د. فراس حسين علي الصفار
رئيس قسم ادارة الازمات مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء 16 شباط 2020
يتعرض الاقتصاد الصيني لامتحان صعب نتيجة المخاوف الكبيرة من الآثار المحتملة لانتشار فيروس كورونا، فقبل خمسة أيام فقط من حلول السنة الصينية الجديدة، أعلنت السلطات في بكين إن وباء( فيروس كورونا ) الذي نشأ في مدينة ووهان الصينية التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة، يمثل حالة طوارئ صحية كبرى، و يعود سبب ذلك إلى إن حكومة بلدية ووهان لم تكشف عن المعلومات في الوقت المناسب، وفشلت في السيطرة على الفيروس بشكل فعّال، فقد غادر حوالي خمسة ملايين من السكان والعاملين المؤقتين المدينة لقضاء عطلة رأس السنة القمرية الجديدة قبل إغلاق المدينة رسميًا في 23 كانون الثاني 2020 ونتيجة لذلك، انتشر الفيروس بسرعة في جميع أنحاء الصين وخارجها، ما أدى إلى حالة الطوارئ الصحية الدولية الراهنة. ومن وقت انتشار ( الفيروس ) ولحد الآن فإن عدد الاصابات في تزايد ، إذ ذكرت لجنة الصحة الوطنية في الصين إن العدد الإجمالي للإصابات في الصين بلغ 66492 حالة بعد تأكيد إصابة 2641 شخصا الجمعة الماضي، وأضافت إن الوفيات زادت بواقع 143 حالة إلى 1523 شخصا وكانت غالبية الوفيات الجديدة في إقليم هوبي بوسط البلد، و لا سيما عاصمته ووهان. إن الحجر الصحي وغيره من التدابير الإلزامية، التي تهدف إلى احتواء المرض، تعيق الاقتصاد الصيني بشدة، وتؤثر بصورة غير مباشرة على أماكن أخرى في آسيا. و لا أحد يعرف حتى الآن متى ستتمكن السلطات من التغلب على الوباء؟ وما التكلفة النهائية للاقتصاد؟ فمثلاً عندما أصاب فيروس السارس الاقتصاد الصيني في عام 2003، كان الجميع في البداية متشائمين بشأن التأثير الاقتصادي المحتمل ولكن بمجرد احتواء الوباء، انتعش الاقتصاد بقوة ، ونما الاقتصاد في نهاية المطاف بنسبة 10 ٪ في ذلك العام. و من غير المرجح أن تكون الصين محظوظة هذه المرة ، بالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية الداخلية والخارجية غير المواتية لذلك، مع استمرار وجود الفيروس القاتل ، لهذا يجب على السلطات الصينية الاستعداد للأسوأ. وقد أظهر خطاب داخلي نُشر السبت الماضي في صحيفة “بيبولز ديلي” التابعة للحزب الشيوعي أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ كان على علم بتفشي( فايروس كورونا) قبل أسابيع من تعامله بشكل علني مع المشكلة وحثّ على اتخاذ إجراء حاسم لوقفه، وقال الرئيس الصيني في الكلمة التي ألقاها: إن الوباء يؤثر على الاقتصاد وتحديدًا الصناعات الخدمية، وأضاف إنه يتعين اتخاذ الإجراءات للحفاظ على السلسلة الصناعية في الصين وتشجيع الشركات على استئناف الإنتاج، وأوضح في كلمته : إن الصين “ما زال يتعين عليها الالتزام بأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية لهذا العام”. وقال أيضا: إنه من الضروري زيادة الدعم المالي، مثل السياسات التفضيلية لأسعار الفائدة وشروط القروض، وإعادة العمال المهاجرين في قطاعات الصناعات الرئيسية إلى العمل، وإنه يفترض من المشروعات الكبرى، ولاسيما في مجال التصنيع،أن تبدأ أعمالها الإنشائية على وفق المواعيد المحددة، مؤكدًا : إن تعزيز الاستهلاك يعد وقاية مهمة ضد تأثير الوباء، و ينبغي العمل على تعزيز ثقافة تبني تكنولوجيا الجيل الخامس على نطاق أوسع فضلًا عن شراء المنتجات المرتبطة بالحياة الصحية والسيارات. ويشلّ فيروس كورونا المحركات الرئيسة للاقتصاد الصيني، فالمصانع مغلقة لأسبوع إضافي والاستهلاك شبه متوقف، ما قد يؤدي إلى تدهور النمو الهش أصلاً في الصين ويدفع بكين إلى تعزيز تدابير تحفيز الاقتصاد. وفي محاولة لاحتواء انتشار المرض، تبقى مدينة ووهان ومقاطعة هوبي (وسط)، بؤرة الفيروس، منقطعة عن العالم. ويمتد اتخاذ إجراءات مماثلة إلى مدن صينية أخرى بينها هانغتشو، حيث مقر شركة التبادل التجاري عبر الأنترنت الضخمة “علي بابا”. وطلبت السلطات في عدة مقاطعات، غالبيتها مقاطعات صناعية مثل غوانغدونغ (جنوب)، من المصانع والشركات “غير الأساسية” أن تبقي أبوابها مغلقة حتى اشعار اخر، وأوضح مكتب “أوكسفورد إيكونومكس” للتحليلات الاقتصادية ” إن تلك المناطق تمثل 50% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني، و مما يذكر إن أي تأخير في استعادة هذه المنطقة لنشاطها من شأنه أن يزيد من حدة الآثار على النمو في الربع الأول من العام”، ويمثل قطاع التصنيع، المتوقف بأغلبه عن العمل في الصين، نحو ثلث الاقتصاد الصيني . من جهته أكد لاري كودلو المستشار الاقتصادي للبيت الأبيض إن “ازدهار الصادرات” المنتظر بعد الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والصين سيتأخر بسبب تفشي فيروس كورونا. ولفت إلى إن إغلاق المصانع في الصين وتعليق حركة الملاحة الجوية لتفادي انتشار الوباء يمكن أن يولدا “عقدة في شبكة التموين” ، مع ارتفاع الأسعار وتكبد الشركات أرباحا فائقة. وخلص خبراء من شركة “أولير هيرميز” إلى إن “الوباء وعامل الخوف سيؤثران على نفقات الاستهلاك”، ففي عام 2019، أسهم الاستهلاك الخاص بنصف نسبة النمو في البلاد، أي ضعفي ما كان عليه عند انتشار متلازمة السارس في 2002-2003. ويعد الفيروس ضربة كبرى للسياحة والخدمات والتوزيع في هذه الوقت الحساس من العام، فقد أنفقت الأسر الصينية ألف مليار يوان (130 مليار يورو) خلال وقت العطلة من عام 2019، وخلال عطلة عام 2020، انخفض عدد المسافرين الصينيين عبر مختلف وسائل النقل بنسبة 70%، مقارنة مع العام الماضي بحسب “ستاندرد أند بورز”. كما أوقفت شركات طيران عالمية كثيرة رحلاتها إلى مناطق بالصين، ويرى محللون من “غولدمان ساكس” إن (الأثر الاقتصادي (للفيروس قد يكون أقوى من أثر فيروس السارس، إذ خفضوا توقعهم لنمو الاقتصاد الصيني إلى 4%، مقابل 5,6% في توقعات سابقة للربع الأول من العام. من جانب آخر، دعت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا إلى التريّث قبل تقييم أثر فيروس كورونا المستجد على اقتصاد الصين والاقتصاد العالمي، ولكنّها أكدت إن أي تأثير على اقتصاد الصين يلقي بتداعياته على الاقتصاد العالمي. و أشارت إلى إن الصندوق يعمل على جمع المعطيات اللازمة لتقييم التأثير الكامل لفيروس كورونا المستجد في الصين، وقالت أيضًا : “لا نزال في مرحلة تتسم بالكثير من عدم اليقين، ولذا سأتحدث عن السيناريوهات المطروحة بدلا من التوقعات،” وأوضحت غورغييفا أنه في حين تشير التوقعات إلى تعافي الاقتصاد الصيني بسرعة مع استعداد المصانع للتعويض عن الوقت الضائع وإعادة تزويد المستودعات بالبضائع، إلا إن السيناريو الأقرب للحدوث هو أن نشهد هبوطًا حادًا ثم انتعاشًا سريعًا للأنشطة الاقتصادية، على حدّ تعبيرها، و “إن السيناريو المرجّح هو أن نرى تغيّرا على شكل حرف V أي هبوطا حادا في الأنشطة الاقتصادية في الصين يعقبه انتعاش سريع واحتواء تأثير الهبوط على الاقتصاد الصيني، وبالتالي على الاقتصاد العالمي ككل.” وهي ترى إن الغموض يحيط بطبيعة المرض والطريقة التي تتأثر بها قطاعات في الاقتصاد ومراحل التصنيع ، و تجد إننا “غالبا ما نقوم بالمقارنة بين الالتهاب الرئوي (سارس) الذي تفشى في بداية الألفية وفيروس كورونا، لكن علينا أن نتذكر إن الصين تختلف اليوم عن السابق والاقتصاد العالمي أيضا اختلف” ، و إن مرض “سارس” تفشى في وقت لم يكن للصين التأثير نفسه على الاقتصاد العالمي والذي تتمتع به اليوم، إذ كانت تشكل 8% من الاقتصاد العالمي، و أما اليوم فتشكل الصين 19% وهي متداخلة أكثر في آسيا وفي كل أنحاء العالم، “ولهذا فإن أي تشويش سيحمل أثرا على بقية الدول”. ولكن حتى لو كان معدل انتشار الفيروس بعيدًا عن ذروته، فيمكن للصين أن تخفف من صدمة الطلب الكلي السلبي عن طريق تدابير تحفيزية، مثل تلك التي أعلن عنها بنك الشعب الصيني في 2 شباط. ويمكن لحكومات، وبنوك مركزية أخرى في المنطقة اتخاذ خطوات مماثلة إذا لزم الأمر، مثلما يمكن للشركات استبدال سلاسل التوريد المعطلة بمصادر بديلة للمدخلات، وقد يزيد الاستهلاك عبر الإنترنيت، وقد تكون بعض هذه التغييرات دائمة. ومع إنه ليس واضحا مدى سرعة تطوير لقاح فعال لفيروس كورونا، إلا إن مدة الأزمة الحالية تعتمد على عاملين رئيسين، الأول: هو ما إذا كانت السلطات الصينية تستطيع السيطرة على الوضع؟ ومتى ستقوم بذلك؟ ولكن إذا فرضت الحكومة الحجر الصحي على المزيد من المدن، فإن الأزمة الاقتصادية ستزداد حدة بالتأكيد. والعامل الثاني: هو ما إذا كان يمكن للبلدان الأخرى احتواء انتشار الفيروس، وعلى غرار الأنفلونزا، قد يكون تبادل المعلومات مع الجمهور أكثر فاعلية في تقليل انتشار فيروس كورونا مقارنة مع القيود الصارمة المفروضة على حرية التنقل، والتي تنعكس سلبا على صحة الإنسان الجسدية والنفسية، وعلى الاقتصاد كذلك، ويجب على الحكومات الأخرى، التي تدرس حاليًا الاستجابة الوطنية للفيروس الجديد أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار، وينبغي للسلطات الصينية أن تنظر في مراجعة نهجها تجاه تفشي المرض في المستقبل. الحلول المقترحة يجب أن يستجيب صانعو السياسة للأزمة الحالية بثلاث طرائق. اولاً: يجب أن تكبح الوباء بغض النظر عن التكلفة. لأن الأسواق لا يمكن أن تعمل بشكل صحيح في حالات الطوارئ ، يجب على الدولة أن تلعب الدور الحاسم. في الوقت الحالي ، تتمثل إحدى أخطر العقبات الاقتصادية في توقف النقل الناجم عن الحكومات المحلية الخائفة. مع إدراك المخاوف المشروعة للمسؤولين المحليين حول منع زيادة انتشار الفيروس ، يجب على الحكومة المركزية في الصين الآن أن تتدخل لتسهيل التدفق السلس للأشخاص والمواد ، وبالتالي تقليل اضطرابات سلسلة التوريد. ثانياً : يجب على الحكومة ابتكار طرق لمساعدة الشركات على التغلب على الأزمة ، مع التركيز بشكل خاص على شركات الخدمات الصغيرة والمتوسطة، و الحرص على عدم إنشاء خطر أخلاقي لا لزوم له ، كما يجب على الحكومة خفض الضرائب ، وخفض الرسوم ، وتعويض الشركات التي تضررت بشدة و بسخاء، و أن تفكر أيضًا في إنشاء صناديق تأمين ضد الوباء حتى يتمكن المجتمع ككل من تحمل خسائر الشركات المرتبطة بالفيروس. فضلًاعلى ذلك ، فيفترض من البنوك التجارية أن تسعى جاهدة لضمان عدم وجود نقص في السيولة ، بما في ذلك عن طريق تحويل القروض إلى الشركات المتعثرة والسماح لها بتأجيل السداد، إلى جانب ذلك قد يحتاج صانعو السياسة إلى اللجوء لتدابير غير صديقة للسوق مثل الإقراض المستهدف والإقناع الأخلاقي لتوجيه تخصيص الموارد المالية ، فضلاً عن تخفيف بعض اللوائح المالية. ثالثًا: يتعين على السلطات اتباع سياسات مالية ونقدية أكثر توسعية ، حتى لو لم تهدف هذه التدابير في حد ذاتها إلى موازنة الآثار السلبية للصدمات في جانب العرض مثلاً: ينبغي أن يواصل بنك الشعب الصيني خفض أسعار الفائدة قدر الإمكان وضخ سيولة كافية في سوق المال، وعلى الرغم من أن التضخم قد ارتفع نتيجة لتعطل سلسلة التوريد، إذ يمكن بعد تسلق أبعد، وتشديد سياسات الاقتصاد الكلي في هذه المرحلة أن تؤدي الى نتائج عكسية. وبالمثل، و مع إنه من غير المحتمل أن تطلق الحكومة مشاريع استثمار واسعة النطاق في البنية التحتية قبل احتواء الفيروس ، إلا إن عجز الموازنة العامة قد ينمو بالرغم من الزيادة المرتبطة بالوباء في الإنفاق وانخفاض عائدات الضرائب، وفي معركتها للسيطرة على انتشار الفيروس ، يجب ألا تقلق الحكومة كثيرًا بشأن ما إذا كان عجز الموازنة يتجاوز 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي، فمما لا شك إن المعركة ضد فيروس كورونا ستكون مكلفة للغاية وستعكس بعض إنجازات السلطات الصينية الأخيرة في كبح المخاطر المالية الآن ، ومع ذلك ، فإن أي مشاكل محتملة تتعلق بالديون أو التضخم أو فقاعات الأصول هي مشاكل ثانوية، يمكن لواضعي السياسات القلق بشأنهم بمجرد تهدئة الموقف، إذ لم يعد التحدي الأكثر إلحاحًا لواضعي السياسات الصينيين يتمحور حول كيفية تحفيز الطلب الكلي ، بل كيفية التأكد من إن الاقتصاد يعمل بشكل طبيعي قدر الإمكان من دون المساس بمكافحة الفيروس ، عاجلاً أم آجلاً ، سيتم التغلب على الوباء ، وسيعود الاقتصاد الصيني إلى طريق النمو الطبيعي، وعندما يحدث ذلك فإن مسألة ما إذا كانت الصين بحاجة إلى مزيد من السياسات المالية والنقدية التوسعية لتحقيق مستوى كاف من النمو ستعود إلى جدول الأعمال، فالأساس المنطقي لموقف أكثر مرونة لا يزال ساريا في الواقع ، للتعويض عن الخسائر الناجمة عن انتشار الفيروس ، وقد تضطر السلطات الصينية إلى تبني سياسات توسعية أكثر مما اقترحت (وغيرها). الهوامش