة لمصر، المملكة العربية السعودية، والأردن هي:

  • ادراك التهديد الذي تشكله إيران وحلفاؤها ، سواء كان التهديد حقيقيًا أو متصوراً.
  • الأهمية التي يعزوها كل بلد للملف النووي الإيراني؛ وهي النظر إلى الحملة النووية الإيرانية على انها طريقة لتحقيق الهيمنة في المنطقة.

من الواضح أن إسرائيل والولايات المتحدة تشتركان في نفس المخاوف فيما يتعلق بإيران، وكذلك الحال بالنسبة للشرق الأوسط إلى حد كبير ومتحدون من نفس التهديدات المتصورة، وينبغي على الدول العربية التي يحكمها السنة ان تقرر ما اذا كانت تنظر الى إسرائيل كدولة أقل من “عداوة” من بين العدوين (إسرائيل وإيران)؛ كما يقول المثل العربي: أولئك الذين لديهم أعداء مشتركون يكوّنون صداقات. وتستكشف تفرعات الفل التالية بمزيد من التفاصيل دوافع اعضاء التحالف المضاد لايران والشيعة من الولايات المتحدة والدول العربية التي يحكمها السنة واسرائيل لاحتواء ايران والفوائد المحتملة التي تجنيها هذه الدول من (تحريض) الانقسام الاقليمي الشيعي – السني.

4- مستقبل العلاقات الشيعية – السنية

ماذا يعني المزيد من الطائفية للسياسة الإقليمية في الشرق الأوسط؟ مسألة القيادة على الصعيدين الإقليمي والوطني – هي في صميم الصراع الإقليمي الشيعي – السني. وعلى الرغم من أن الجمهور العربي ما زال لا يعتبر إيران تهديدًا لأمنه، كما هو الحال مع إسرائيل والولايات المتحدة، فإن رأيهم لا يحسب من قبل صانعي السياسة الخارجية، وعندما يحدث ذلك، يتم تخفيفه بشكل أو بآخر. النخب السنّية تتوافق بشكل متزايد مع الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل مواجهة ما يسمونه “التحدي الشيعي” الذي يتجسد في الطموحات النووية لإيران (التي يُعتقد أنها تسعى إلى امتلاك قدرات نووية)، وانها (اي ايران) قادرة على ممارسة نفوذ في المنطقة من خلال حلفائها في سوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية، وفي احتمال أن تبدأ إيران في التعبير عن مطالبها بإجراء انتخابات حرة في الدول العربية – أو أن السكان الشيعة في هذه الدول سيطالبون بذلك. وقد قادت هذه الاعتبارات السعودية إلى السعي وراء دور قيادي في السياسات العربية، مع الإبقاء على الدول السنية الأخرى على حالها. ومع ذلك، فإن التحالف الجديد سيكون مفيدا لجميع الدول التي يقودها الُسنة، وإسرائيل والولايات المتحدة، ولكن فقط كحل مؤقت.

الولايات المتحدة مصممة على الحفاظ على قوتها النسبية في الشرق الأوسط. وان لعب دور مهم في السياسة الإقليمية يتضمن المشاركة في تحالفات من أجل تحقيق التوازن مع مختلف الأعداء. كذلك، برزت الانقسامات الطائفية إلى السطح كنتيجة للعبة توازن القوى على المستوى الإقليمي، وقد انخرطت الولايات المتحدة في “اللعبة الطائفية” سواء عن قصد أو عن غير قصد. الانقسامات التي صيغت من قبل الولايات المتحدة اعتمدت على ما إذا كان ينظر إلى بلد ما على أنه حليف أو عدو (في “المعسكر الأمريكي” أو في “معسكر إيران”). لهذا الغرض، فان الإدارة الحالية قد أدخلت مصطلح “الدول المعتدلة” و “الدول المتطرفة” بصفتها صفات لحلفائها وحلفاء إيران على التوالي. والأسلوب الخطابي الاميركي هنا هو نفس أسلوب الحرب على الإرهاب: معنا أو ضدنا.

وبشكل عام، فإن عمليات إعادة التنظيم التي تتبع جزئياً تحالفات قديمة تمهد الطريق لإطار إقليمي جديد يستند إلى الهويات الطائفية، حيث يتم استخدام هذه الأخيرة كأدوات للسياسات الخارجية، ولكنها تلعب أيضاً دوراً حاسماً في تشكيل السياسة الخارجية. من المرجح أن تترجم الاستراتيجية المعادية لإيران للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط التعبيرات الخطابية، مثل صعود الشيعة والهلال الشيعي والفجوة السنية الشيعية، إلى واقع سياسي. وليس من المبالغة القول أن الطائفية داخل الإسلام لديها أيضاً القدرة على أن تصبح “معياراً” جديداً للشرق الأوسط الإسلامي داخل الدول وفيما بينها، ولكن هذا يرجع إلى اعتبارات السلطة أكثر مما يعزى إلى الصدع الجوهري في دين الاسلام. كما ان الهلال الشيعي والتحالف المناهض لإيران، ليسا متعادلين لأن الأول يتجاهل حقيقة أن حماس هي سنية، وليس شيعية.

على أي حال، لا يمكن المبالغة في أهمية “عامل العراق” في الطائفية المحتملة للسياسات الإقليمية في الشرق الأوسط. سوف تتأثر كل من الولايات المتحدة واستقرار الدول المجاورة للعراق بشدة بالتطورات في العراق لسنوات، إن لم يكن عقودًا قادمة. وسيكون للأحداث في العراق بلا شك، تأثير كبير على كيفية تشكيل السياسات الشيعية الإقليمية. وهذا بدوره سيكون له تأثير على سياسات الدول السنية تجاه الشيعة على المستويين الاقليمي والمحلي.

وهناك من يظن ان الدعم الامريكي للشيعة في العراق لم يكن غير متماسك لم يترتب عليه اشكاليات وان الوضع مفيد الولايات المتحدة. وقد أشار إدوارد لوتواك Edward Luttwak الى أن الاقطاب العربية الرئيسة في كل من الجانبين السني والشيعي أصبحوا يسعون بنشاط للحصول على الدعم الأمريكي:

في الواقع، أوجدت حرب العراق شرق أوسط جديد لم يعد فيه العرب السنة يتجاهلون المصالح الأمريكية بسرور لأنهم يحتاجون إلى مساعدة ضد التهديد الوشيك للتفوق الشيعي، بينما في العراق في قلب العالم العربي ، فإن الشيعة متحالفين مع الولايات المتحدة حتى مع السعي الاميركي لتحقيق الكثير من الخداع والسخرية ، التي أحدثتها إدارة بوش عن طريق الخطأ. لكن النتيجة هي نفسها بالضبط.

وبدورهم، سعى قادة إيران، وخاصة الرئيس أحمدي نجاد، الى إثارة مشاعر الشارع الإسلامي المعادية لإسرائيل في الشارع العربي من أجل إقناع العرب السنة بالوقوف إلى جانبهم (القادة الايرانيون). لقد تجنبت القيادة الإيرانية استخدام المصطلحات الطائفية في بيانات السياسة الخارجية. ومع ذلك ، فان هذا التكتيك استقبلته النخب السنية البارزة في رسم السياسات الخارجية للدول العربية في المنطقة. وكما اشار Sadjadpour ، “تضامن المسلم لم يتفوق ابدا على الانقسام العربي الفارسي”.

كيف يمكن لتعزيز طائفية السياسات الاقليمية ان تؤثر على الوضع الاقليمي لايران؟ الحقيقة أن إيران لم تكن ناجحة جداً في علاقاتها مع الدول العربية، لا في الماضي ولا في الوقت الحاضر. يزعم الكثيرون أنه على الرغم من سقوط الأنظمة في العراق وأفغانستان، فان الظروف الجيوسياسية الجديدة لا يمكن ان تمثل نجاحا من وجهة النظر الايرانية. لاحظ رافائيل فرنانديز Rafael Fernández انه، فضلا عن، الشرعية الفعلية للترسانة النووية الاسرائيلية في عيون المجتمع الدولي، الحروب في العراق وافغانستان سمحت للولايات المتحدة بتوطيد وجودها العسكري في بلدين جارين لايران وتمديدها في بلدان اخرى مثل الكويت، وتركيا، قرغيزستان، واوزبكستان. ومع ذلك ، فإن الحالة ليست واضحة جدا. إذا عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري والاستراتيجي في المنطقة وفي جميع أنحاء البلاد، فأن إيران، من جانبها، تمكنت من الاستفادة من الوضع. وهذا القرب أيضا يجعل الولايات المتحدة ومصالحها أكثر عرضة للخطر. كان تكتيك إيران، كما عبر عنه تشوبين Chubin، يتعامل مع الولايات المتحدة على أنها “رهينة محتملة”، أي إبقاء الولايات المتحدة المشاركة في صراعات المنطقة من أجل صرف انتباهها والجهود المبذولة من قبلها بعيداً عن منع تقدم برنامج إيران النووي.

هناك بعد آخر للصراع الجيوسياسي الحالي وهو أمر مهم، ألا وهو الجانب الثنائي للعلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. كما أوضح توينسينج Toensing، “انه لا فهم أكثر عمقاً للتوترات الشيعية السنية ولا المساعدات الشيعية في ادراك العلاقات الأمريكية الإيرانية والمواجهة بين البلدين”.

وفي علاقتها مع الولايات المتحدة، إيران، كما عبّرت عنها هايدي هويتانين Heidi Huuhtanen، “تفاوض على دورها ووجودها في الشرق الأوسط الجديد وفقًا للقواعد التي تضعها بنفسها” ، وهي حصانة حكومتها، وضمانات أمنية، واعتراف بها من موقع القوة الإقليمية. ومع ذلك، ترى الولايات المتحدة أنه يجب على إيران أن تتكيف مع القواعد التي تضعها هي أو أنها ستضطر إلى التكيف معها. أخيراً، هناك قضية مهمة في تحديد مسار السياسة الإقليمية وهي سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ، التي تضم حالياً عدداً من الاشكاليات والمفارقات الكامنة: منها أولاً، من غير المرجح أن تخدم الهوية الشيعية عبر الوطنية كأساس للتحالفات السياسية. وأحد المفارقات هو أنه كلما سعت الولايات المتحدة أكثر من أجل الديمقراطية وحقوق الأقليات، كلما أصبح الشيعة (و / أو الإسلاميون) في الدول السنية الحاكمة أكثر قوة. ويترجم هذا أيضا إلى مزيد من النفوذ الإقليمي لإيران، وهو أحد الأسباب التي تقود – من المحتمل – الى تخفيف دعوات الولايات المتحدة للديمقراطية في المستقبل. وهذا بدوره، من المتوقع أن يؤدي إلى تشديد او تعزيز السلطوية في المنطقة.

هناك مفارقة أخرى مفادها، أنه على الرغم من حقيقة أن الولايات المتحدة وإيران تميلان إلى الاعتقاد بأن طموحاتهما في القوة تلغي كل منهما الآخر، الا أن لهما مصالح متوازية في المنطقة، وكلاهما يريد نجاح الدولة العراقية، الا انهما لا يريدان ان تكون الدولة العراقية قوية بما يكفي لتشكل تهديدًا لجيرانها. كما ان كلاهما سيستفيد عندما يكون الشيعة في وضع افضل في المنطقة. فبالنسبة لإيران، الفوائد واضحة؛ اما بالنسبة للولايات المتحدة، فان ذلك سيترجم الى المزيد من الديمقراطية في المنطقة. كذلك تريد كل من الولايات المتحدة وإيران ان تكون أفغانستان آمنة ومستقرة، بل إنهما يشتركان في نفس الأفكار حول كيفية تحقيق ذلك. وبالنسبة لباكستان، كل من ايران والولايات المتحدة قلقتان بنفس القدر من الوضع السياسي في باكستان ويخافون من عواقب صعود الأصوليين السنة إلى السلطة. كما لم تبلور الولايات المتحدة حلا للملف النووي الايراني، وهذه ستبقى في اطار المواجهة بالنسبة للإدارات الاميركية وعليها معالجتها. وعليها ان تغير سياستها تجاه ايران من اجل شرق اوسط جديد، لا ان يكون شرقا اوسطيا طائفيا.

الطائفية، التي تطورت لتكون معيار شامل، لديها القدرة على التعجيل بنهاية نظام الدولة الحالي في الشرق الأوسط، بغض النظر عن مدى قوة هذا النظام في الوقت الحالي. في هذا المعنى، العراق، مع وجود العديد من القبائل المختلفة والانقسامات الطائفية، يمكن أن يصبح بداية النهاية لنظام الدولة. لذا، اذا نجحت الحكومة التي يقودها الشيعة في تماسك الدولة، يمكن للعراق أن يكون بداية لشرق اوسط جديد أكثر ديمقراطية، أو على الأقل تأمين استمرار نظام الدولة الاقليمي القوي.

على صُناع السياسات ووسائل الإعلام وجميع الجهات الفاعلة ذات الصلة في الغرب ان يكونوا على دراية بالمفاهيم المختلفة التي يحملها استخدام كلمة ‘شيعة’ في سياسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية بشكل عام.

بالمعنى الضيق، يمكن فهم مصطلح “الشيعة” على المستوى الإقليمي كتحالف بين الدول، وعلى نطاق أوسع يشير الى جميع أتباع المذهب الشيعي في جميع البلدان الإسلامية. حذر انصار النظرية البنائية حول “الهوية الشيعية العابرة للحدود”، وانصار نظرية المحافظين الجدد من صعود الشيعة في الدول:

1) الدول التي لديها حكومة شيعية أو مجموعة شيعية قوية،

2) السكان الشيعة، وغالباً من الأقليات، داخل الدول التي يحكمها السنة،

3) الدول ذات الأغلبية الشيعية أو حتى،

4) ببساطة إيران أو بلاد فارس.  

 

مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام

رابط الدراسة: https://www.fiia.fi/en/publication/sectarian-identities-or-geopolitics