بقلم: أ.د. سامر مؤيد عبد اللطيف
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
لم يكن العالم على إستعدادٍ لاستقبال هذا الوباء الخطير الذي يسببه فايروس كورونا المستجد ، ولربما كانت المفاجئة او الاستهانة بخطورة المرض وسرعة انتشاره الخفي وتكتم بعض الحكومات على حقيقة انتشاره ، من اهم العوامل التي ساعدت في تحوله الى وباء عالمي، إجتاح كل الحدود والقيود وتجاوز كل التحصينات التي إتخذتها أحرص الحكومات في مواجهته .
ومنذ إنتشار هذا الوباء عالمياً ، كانت السياسة وعالمها من بين أهم الميادين التي اقتحمها هذا المرض وطالها بشرره ، فاصاب في مقتلٍ ، غرور القوة والجبروت وطموح الهيمنة والنفوذ التي طالما تبجحت بها القوى الدولية وحضارة الانسان ، وانبرى زعماء الدول الكبرى والصغرى على حدٍ سواء يعترفون بعجزهم وقلة حيلتهم؛ فمنهم من أحال الامر الى إرادة السماء كما فعل رئيس وزراء ايطاليا ، ومنهم من طالب مواطنيه بوداع أحبتهم كما فعل رئيس وزراء بريطانيا . ولم تسكن جائحة هذا المرض عند هذه الحدود او تكتفي بهذه الرسالة البليغة ، بل راح هذا الفايروس اللعين يطيح بالعديد من ثوابت السياسة ويمعن بضراوة في اعادة تشكيل احداثياتها وحساباتها الاستراتيجية العالمية والوطنية بعد ان افقد البشرية وحكوماتها ، توازنها وسيطرتها ، بل ان هذا الفايروس المتناهي في الصغر قد نجح وبفاعلية في اصابة القوى الدولية ومشاريعها الاستراتيجية بحالة من الشلل وفقدان الوعي – شبه التام– وكانت العولمة وتوجهاتها من بين اهم ضحايا المرض على صعيد النظام السياسي الدولي ، اذ سرعان ما اغلقت اغلب دول العالم واولها الولايات المتحدة الامريكية ابوابها امام القادم الغريب وتبنت – بصورة او اخرى – سياسة الباب المغلق الذي تخلت عنه منذ بداية الحرب العالمية الثانية ، بالتزامن مع تعطيل شبه تام وتجميد غير محسوب لكل القضايا والمشاكل الدولية العالقة ومعها كل الاستراتيجيات المعدة لتكريس النفوذ وتعزيز المكانة الدولية ، بالنظر لانشغال صناع القرار بحروبهم الداخلية مع مخاطر هذا الوباء .
لقد خيم الرداء الابيض والكمامة على سياسات الدول وخطابات حكامها ، ولم يبق من العولمة – في هذا الوقت العصيب – غير امنها الصحي الذي طغى على ما سواه في حسابات السياسيين على الصعيدين الدولي والداخلي ، ليستعيد هذا المتغير( الامن الصحي ) ، مكانته وبريقه في سلم اولويات الامن الوطني وحتى العالمي وليؤكد بكل الصيغ والحسابات مبدأ شمولية الامن وتكامل ابعاده . وهكذا انقلب هرم الاولويات لصناع القرار وتبدلت بوصلة الاهتمامات ، ليتقدم فيها البعد الداخلي على البعد الخارجي ، والجانب الصحي على ما سواه من الجوانب ،عند اعداد الخطط واتخاذ القرارات.
وبكل الاحوال لقد نجح فايروس الكورونا في ضبط ايقاع السياسات الجامحة للدول وترويضها، ولاسيما تلك السياسات التي جلبت التلوث والاحتباس الحراري لبيئتنا ، واندفعت لخوض الحروب وافتعال الازمات في محاولة الوصول الى مصادر الطاقة والهيمنة على اسواقها ؛ اي بعبارة اخرى لقد اسهم هذا الوباء بصورة غير مباشرة في خفض مناسيب الازمات الدولية والتلوث بعد ان توقفت العديد من المصانع عن العمل ، وخفت حمى البحث عن الطاقة اللازمة لتشغيل تلك المصانع .
على صعيد اخر ، فقد خففت المحنة من غلواء العداء بين بعض الدول المتنافسة واقامت جسور التعاون بينها لمواجهة التهديد المشترك كما حصل مع دول اوربا والصين ، لكنها (اي المحنة) قد قطعت – بالمقابل- حبال الود بين الحلفاء التقليدين ، في احيان، كما حصل بين اوربا والولايات المتحدة ، وبين دول الاتحاد الاوربي ذاتها ، بسبب تخلي بعضها عن البعض الاخر وانشغال الجميع في دوامة المواجهة الضارية لانتشار الوباء . وفي احيان اخرى كان هذا الفايروس سبباً مباشراً في إشتعال حرب الاتهامات المتبادلة بين الخصوم، باستخدام هذا السلاح البايلوجي للإضرار بمكانتهم الدولية ومصالحهم الاستراتيجية كما حصل بين طهران وبكين من جانب وواشنطن من جانب اخر . غير ان الدرس البليغ الذي خرج به الجميع من هذه المحنة ، قد تمحور في توافر القناعة التامة ، لدى صناع القرار باستبعاد امكانية استخدام السلاح البايلوجي في اي حرب او مؤامرة مستقبلية بالنظر لهول الخسائر التي خلفها انتشار هذا الوباء، ولاسيما مع تلاشي امكانية السيطرة عليه او الاحتماء من اثاره تحت اي ظرف من الظروف.
على صعيد السياسات الوطنية ، كانت الشفافية والمكاشفة بين الحاكم وشعبه حول مخاطر المرض وخسائره ، من اهم الدروس التي تعلمتها حكومات الدول ، ولاسيما الشمولية منها، بعد ان دفعت نظير صمتها وتكتمها على انتشار المرض ، أعظم الخسائر البشرية والمادية وحتى المعنوية ، ولازالت تسدد بمرارة فاتورة هذه السياسة الخائبة .
وفي سياق متصل ، اماط هذا الوباء اللثام عن قبح وانتهازية العديد من الحكومات وفضح ممارساتها الدنيئة ليس على مستوى إخفاء حقيقة انتشار هذا المرض عن شعوبها والعالم فحسب ، بل في استغلال محنة شعوبها في تحقيق بعض المكاسب السياسية او الاقتصادية بضمنها التملص من بعض الازمات او احراج القوى الدولية والضغط عليها ؛ حتى وان اضطرها ذلك لاستمرار فتح الحدود واستقبال القادمين من الدول الموبوءة بالمرض او سبب لها اكبر الخسائر البشرية . وليس بعيدا عن ذلك إنكشاف زيف إدعاءات بعض الحكومات ودعواتها لحماية حقوق الانسان، بعد ان تخلت في اول موجة للمرض عن بعض مواطنيها بدواعي العجز عن معالجتهم كما فعلت الحكومة الايطالية مع كبار السن من مواطنيها ، او باطلاق دعوات مناعة القطيع التي تبناها رئيس وزراء بريطانيا في اشارة الى الاستهانة بروح شعبه والنظرة اليه بوصفه قطيعا وليس شعبا .
وما تقدم ، اكد فرضية قديمة مفادها، ان الازمات التي تواجه الدول ومنها هذا الوباء ، تكبد الديمقراطية وحريات الانسان خسائر انية لايستهان بها ، وقد تكون بوابة لولادة نظم استبدادية تستبيح الحقوق وتصادر الحريات، والمثال الصارخ على هذا المقصد ينهض من القرارات الصعبة والتدابير القاسية التي اتخذتها حكومات الدول في مواجهة انتشار وباء الكورونا تحت عنوان حضر التجوال على حساب تقييد بعض الحريات المهمة لمواطنيها كحرية التنقل والمشاركة والتعبير وانتهاك بعض الحقوق كالحق بالخصوصية .
على صعيد اخر ، لقد اثبت انتشار المرض حجج وادعاءات انصار الحركات اليمينة في اغلب دول العالم ورجح دعواتها الدائمة الى مواجهة موجات الهجرة والانفتاح على الاسواق والاستثمارات العالمية ، الامر الذي سيكسب هذه الحركات في المستقبل المنظور قواعد شعبية اوسع ومواقع متقدمة في حكومات بلدانها التي دفعت بفعل سياسة الباب المفتوح خسائر كبيرة ولم تجن من ذلك الا الخذلان وخيبة الامل .
ومن رحم المحنة وعمق المأساة ، ينبغي ان تتنبه الحكومات الى اهمية وفاعلية الادارة من خلال الازمة ، وضرورة اتخاذ التدابير الوقائية وتوفير بعض القدرات الاحتياطية واعداد الخطط اللازمة لمواجهة اي ظروف او ازمات طارئة او كوارث مهما كان نوعها في المستقبل ؛ ( فاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) .