أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث في الشؤون المالية
باحث مشارك في قسم ادارة الازمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
تمثل منظمة الصحة العالمية احدى الوكالات التابعة للأمم المتحدة ، تم انشاءها عام ١٩٤٨ ، وهي منظمة مهنية متخصصة بشؤون الصحة العالمية وتصميم البرامج الصحية وتعميم تطبيقاتها على دول العالم وفق مبدا (الصحة للجميع ) بغض النظر عن الاعتبارات السياسية والخلافات بين الدول .
وفي اطار منهج العولمة الذي اجتاح العالم منذ عقود تربعت الولايات المتحدة على زعامة النظام الاقتصادي العالمي واستطاعت ان يكون لها سيطرة و درجة كبيرة من الهيمنة على قرارات ابرز المؤسسات الاقتصادية العالمية ، كمنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي .
وعلى الرغم من ان معظم رؤساء الولايات المتحدة السابقين قد استخدموا (العصا الاقتصادية) وقضايا التمويل والمساعدات والقروض ، بدرجة او اخرى ، لتحقيق ما تتطلبه المصالح الامريكية في العالم ، الا ان منظمة الصحة العالمية كانت بعيدة عن مثل هذه التأثيرات المنطوية على دوافع سياسية ، حتى مجيء ازمة (كورونا) والفشل الداخلي لسياسة (ترامب) في التعامل مع معطيات هذه الازمة ، مقارنة بالنجاح الذي حققته الصين في احتواء الفيروس .
فقد استطاعت الصين تطبيق برنامج للعزل الاقتصادي والتباعد الاجتماعي باستخدام سلطة الدولة اثبت فاعليته في الحد من الاصابات والوفيات ، ومن ثم كانت عملية احتواء تداعيات (الفيروس) بشكل افضل ، في حين جاءت اجراءات العزل الاقتصادي والاجتماعي في الولايات المتحدة ضعيفة ومتأخرة ، في اطار توجهات (ترامب) ، في عدم التضييق على الاقتصاد لاعتبارات انتخابية واعتبارات تتعلق بالمال والاستثمار .
وقد اثنت منظمة الصحة العالمية على تجربة الصين في احتواء المرض من منطلقات مهنية مستقلة ،في حين اراد منها (ترامب) ان تكون قرارات وتقييمات المنظمة وفقا للرغبات الامريكية، باعتبار ان الولايات المتحدة تساهم بأكبر نسبة في تمويل المنظمة والتي تبلغ ٢٠ بالمئة من اجمالي التمويل الذي تحصل عليه المنظمة من دول العالم . ومن ثم فقد اوقف (ترامب) تمويل المنظمة كأجراء عقابي بدعوى محاباتها للصين في تقييمها لإجراءات احتواء (فيروس كورونا) .
ولكن هل يستطيع (ترامب) فرض السيطرة على منظمة الصحة العالمية باستخدام (عصا التمويل) في ظل حالة التنافس القائمة بين الولايات المتحدة والصين والتي اصبحت تتجاوز ميادين الاقتصاد ؟ وهل ستتقدم القدرة التنافسية للصين في قضايا الصحة ، كما تتقدم قدرتها التنافسية في مجال الاستثمارات والتجارة الدولية ، والتي اصبحت احد عوامل القلق والخشية الامريكية من طموحات الصين المستقبلية نحو الزعامة الاقتصادية للنظام الاقتصادي العالمي في العقود القادمة ؟
ان اسلوب ممارسة الضغوط المالية في مجال الصحة العالمية كأداة من ادوات التحكم والسيطرة ، لا يمكن ان يكون مجديا ، انطلاقا من ان درجة المهنية والاستقلالية في الميدان الصحي الاممي هي درجة عالية وكبيرة ، فهنا ليس لدينا استثمارات وجني ارباح مادية ، حيث تحل المعايير الانسانية والاجتماعية محل المعايير الاقتصادية والسياسية . ولقد دفع المضمون الانساني والاجتماعي بعض اثرياء العالم في هذه المرحلة الحرجة التي ينتشر فيها (فيروس كورونا) الى المساهمة في تمويل الانشطة الصحية العالمية والمحلية في اطار مبدا التكافل الاجتماعي . كما سعت الكثير من الدول الى زيادة مساهمتها في التمويل الصحي العالمي من اجل الاسراع في ايجاد اللقاحات والعلاج اللازم للقضاء على (فيروس كورونا) .
لقد اظهرت ازمة (فيروس كورونا) وانعكاساتها على الاقتصادات العالمية ، مدى انكشاف بعض الاقتصادات لتداعيات الازمة ، ولاسيما فيما يتعلق بالتأثيرات المحتملة على قطبي التنافس التجاري (الولايات المتحدة والصين) ، مما يجعل بعض المتابعين لشؤون الاقتصاد العالمي يعتبرون ان حالة النظام الاقتصادي العالمي بعد ازمة (كورونا) سوف لن تكون مثلما كانت قبل حدوث هذه الازمة ، ومن ثم يمكن ان تكون هنالك اعادة ترتيب للمراكز الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين في التصدّر للنظام الاقتصادي العالمي المقبل في ظل مؤشرات تزايد القدرة التنافسية التجارية للصين واستمرار تحقيق الصين لمعدلات نمو اقتصادي تعد الاعلى عالميا على الرغم من التأثيرات التي تولّدت عن الازمة ، فضلا عن استمرار حجم الفائض الاقتصادي الصيني الذي يسهم في دعم العجوزات المالية للاقتصاد الامريكي من خلال شراء سندات الخزانة الامريكية والمساهمة في دعم الدولار الامريكي كأداة مدفوعات في المبادلات التجارية الدولية .
وفي ظل حصول مثل هذه المتغيرات باتجاه عملية التغيير الحاسمة ، يمكن ان يكون هنالك انفصام بين الزعامة الاقتصادية للنظام الاقتصادي العالمي الجديد والزعامة العسكرية التي لابد ان تتأثر بعد ذلك ، بمرور الزمن ، بالمتغيرات الاقتصادية العالمية وتصبح القدرة التنافسية للاقتصادات والرفاه الاقتصادي العالمي بعيدا عن تأثيرات الضغوط العسكرية والقطاع العسكري المهيمن .