بقلم أ.د. سامر مؤيد عبد اللطيف
مدير مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
لقد مزقت افة الفساد التي ابتليت بها العديد من الدول اليوم ، النسيج المخملي لحقوق الانسان بعد ان اوهنت البناء القانوني والمؤسسي لتلك الدول ، وبات هذا الفساد ينشر سمومه في مرافقها واوردتها الوظيفية كالسرطان ، ليقطع جميع الطرق المؤدية الى بناء الديمقراطية والحكم الرشيد ويقيم قواعد دولته العميقة التي تدار من قبل مافيات تحظى بمفاتن السلطة وحمايتها وتسير الحكومة بما يتوافق مع اطماعها على اسس المحسوبية والمنسوبية والرذيلة ، ولن يكون ذلك الا في الغرف المظلمة وعلى حساب مصادرة حقوق المهمشين والضعفاء واستبعادهم من المشاركة في موارد الدولة وخيراتها واداراتها . وهكذا عندما يصل الفساد الى اقبح صورة تمتد اذرعته الى صرح القانون والحقوق لتفتك بها وتصيرها اداة رخيصة للاجهاز على ما تبقى من حقوق وحريات للمستضعفين او حتى لتقطع عليهم طريق الشكوى والتظلم الا الى الله ، فتبدأ المعاناة الحقيقية للافراد ، يوم تتحول اجهزة الدولة السياسية والخدمية والامنية والقضائية الى ادوات لانتاج الفساد المقنن وحمايته من هجمات المطحونين والتلاعب بمصائرهم وحقوقهم ؛ فلا طعم للحرية ولا فائدة ترتجى منها ان وجدت ولا مجال باي حال للكلام عن المساواة والكفاءة والمشاركة ، لاسيما مع شيوع ثقافة السيد والعبد ومعها سٌنّة الافلات من العقاب في ظل نظام قانوني تغيب عنه وسائل الشفافية والرقابة والمساءلة ، مثلما تغيب عنه وسائل حماية الحقوق والحريات ؛ كيف لا وان هذا الاخطبوط السرطاني سيمنع وضع البرامج والسياسات الفعالة لتعزيز هذه الحقوق وقبلها سيقطع دابر اي فرصة لكشف المفاسد ، ثم يوهن الاساس الذي تقوم عليه والمتمثل بالديمقراطية وحكم القانون حتى يجهز في مراحله المتقدمة على المتبقي من اشلاء هذه الحقوق . فتتلاشى تبعا لذلك شرعية النظام ويفقد هيبته ومكانته في عيون الجماهير والدول الاخرى ، مثلما يفقد قدرته على العطاء ومن ثم البقاء ويكون ذلك مقدمة لانهياره الحتمي
عليه فان الشروع في مواجهة هذا الوباء المسمى بـ ( الفساد ) والوقاية الفاعلة من شره ، يستلزم في المقام الاول استعادة الدولة للبيئة الصحية لصيانة الحقوق وبناءها عبر اعتماد مبدأ الشفافية في جميع مؤسساتها وانشطتها ومفاصلها كافة ، ليس لتحصين تلك الحقوق فحسب بل لتحصين النظام ككل من شر الفساد وتداعياته المدمرة ؛ بل ولبناء حصن منيع يعزز مناعتها ضد هذا المرض
فالشفافية التي تعني ضمن ما تعنيه ان للمواطن الحق في المعرفة والاطلاع على المعلومات الخاصة بالمؤسسات الحكومية ، سيكون لها دور بالضرورة في نشوء وازدهار الديمقراطية ، فهي الركيزة الرئيسة في بناءها وترسيخ دعائمها في اي دولة ، يوم يتوافر للمواطن الحق في معرفة كيف تدار مؤسسات دولته وما تنجزه من منجزات وكذلك ان له الحق في ان يعلم عن خيرات بلاده وكيف توظف في بناء وتنمية اقتصاده وما ينتظرها من تحديات وتهديدات في كل المجالات بكل شفافية ومصداقية ، واولها حقه بمعرفة المفسدين من المسؤولين ومن له الامر والتدبير في ادارة كفة المقادير ، علاوة على ذلك ينبغي له ان يعلم الكثير عن حجم البطالة والفقر والفشل في تقديم الخدمات ومسبباته ، ومجالات هدر الاموال والخيرات وغيرها من المعلومات التي تدخل في كل تفاصيل حياة المواطن بشكل مباشر وغير مباشر ومن المسؤول عن ذلك كله كي يحاسبه في ظل قضاء عادل بعد ان تتوافر له كل الادلة والقرائن والمعلومات المنشودة بكل شفافية ، بوجه لا يقبل التشكيك او الدحض والافلات .
على هذا اضحت الشفافية والمشاركة للمواطن البسيط في الحياة السياسية والادارية والاقتصادية بصورة او اخرى مفتاح النجاح والتقدم والحرية في الدول المتقدمة اليوم والعنوان البارز لحماية الحقوق العامة والخاصة للافراد في هذا العصر، اذ لامكان للسرية التي امست استثناءا محصورا في الدول والادارات التي ارتضت التخلف والظلم لابناءها وهي الاخرى في انحسار وافول بسبب ثورة المعلومات ومعطياتها ووسائل الاتصال والتواصل ومخرجاتها التي اخترقت اقوى حصون السرية لتشيد لها صرحا عامرا من الشفافية المفروضة بقوة التقنية .
بيد ان الشفافية المنشودة تتطلب تحقيق مستوى متقدم من التطور الاداري، وتنسيق بين المؤسسات المعنية بالتطوير الاداري ومؤسسات الخدمة المدنية، مع تطلبها لتطوير شبكة معلوماتية مع ضرورة التحكم بتقنياتها، ومن اهم عناصرها تقييم الاداء للمؤسسات والافراد العاملين فيها مع تقديم مبدأ الكفاءة والنزاهة على ما سواه . ولوضع الشفافية في مسارها الصحيح ولتعزيزها يجب مكاتفة المجتمع المدني ووسائط الاعلام التي تثمنها وتطلبها ، واستخلاص العبر من خبرة حركات حقوق الانسان في ارشاد المجتمع الى عواقب الفساد واذكاء وعيه لمضارة ودعوته لإقامه التحالفات مع مؤسسات الدولة الفعالة والقطاع الخاص لمكافحة هذه الافة قبالة التوعية باهمية الشفافية في حماية حقوق الامة وثرواتها على حد سواء ، وكذلك توعية كل من المجتمع والقطاع الخاص بالدور المهم الذي يمكنهما القيام به في اجراء الاصلاح المؤسسي لتعزيز مسألة الشفافية ؛ وما يؤكد هذا الاتجاه ووحدة غايته ، ما اقرته اللجنة المعنية بتعزيز حقوق الانسان وحمايتها، المنبثقة من مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة عام 2003 من مقرر خاص انتهى الى اثبات تأثير الفساد السلبي في حقوق الانسان.
ولتقدم الشفافية دورها الكامل في مجال بناء منظومة حقوق الانسان وتعزيزها وحمايتها ، نقترح ان يتم استقبال الشكاوى والمظالم الواردة من المواطنين بشأن التجاوزات للعاملين في مؤسسات الدولة والتي تمس حقوق المواطنين وحرياتهم بتخصيص مكاتب خاصة للرقابة والتدقيق كل مؤسسة مرتبطة بهيئة النزاهة على ان تحضى بالتخويل القانوني الذي يمكنها من التواصل المباشر مع المواطنين لتتولى التحقيق بالشكاوى التي يقدمها هؤلاء في هذا الشأن حسب القواعد القانونية سبيلا للتحقيق فيها ومن ثم رفعها الى الهيئات القضائية للبت فيها واصدار الاحكام ، الى جانب اهتمامها بادارة السجلات والملفات والقيود اللزمة ومتابعة نتائج الشكاوى المقدمة اليها واعلام اصحابها بالإجراءات اللازمة والتي تم اتخاذها ، وعليها تزويد الجهات الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الخاصة بالرقابة وحقوق الانسان بأعمال المكتب واهدافه والقضايا التي يتولى التحقيق فيها ، وكل ذلك يجب ان يكون مرتبط بشكل واضح وبشفافية كاملة امام الاعلام لتكتمل صورة الشفافية امام الجماهير ولا تكون واجهة فقط من غير مضمون.
صفوة القول ان الفساد والشفافية عدوان متضادان ، الاول يهدم الامم والثاني يبني مجتمع سليم صحي ، فكلاهما لا يمكن احتوائهما في مكان واحد بل على الاقوى البقاء، والشفافية لها اتباع يتمسكون بها ويدافعون عنها وتدافع عنهم وهدف مشترك تصبو للوصول اليه واحتوائه وحمايته الا وهو حقوق الانسان ، والشفافية كانت ومازالت الام الحاضنة للديمقراطية ، فلا يمكن فصلهما الا بعملية قيصرية يكون فيها الفساد بطلها ، فالحكومات الي تحاول المحافظة على كيان دولها والشعوب التي تريد الارتقاء بأوطانها وتمد جسور السلام بينها وبين دولها تحتوي هذا المبدأ وتجعله الحامي لها ولكيانها لبناء دولة تحترم حقوق الانسان والمواطنة.