بقلم : أ. د. سامر مؤيد عبد اللطيف
لم يكن الحراك الشعبي في العراق مع بداية شهر تشرين من هذا العام حدثا عابرا ومكررا لمشاهد اعتاد عليها الشارع العراقي منذ عام 2003 ، اذ ان مساحة الغضب الجماهيري قد اتسعت هذه المرة لتشمل العاصمة بغداد واغلب المحافظات الجنوبية ، مثلما امتدت في نطاقها الزماني لتستمر اكثر من شهرين منذ اطلاقتها الاولى . ومع الاصرار الجماهيري على الاصلاح ارتفع سقف المطالب ليطال اساس النظام السياسي وادواته ومؤسسات السلطوية كافة ، وحتى بحساب كلفة المواجهة بين المتظاهرين والحكومة وحصيلتها ، فإنها كانت باهضةَ ودامية جدا هذه المرة بالقياس لسابقاتها ؛ اذ أودت بحياة المئات من المتظاهرين . ولم تقف عند حدود استقالة حكومة السيد عادل عبد المهدي ، بل طالبت بحل البرلمان وتصحيح بنية ومسار النظام السياسي برمته .
لم تسكن استقالة رئيس مجلس الوزراء على خلفية الاحداث الدامية التي شهدتها محافظتا ذي قار والنجف ، من لهيب الشارع العراقي المحترق ، بل كانت بمثابة الاستراحة بين جولات المواجهة ، مثلما كانت بوابة لازمة جديدة في إختيار خلفِ لرئيس مجلس الوزراء المستقيل . وهذه الازمة الجديدة تتعدى حدود نص المادة (76 ) من الدستور العراقي التي اوكلت لرئيس الجمهورية مهمة تكليف مرشح الكتلة الاكثر عددا في مجلس النواب لتشكيل الحكومة في مدة اقصاها خمسة عشر يوماَ ، لتقف عند حاجز الاتفاق على شخصية تحضى بالمقبولية لدى الكتل السياسية وجموع المتظاهرين على حد سواء. وبخلاف المرات السابقة، لم تعد حسابات السياسيين عند اختيار شخص رئيس الوزراء مقيدةَ بالمكاسب الانتخابية لكل منها ولا بمستوى الرضا الخارجي عن الشخصية المختارة بمعزل عن الارادة الشعبية ، بل اضحت الاخيرة المتغير الحاسم لمعادلة الاختيار الذي اخضعه الشارع العراقي المنتفض لشروطٍ صعبة المنال بحسابات احزاب السلطة في مقدمتها شرط الاستقلال التام عن الكتل السياسية ، والكفاءة والنزاهة والانتماء الوطني الخالص وعدم شغل اي منصب سياسي سابق في البرلمان والحكومة المركزية او المحلية للمحافظات .
والواقع ان محنة الكتل السياسية في اختيار رئيس الوزراء تنبع من مصادر وضواغط متباينة ، ليس اقلها السقف الزمني الذي حدده الدستور لحسم الاختيار في غضون خمسة عشر يوم ، وبتجاوزها يكون لرئيس الجمهورية وفقا للفقرة الثالثة من المادة ( 76 ) اختيار مرشح اخر غير مرشح الكتلة الاكثر عددا ، وهي فرصة لرئيس الجمهورية لاستثمار الثقل الجماهيري في تجاوز اعتراض الكتل على اي مرشح يقدمه الرئيس ويحضى بالمقبولية الشعبية ، وحتى مع استبعاد هذا الاحتمال ، فان مضي المدة المقررة دستوريا دون اختيار مرشح لرئاسة مجلس الوزراء سيفتح الباب لتطبيق المادة (81 ) التي تمكن رئيس الجمهورية من الحلول محل رئيس مجلس الوزراء لحين اختيار بديل ضمن مدة الخمسة عشر يوما.
ومع ابتعاد الكتل عن الحسابات التقليدية في موضوعة اختيار شخص رئيس مجلس الوزراء وتشكيل الحكومة هذه المرة وارتفاع صخب الشارع العراقي ، إبتعدت العديد من الكتل والشخصيات المخضرمة عن الاقدام على مغامرة ترشيح البديل لرئاسة الوزراء ، لصعوبة المهام المنوطة به ضمن وقت أقل من القياسي ، مع احتمالية عالية باحتراق ورقته شعبياً وسياسياً ، الى جانب ذلك فان إتجاه هذه الكتل لاختيار الشخصية المستقلة فعليا والقريبة من جموع المتظاهرين باي صورة يعني توجيه صفعة قاسية لنفوذها من قبل الحكومة المستقلة المستندة لتأييد ومباركة قوى الشعب والقوى الدولية المتربصة بها ، وأما إختيار المرشح من داخل المنظومة السياسية فيعني تنامي النقمة الشعبية واستمرار الازمة وتفاقمها الى مستويات لا يمكن السيطرة عليها او التكهن بها. والراجح من تحليل مواقف وتوجهات الكتل السياسية ميلها واتفاقها على شخصية قريبة من دائرة نفوذها على أن تحضى بدرجة من الاستقلالية والمقبولية الشعبية والسمعة الطيبة ، والقدرة على الوقوف في منتصف الخط الفاصل في دائرة صراع المصالح الحزبية والاقليمية والدولية في العراق .
إن أزمة إختيار شخص رئيس الوزراء لن تكون الا بداية الطريق الى أزمات أخرى قد تكون أكثر تعقيداَ بحسابات الواقع المشحون بالرؤى والمصالح المتناقضة والاخطاء والمشاكل المتراكمة والمؤجلة من الادارات السابقة ، اولها ازمة اختيار الكابينة الوزارية التي ستكون حلبةَ للصراع بين أنصار الاستقلال وطمأنة الشارع الملتهب من جانب وأتباع المحاصصة البعيدين عن دائرة اللهيب الشعبي والساعين الى التصيد بالماء العكر وتصفية الحسابات القديمة في الجانب المقابل. ومع ذلك فان الراجح أن الاحزاب ستحاول إمساك عصى تأليف الكابينة الوزارية من المنتصف ، بترجيح كفة الاستقلالية في إختيار المرشحين مع الابقاء على هامش من المحاصصة لصالح الكتل الاخرى التي لم تتعرض مناطقها لنار الانتفاضة الشعبية .
أما الازمة الاخرى ، فمنبعها الموازنة الصعبة جدا بين مطالب المتظاهرين المتبقية واملاءات الكتل السياسية ولاسيما في مجال محاسبة قتلة المتظاهرين ، والفاسدين ، وتصفية تركة المحاصصة وتسوية الملفات العالقة الاخرى ، كما ستواجه هذه الحكومة الجديدة ازمة الموازنة بين مصالح وتوجهات القوى الدولية والاقليمية المتعارضة على الساحة العراقية ، فضلا عن وجوب تعرض الحكومة القادمة لضغط الوقت والجماهير بِشأن التهيئة لانتخابات مبكرة ، وهو امر لم تحسمه الكتل السياسية ، مما سيفتح الباب مشرعة في المستقبل القريب لدخول العراق مجددا في دوامة جديدة من الحراك الشعبي غير محسوب العواقب .. وغدا لناظره لقريب … والله المستعان على ما ينتظر العراق وشعبه من تحديات ومحن .