أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث في الشؤون المالية باحث مشارك في قسم ادارة الازمات مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
لقد شـكّلت التطورات الأخيرة لانخفاض أسـعار النفط الى ما دون أسعار التكلفة ، مرحلة جديدة من الصدمات الشديدة على الاقتصادات الريعية ، ولاسيما تلك التي اختارت القطاع النفطي لكي يكون بديلا عن سياسات التنمية والتنويع الاقتصادي ، ويعد ما بلغه الاقتصاد العراقي من اعتماد على ريع النفط أنموذجا لذلك . هكذا هو النفط الذي تتحكم بأسعاره والكميات المطلوبة منه ، قوى السوق العالمية وهو أقرب تأثرا بالأزمات وحالات الركود والانتعاش الاقتصادي التي تواجه اقتصادات العالم . فمثلما ارتفعت أسعار النفط بعد الأزمة المالية العالمية 2008 ، الى ما يقرب (145) دولارا للبرميل قبل أن تنخفض في نهاية عام 2014 الى ما دون ذلك ، فانّ أسعار النفط أصبحت تنخفض في هذه المرحلة الى ما دون سعر تكلفة البرميل في ظل وجود الكميات الفائضة الكبيرة من المعروض النفطي ، حيث انخفض (خام برّنت) الى مستوى يقل عن (20) دولارا للبرميل ، وانخفض سعر النفط الأمريكي الى ما دون ذلك ، على الرغم من اتفاق (أوبك +) على خفض الانتاج . والسؤال هنا : لماذا هذا الاستمرار في انخفاض أسعار النفط ، وقد اتخذّت أوبك قرار تخفيض الانتاج ؟ الملاحظ على أسواق النفط العالمية ، انّها تحوّلت بدرجة كبيرة الى أسواق مستهلكين ومضاربين في التأثير على أسعار النفط في هذه المرحلة الحرجة التي يمّر بها الاقتصاد العالمي . وفي ظل هذه الظروف جاء اجتماع (أوبك +) في التاسع من نيسان 2020 ، الاّ انه لم يستطع تحقيق الهدف الأساس الذي يتمثل في ايقاف تداعيات انخفاض أسعار النفط ، أولا ، ومن ثم التحوّل نحو مرحلة تحسين الأسعار بشكل تدريجي في ضوء تحسّن الأوضاع الاقتصادية العالمية ، وذلك لأسباب عديدة : 1.الخلافات بين منتجي النفط حول نسب تخفيض الانتاج التي سيتم توزيعها على جميع الدول المنتجة للنفط ، وهو ما صار يعرف بدول (أوبك +) ، والتي تشتمل على أعضاء الأوبك ومنتجي النفط خارج الأوبك . وقد تسبّبت هذه الخلافات في تأخير انعقاد الاجتماع بين دول (أوبك +) لغاية التاسع من نيسان 2020 ، في وقت انخفضت فيه أسعار النفط الى حدود (18) دولار للبرميل ، واستطاع المستهلكون والمضاربون في بورصة النفط الاستفادة من التسابق بين المنتجين في اغراق أسواق النفط العالمية بكميات من النفط ، أصبحت تفيض عن حاجات الطلب بمديات كبيرة ، قبل أن يسري مفعول الاتفاق ويجري تطبيقه بصورة فعلية . 2.انّ الاتفاق بين منتجي النفط (أوبك +) على نسب تخفيض الانتاج في حدود (10) مليون برميل يوميا ، لم يرتقِ الى مستوى التحديات التي أصبحت تواجه أسواق النفط العالمية ، فقد أصبح فائض المعروض النفطي كبيرا ، أمتلأت به جميع مستودعات الخزين الاستراتيجي في العالم ، فضلا عن المستودعات والمخازن الثانوية الأخرى وناقلات النفط التي استعملّت من قبل المضاربين في تخزين النفط الرخيص خلال الفترة التي تهاوت فيها أسعار النفط . 3.انّ اتفاق (أوبك +) على تخفيض الانتاج ، على الرغم من محدودية تأثيره مقارنة بما آلت اليه أسواق النفط العالمية ، لم يجرِ تطبيقه فورا ، وانما تم الاتفاق على أن يكون سريانه اعتبارا من الأول من أيار2020 ، ممّا أعطى فترة اضافية لتدفق المزيد من فائض المعروض النفطي الى الأسواق ، والذي أسهم في استمرار الانخفاض في الأسعار . 4.انّ التداعيات الاقتصادية الناجمة عن أزمة (فيروس كورونا) ما تزال تأثيراتها مستمرة على الاقتصاد العالمي ، وانّ تعافي اقتصادات الدول من الركود الاقتصادي بحاجة الى وقت أطوّل من أجل زيادة معدلات النمو ، الأمر الذي قد يتطلب اتفاقا جديدا بين دول (أوبك+) يراعي الظروف الجديدة التي أصبحت تفرضها معطيات أسواق النفط العالمية في ظل استفحال المضاربات في بورصة النفط ، فضلا عن الأثر السلبي على أسعار النفط الذي أصبحت تشكّله المخزونات النفطية الاسـتراتيجية في العالم . 5.انّ الدول الصناعية الكبرى المستهلكة للنفط ، ولاسيّما الولايات المتحدة ، أرادت من اتفاق تخفيض الانتاج لدول (أوبك +) ، دعم صناعة الطاقة في بلدانها وعمليات الاستثمار في النفط الصخري ذات التكلفة الأعلى مقارنة بنفط الشرق الأوسط ، حيث تشكّل هذه الصناعة في الولايات المتحدة قطاعا واسعا ، دون أن تكون هنالك التزامات بتخفيض الانتاج في صناعتها النفطية ، أوالتزامات بزيادة الطلب على النفط من أجل موازنته بالمعروض النفطي والحفاظ على استقرار الأسعار . ومن ثم فقد كان التركيز على جانب العرض دون جانب الطلب الذي يدخل ضمن مسؤولية الدول الصناعية الكبرى من أجل المساهمة في استقرار الأسعار . ولذلك ، وبخلاف توقعات الكثير من المراقبين ، فقد كان هنالك استمرار في انخفاض أسعار النفط ، ولم يثبت اتفاق (أوبك +) نجاعته بشكل عاجل ، في احتواء تدعيات أزمة أسواق النفط ، ممّا قد يتطلب اجراءات اضافية تشتمل على تفعيل جانبي العرض والطلب العالمي على النفط بمّا يسهم في الوصول الى مستوى مناسب من الأسعار يساعد في الحفاظ على مصالح الدول المنتجة والمستهلكة للنفط على حد سواء . الاّ أنه على الرغم من استمرار انخفاض الأسعار بعد اتفاق (أوبك +) ، فانّ هذا الانخفاض يمكن أن يكون مؤقتا ولا يمثّل مؤشرات أسواق النفط الحقيقية . ومن ثم من المتوقع أن يشهد شهر أيار المقبل تحسّنا في الأسعار قد تصل الى حدود (30) دولار للبرميل في ضوء تطبيق اجراءات خفض الانتاج ، مع سـعيّ الدول الصناعية لدعم جانب الطلب. ولحين اعادة التوازن الى أسواق النفط العالمية وظهور بوادر التحسـّن في أسعار النفط ، فانّ العراق أصبح بأمس الحاجة الى تطبيق اجراءات لمواجهة تداعيات انخفاض الأسعار على الموازنة العامة للدولة 2020 ، والتي تشكّل النفقات التشغيلية فيها حوالي70% من اجمالي النفقات العامة ، وتعّد مسألة التزام الدولة بدفع الرواتب الجانب الأكثر أهمية في هذا المجال . ومن ثم فانّ عجز الايرادات النفطية في موازنة 2020 عن الايفاء بفقرة دفع الرواتب ، والتي تقدّر بحوالي (50) مليار دولار ، من شأنه أن يضع الحكومة العراقية المقبلة أمام خيارات صعبة ، في ظل التوقعات باحتمال انخفاض الايرادات النفطية الى حدود (25) مليار دولار في ظل ظروف الأسعار الحالية ، كذلك في ضوء انخفاض كميات النفط التي سيصدّرها العراق الى مستويات أقل من حصته الاعتيادية المقررة . انّ الهدف الأساس من أية اجراءات حكومية لمواجهة الأزمة المالية الحالية ، سوف يتمثّل بضغط وترشيد النفقات ومحاولة ايجاد وسائل تتمكن الدولة من خلالها زيادة الايرادات من بعض المصادر التي يمكن تفعيلها بشكل أفضل ، اذ تشكّل الايرادات النفطية حوالي 93% من اجمالي الايرادات العامة ، في وقت تنخفض فيه الايرادات غير النفطية من حصيلة الضرائب والرسوم بسبب الظروف الاقتصادية الحالية واجراءات الدولة في تأجيل استحصال بعض الايرادات ، كجزء من محاولة التخفيف من الضغوط المالية على أفراد المجتمع في ظل توقّف الكثير من الأعمال . وفي اطار اجراءات الأمد القصير ، فانّ عملية ضغط النفقات ينبغي أن تراعي مدى حاكمية وضرورة النفقة ، سواء ما يتعلق بالنفقات التشغيلية أو الاستثمارية ، وتشكّل فقرة الرواتب ضمن النفقات التشغيلية الجزء الأكثر حاكمية وضرورة ، أما فيما يتعلق بعناصر النفقات التشغيلية الأخرى فانّ المرحلة الحالية تتطلب اجراءات من شأنها أن تساعد على تقليل هذه النفقات ، كنفقات المنافع الاجتماعية وعناصر النفقات الجارية المتعلقة بالمستلزمات المكتبية والسيارات الحكومية والايفادات ، كذلك امكانية تأجيل دفع مستحقات خدمات الديون في ظل التوجهات الدولية للتعاون في هذا المجال . أما فيما يتعلق بفقرة الرواتب ، فانّ أية استقطاعات ينبغي أن تستند على معايير ، ومن المقترحات نذكر ما يلي : ــ اختيار حدود عليا من الرواتب الكلية لكي تكون أوعية ذات مقدرة تكليفية لفرض الاستقطاعات . ــ أن لا تتجاوز نسبة الاستقطاعات حدود 30% من الراتب الكلي . ــ يمكن الذهاب الى اسلوب ( الادخار الاجباري ) المدعوم بالسندات الحكومية ، باعتبارها تمثّل قروضا داخلية تستوجب الوفاء بخدمات الدين بعد حين ، ويجري تضمينها في موازنة 2020 . ــ أن تتوفّر الأسـباب الموجبة لفرض هذه الاستقطاعات ، ومنها عدم كفاية ايرادات الموازنة على الايفاء بدفع الرواتب ، وأن يتم استخدام الموارد المالية المستقطعة في هذا المجال . كما تتطلب ظروف المرحلة ، ضغط النفقات الاستثمارية لحين تحسّن أسعار النفط وتحقيق زيادة في الايرادات العامة ، الأمر الذي يتطلب تأجيل تنفيذ بعض المشاريع وتقليل عمليات الصرف في هذا المجال . وعلى صعيد امكانية زيادة بعض عناصر الايرادات ، نشير الى المقترحات التالية : ــ التفاوض مع شركات النفط من أجل الالتزام بتخفيض نفقاتها والحد من الأعباء المالية التي تشكّلها هذه النفقات على الحصيلة النهائية للايرادات النفطية في الموازنة العامة ، فضلا عن تأجيل دفع مستحقاتها المالية . ــ امكانية تفعيل تطبيق قانون التعريفة الكمركية رقم 22 لسنة 2010 بالنسبة لبعض موادّه ، بدلا من الاستمرار في تطبيق قرار مجلس الوزراء بتقليص فئات الرسوم ، بما يسهم في زيادة الايرادات الكمركية وترشيد الاستهلاك من بعض الأصناف من السلع المستوردة التي يمكن التقليل من استيراداتها في هذه المرحلة . ــ ترشيد استخدامات الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي ضمن منافذ بيع العملة في ضوء اجراءات تساعد على تنظيم الاستيرادات والتحويلات المالية ، بما تتطلبه طبيعة ظروف المرحلة ويسهم في توفير قدر أكبر من العملة الأجنبية التي يمكن أن تستخدم في دعم عجز الموازنة وتسهيل عمليات الاقتراض الحكومي . ــ تفعيل تطبيق قانون حماية المنتج الوطني والتزام مؤسسات الدولة بشراء المنتجات المحلية بهدف توفير الدعم اللازم للشركات والمعامل الصناعية العامة لزيادة مبيعاتها والمساهمة بقدر أكبر في تمويل جانب الايرادات في الموازنة العامة ، كما يسهم في دعم المشاريع الانتاجية في القطاع الخاص ، وفق اجراءات المرحلة ، من أجل التأسيس لسياسات اقتصادية واجراءات قادمة تتطلب أجلا أطول ، والتي ينبغي أن تعنى بها الحكومات المقبلة لاخراج الاقتصاد العراقي من ريعيته الشديدة والذهاب الى سياسات التنويع الاقتصادي في اطار اجراءات الأمد الطويل التي ينبغي أن ترتكز على دور فاعل للقطاع الخاص في عملية التنمية الاقتصادية ، لتقليل الاعتماد على ايرادات النفط وزيادة حصيلة الايرادات غير النفطية ذات الارتباط الأكبر بالتنمية الحقيقية .