بقلم : أ. د. سامر مؤيد عبد اللطيف
مركز الدراسات الاستراتيجية / جامعة كربلاء
تعصف بالأمم عبر مساراتها التاريخية أحداث جسام ومصائب كبرى ، تكبدها أعظم الخسائر بالارواح والقدرات المادية وأفدحها ؛ فتترك في ذاكرتها الحضارية ووعيها الجمعي جروحاً وآثاراً لاتندمل مهما استطال الزمن وتراكمت السنون ، لعمق المحنة وضراوة تداعياتها . ورغم كل ما تخلفه تلك المحن من دمار يفوق الوصف والتصور ، يبرز من تحت رمادها الدامي الامل الدائم بغدٍ افضل، والاهم منه واجدى ، الوعي المتحصل من عمق المحنة ، والخبرة المتراكمة لهذه الامم من مواجهة تلك التجارب القاسية ، والتي غالبا ما تتبلور الى خطط ورؤى لتجاوز امثالها في المستقبل ، اذا ما إختارت تلك الامم وقياداتها البقاء والاستمرار في ركب الحضارة الانسانية ؛ فمن عمق المحنة والمأساة ، ينبغي ان نستلهم الدروس والعبر ونصوغ الاستراتيجيات التي تجنبنا المزيد من الخسائر والاضرار في المحن القادمة.
وحتى مع إفتراض تردي الواقع وعمق مأساته ، وإفتقاده لأغلب مستلزمات وامكانات تحقيق الحد الادنى لتنفيذ اي استراتيجية لمواجهة اي حالة طارئة او محنة كبرى ، فان ذلك لايمنع من نسج التصورات وبناء الرؤى لغدٍ واعدٍ يتجاوز عثرات الحاضر واخفاقاته . واذا ما انقطعت عن امة ما سبل الاستجابة والنهوض في الوقت الحاضر ، فان ذلك لايمنعها من تطويع الفرص والامكانات للاستجابة والنهوض في المستقبل ، فلم تكن اعظم الاختراعات والابتكارات والانتصارات التي غيرت مجرى التأريخ الا عصارة فكر انساني صقلته التجربة ونضجته المحنة او الحاجة .
ومن هذا المنطلق ، ومع تعرض البشرية قاطبة والعراق خاصة ، اليوم ، للوباء الذي يسببه فايروس(الكورونا او كوفيد 19) ، فان المسؤولية الانسانية والوطنية والعلمية تدعونا لاستنفار طاقاتنا واستلهام التجارب والدروس ونسج التصورات لبناء نواة استراتيجية وطنية تمكن بلدنا – عند توافر القيادة الرشيدة والقدرة الواعدة – من تجاوز اي محنة مماثلة في الحاضر او المستقبل باقل الخسائر ، تتجسد ملامحها بالاتي :-
ترسخ الوعي لدى القيادة والقاعدة الجمعية بخطورة هذه التهديدات الوبائية واحتمالية تكرارها بصيغ اكثر ضراوة في المستقبل ، مع تأكيد الحاجة الماسة لضرورة الاستعداد لها على كل المستويات والصعد وبكل الامكانات والقدرات المتاحة . وحتى مع افتراض عدم توافر ذلك القدر من الوعي اللازم لبناء الاستراتيجية او اتخاذ التدابير الاحترازية والتعامل بحرص مع تبعات المحنة ( الوباء ) وغيره ، فان ذلك لا يسقط واجب السلطات والعقلاء في بلدنا في استزراع وانضاج هذا الوعي اذا لم تستخلصه الامة مسبقا من عمق المحنة ومأساتها .
يتفرع مما سبق ويتكامل معه ، الدعوة الى استحداث نطاق معرفي شامل لمواجهة الازمات الوطنية على صعيد الدولة ومؤسساتها وادارتها يبدأ بتشكيل ( حكومة طوارئ او ازمات) وتشريع ( قوانين للطوارئ والازمات) ، وتخصيص (اقسام مستقلة داخل كل مؤسسة من مؤسسات الدولة تعنى بمواجهة الازمات بضمنها الامراض الوبائية وغيرها ) ، واستحداث (مناهج دراسية بعنوان مواجهة الازمات ، من ادنى المستويات الى اعلاها ومن اضيق نطاق الى اوسعه.. الفردية منها والجماعية حسب تقدم المراحل الدراسية ، تستهدف هذه المناهج تطوير مهارات التفكير والتصرف للافراد اثناء الازمات بدءا من الازمات الفردية والعائلية وانتهاء بالازمات الوطنية والكبرى ) ، كذلك ثمة حاجة ماسة لاستحداث (حقل معرفي مستقل ومتخصص بدراسة الازمات ضمن نطاق كل تخصص علمي من الاختصاصات التي تدرس في جامعات الدولة ومعاهدها مثل ( علم ادارة الازمة سياسيا ، واقتصاديا ، وقانونيا ، واجتماعيا ، وطبيا ، وبيئيا ، الخ ) ، ولا يمكن تجاوز اهمية تخصيص قطاع اعلامي مدرب وفاعل يعنى بمواجهة اي ازمة تتهدد الدولة عبر التوعية بمخاطرها والاستجابة بفاعلية لاي خطط وتدابير لمواجهتها والاستعداد لها والتعامل برشد معها والتوقي من تبعاتها .
تشكيل هيئة عليا دائمة على مستوى الدولة ككل تسمى ( خلية الازمة او هيئة الامن الوطني ) تضم اليها الوزراء والقيادات المعنية بالازمة في قطاعات (الصحة والداخلية ، والدفاع ، والتخطيط ، والمالية ، والتعليم العالي ، وحتى الصناعة ، والتجارة ) الى جانب العلماء والخبراء في قطاعات ( الطب ، وعلوم الاحياء، والتقانات الطبية ، وتقنيات الحاسوب ، والاقتصاد، والتخطيط ، والاجتماع ، والاعلام ) ، بالاضافة الى القيادات الجماهيرية ؛ على ان تشكل داخل كل محافظة هيئة مرادفة ومصغرة يمثلها مندوبون في الهيئة العليا ، تتألف من المحافظ وسائر المسؤولين والعلماء والخبراء في القطاعات المعنية ذاتها المتواجدة في الهيئة العليا وامتدادا لها .
تتولى هذه الهيئة ومرادفاتها المحلية ، اعداد الخطط لكل الازمات ، ودراسة الامكانيات وبناء التصورات واتخاذ التدابير وادارة الازمات التي تواجه الدولة بضمنها ( الامراض الوبائية ) ، شريطة ان تزود هذه الهيئة بكافة المستلزمات والصلاحيات اللازمة للاستجابة الفاعلة لاي ازمة صحية او غيرها بموجب قانون يشرع خصيصا لهذا الغرض . كما وينبغي ان تتخذ هذه الهيئة ورديفاتها موقعا رئيسا ومواقع بديلة في العاصمة وكل المحافظات لضمان اجتماع الاعضاء فيها وتواصلهم في كل الاوقات وفي اوقات الازمة خاصة ، على ان يتم تأمين الارتباط والتواصل الفاعل بين هؤلاء الاعضاء بكل وسائل الاتصال الحديثة او التقليدية البديلة لمواجهة كافة الاحتمالات اثناء الازمات .
تهيئة الامكانات المادية بتخصيص نسبة من الموازنة العامة للدولة كنوع من التامين ضد الازمات المستقبلية ( تخصيصات الطوارئ ) ، وتهيئة الملاذات الامنة البديلة في كل محافظة ، وتأمين خطوط النقل ووسائله البديلة والامنة اليها ، مع ضمان وسائل الاتصال والتواصل والدعم اللوجستي والطبي اللازمة لكافة ابناء الشعب في اوقات الازمة وجميع الاماكن ولاسيما في الملاذات الامنة ، مع ضرورة تهيئة الكوادر البشرية – حتى على مستوى الاحياء الصغيرة – وتدريبها لمواجهة كافة الظروف والاحتمالات في ضوء خطة مدروسة ومعدة سلفا من قبل الهيئة العليا وبالتنسيق مع الهيئات المحلية
تخصيص مختبرات علمية ، ومراكز بحثية مساعدة متخصصة ، تأخذ على عاتقها مهمة اجراء الدراسات والتجارب المختبرية على اي وباء مستجد وايجاد العلاج له حتى قبل ان يصل الى ارضنا ، مع وجوب تخصيص ردهات مستقلة وامنة تماما في المستشفيات والمراكز الطبية لاستيعاب الحالات الطارئة – على سبيل الدوام – في جميع المحافظات وتزويدها بما يلزمها من معدات وتجهيزات طبية للعناية بالمصابين ، وخطوط انتاجية مستقلة ضمن الوحدات الصناعية لتزويد الشعب باحتياجاته الغذائية والطبية اثناء الازمات ، مع ضرورة تهيئة وحدات تخزين امنة وصحية في كل محافظات الدولة تحتوي ما يحتاجه الشعب من معدات ومواد وتجهيزات اثناء الازمات والكوارث الصحية وغيرها .
تنفيذ برامج محاكاة لحدوث ازمات وكوارث صحية وغيرها على مستوى البلاد وتدريب الافراد على كيفية التصرف وفق كل حالة، استعدادا لحدوث اي طارئ وتجنبا للفوضى والارتباك ولتجاوز اي اخطاء محتملة الحدوث اثناء تطبيق خطط الطوارئ ، بما يسهم في تقليل الخسائر المادية اذا ما تعرضت الدولة لاي وباء او كارثة.
أضع ما تقدم واملي ان يصل الى من يعنيه الامر وتهمه احوال الناس ؛ فيجد فيما عرضت فائدة ، ويملك من زمام الامر ما يمكنه من تجنيب البشرية امثال هذه المخاطر … حفظ الله العراق واهله وسائر بلاد المسلمين والعالمين اي مكروه …