د. فراس حسين علي الصفار
رئيس قسم إدارة الأزمات مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء 18 كانون الأول 2019
طُرحت عدة حلول لحل أزمة الاحتجاجات الحالية، وكان أغلبها حلولًا قانونية تتعلق بتعديل الدستور، أو تعديل مجموعة من القوانين، و لعل أهمها هو إلغاء الامتيازات لأعضاء مجلس النواب والدرجات الخاصة، وقانون الانتخابات وتعديلاته ، إلى جانب حلول أخرى سياسية تتعلق بالأحزاب والمشاكل التي رافقت عمل القوى السياسية خلال المدة السابقة ، وبرغم أهمية تلك الحلول الا إن هناك حلول اقتصادية يجب التركيز عليها بوصفها أساس المشكلة. إن جوهر المشكلة الحالية يكمن في اتهام أصحاب السلطة (الاحزاب السياسية) للحكومات المتعاقبة بعد 2003 بإخفاقها في إدارة الاقتصاد المحلي وعدم القيام بواجبها بتوفير الحاجات الاساسية للمواطن من سلع ضرورية، وخدمات صحية، وخدمات تعليمية، وتوفير مياه صالحة للشرب، وتوفير الكهرباء وغيرها بالرغم من حجم الموازنات العامة التي تجاوزت (900) مليار دولار ، بينما تشير الحكومات إلى سوء الوضع القائم وتأثيره على اداء وعمل الحكومات ، فالحكومة تتألف من مرشح الكتلة الأكبر الفائزة في الانتخابات أو على وفق التوافقات بين الكتل (في بعض الاحيان تصاحب تلك العملية صفقات لحسم مناصب الرئاسات الثلاثة مجتمعة ) ، ويختار رئيس الوزراء أعضاء مجلس الوزراء على وفق ترشيحات الكتل النيابية الفائزة متناسبة مع عدد مقاعدها في مجلس النواب العراقي وهذا الأمر ينعكس أيضًا على وكلاء الوزارات والدرجات الخاصة، وفي ظل هذا الوضع القائم تدعي الحكومات إنها لا تمتلك أية مرونة للقيام بعملها لأنها تكون مكبلة بالكتل النيابية، وهذه الكتل هي بالأساس تمثل الأحزاب السياسية المشاركة بالعملية السياسية. بمعنى آخر ،اي إننا هنا دخلنا في حلقة مفرغة من الاتهامات المتبادلة بين الحكومات من جهة وبين الأحزاب السياسية من جهة أخرى، على الرغم من إن الحكومات بالأساس هي وليدة الأحزاب السياسية أو هي بنتها المدللة، ومن ثم لايمكن استثناء الحكومات أو الاحزاب السياسية من دورهم في نشوء المشكلة الحالية وتفاقمها. ولهذا يحتاج الوضع القائم لصدمة كبيرة للخروج من الحلقة المفرغة التي تدور بها والمتمثلة بسعي الأحزاب للحصول على المكاسب الشخصية والحزبية من دون التفكير بالمواطن البسيط. و الاحتجاجات الحالية قد تُعد صدمة جيدة لتغير الوضع القائم، إلا إنها تحتاج إلى مجموعة من الركائز الاساسية التي يمكن من خلالها الوصول إلى الهدف المنشود، ولعل أهم هذه الركائز هو أن تركز التظاهرات على الوضع السلمي فهي بذلك تجنب المتظاهرين والمجتمع الآثار السيئة للمواجهات، فضلًا عن عدم اعطاء أي مسوغ للحكومة لإنهائها، والأمر الثاني المهم يتعلق بالضغط على الحكومة الجديدة في وضع خطة اقتصادية شاملة تنهض بالاقتصاد المحلي وتوفير الحاجات الأساسية للمواطن، و أمّا الأمر الثالث فيتعلق بالإصلاحات القانونية التي يجب التركيز فيها على القانون الانتخابي ، إذ يجب أن يمثل اعضاء البرلمان قدر المستطاع إرادة الشعب، و أما الامر الأخير فلا بد من أن يكون هناك تغير للوضع السياسي القائم، من خلال إجراء اصلاحات سياسية تتعلق بعمل الأحزاب ودورها في العملية السياسية بشكل عام. و السؤال الذي يرد هنا يتعلق بالخطة الاقتصادية الشاملة ، فما طبيعة هذه الخطة ؟ وكيف يمكن الشروع بها ؟ وأي القطاعات يجب التركيز عليها ؟ . وللإجابة عن هذا التساؤل يجب اولًا أن توضع الخطة من قبل متخصصين في الشؤون الاقتصادية، وتقدم للحكومة على شكل خطة مقترحة للنهوض بالواقع الاقتصادي من خلال توفير الحاجات الاساسية للمواطن، و لاسيما في المناطق الأكثر فقرًا ، وأن تركز هذه الخطة على حصر الموارد الاقتصادية العامة للدولة وتوزيعها على وفق الأهداف التي ترغب الوزارات بتحقيقها، وبما يصب في الهدف الرئيس المتعلق بتوفير الخدمات العامة (هناك فرصة حقيقية للتحول إلى موازنة الاداء والبرامج بدل موازنة البنود التي تطبق حاليًا ) ، إذ يمكن أن تشتمل الخطة على مؤشرات موضوعية واضحة تستعمل لتأشير وضع الخطة عند التطبيق ومدى إلتزام الحكومة بها، و أن تكون هناك مرونة بقدر كافٍ للحكومة لمواجهة عقبات التطبيق. ويجب أن تتضمن الخطة الاجابة عن التساؤلات المختلفة للمشكلة الاقتصادية: ما الذي يجب أن تنتجه من سلع وخدمات ؟ وما الكميات الواجب انتاجها من كل سلعة ؟ وما طريقة توجيه قوة العمل على الفروع الانتاجية المختلفة ؟ وكيفية توزيع الدخل القومي بين الاستهلاك والادخار ؟ وكيفية تحديد مستويات الأجور والمكافآت لكل العاملين في مختلف القطاعات ؟ وكيف يمكن رفع مستوى الانتاجية وتحسين المستوى التكنولوجي وتطويره في عمليات الانتاج. ومن أهم المؤشرات التي يجب ان تشتمل عليها الخطة نذكر الآتي : مؤشر مستوى الفقر ( يجب أن تكون هناك مؤشرات ثانوية قابلة للحساب توضح المستوى الحالي للفقر، والمستوى المستهدف لكل عام، فضلًا عن المستوى المرغوب الوصول له على المدى البعيد)، إذ يعاني العراق من ارتفاع مستوى الفقر بالرغم من حجم الموارد المالية الكبيرة . مؤشر معدل البطالة (فالخطة يجب أن تسعى لخفضها لتصل إلى مستويات مقبولة خلال الأعوام الخمسة القابلة ). مؤشر الوضع الصحي و(هذا المؤشر يشتمل مؤشرات ثانوية خاصة بعدد المراكز الصحية الأولية، والمستشفيات، والمراكز التخصصية الحالية، وما يجب أن تكون عليه مستقبلًا موضحًا فيها أعداد المراجعين والكادر الطبي وعدد الأسرة) . مؤشر مستوى التعليم و(هذا المؤشر يُعد من المؤشرات المهمة التي تساهم في رفع جودة التعليم وزيادة التخصيص للبحث والتطوير للنهوض بالواقع العلمي). مؤشر معدل النمو في الناتج المحلي الاجمالي إذ ( إن الخطة يجب أن تستهدف رفع معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي، ولاسيما في القطاعات غير النفطية) نخلص من ذلك .. إن العراق يعاني في الوقت الحالي من انكماش في الوضع الاقتصادي نتيجة التوترات السياسية التي يشهدها البلد، ويحتاج لمجموعة من الإجراءات النقدية والمالية لانعاش الاقتصاد المحلي ورفع مستوى التوظيف، وزيادة الطاقات الإنتاجية، الأمر الذي يمكن أن يساعد في النهوض بالقطاعات الاقتصادية المختلفة، وهذه الإجراءات والسياسات يجب أن تكون من خلال خطة اقتصادية شاملة على المدى المتوسط ، وعلى وفق استراتيجية اقتصادية طويلة الأجل.