م. ميثاق مناحي العيسى
قسم الدراسات السياسية
ايار/ 2020
كما كان متوقعاً، تم تمرير حكومة السيد الكاظمي داخل مجلس النواب وفق ما يسمى بعرف القوى السياسية العراقية التمرير بـ “التقسيط”؛ وذلك بسبب التقاطعات الكبيرة وحالات عدم الثقة التي تحكم العلاقة بين تلك القوى، وتقاطعاتها مع محددات وشروط الشارع العراقي؛ لتأتي الحكومة المؤقتة بعد مرحلة الفشل التي مُنيت بها حكومة السيد عادل عبد المهدي ، و الانتكاسات الكبيرة التي تعرض لها العراق خلال تلك الفترة، سواء على مستوى السيادة التي استباحتها واشنطن وطهران وحلفاؤها من (الفصائل والمليشيات المسلحة)، أو على مستوى الخدمات والاداء الحكومي المهين، الذي وضعها ضمن خانة (افشل الحكومات) التي مرت في تاريخ العراق الحديث.
حقيقة الأمر، إن اختيار القوى الشيعية للسيد الكاظمي جاء على مضض، فبعضها كان أمام خيارين أحلاهما مر في ترشيح السيد الكاظمي: إما القبول بالمرشح المرفوض إيرانياً (الزرفي)، أو القبول بترشيح البيت الشيعي للكاظمي، وهذه الخاصية قد تضعه إمام تحدي كبير على مستوى التنفيذ والمعارضة والابتزاز السياسي. لكن إذا ما اخذنا فرضية “الحكومة المؤقتة”، اي بمعنى أذا ما اعتبرنا حكومة السيد الكاظمي بأنها حكومة لمعالجة الفشل الذي مُنيت بها سابقتها، ستكون إمامها استحقاقات وطنية مهمة على مستوى التنفيذ وليس التنظير، وهذه الاستحقاقات تتعلق بمصير أمة واستحقاقات شعب ومستقبل بلد، يمكن حصرها بخمسة مستويات:
المستوى الأول: التصدي لجائحة كورونا ومواجهة تداعياتها المقبلة.
المستوى الثاني: اقناع المتظاهرين بالبرنامج والاداء الحكومي.
المستوى الثالث: مواجهة الازمة الاقتصادية وتداعياتها الكبيرة.
المستوى الرابع: التوازن في العلاقات الخارجية (اقليمياً وعالمياً)
المستوى الخامس: التحدي الأمني وفرضية إعادة سيناريو “داعش”.
من يستطلع تلك التحديات أو الاستحقاقات أعلاه، يرى بأنها على خط واحد من الأهمية والخطورة، ويستكشف بأنها استحقاقات متداخلة مع بعضهما البعض، على الرغم من تسلسلها التراتبي. وقبل الخوض في غمار تلك المستويات، نذكر بأن السيد الكاظمي تعهد في بداية تكليفه: “بأنه سيشكل حكومة غير جدلية وخادمة للشعب”.
المستوى الأول: التصدي لجائحة كورونا ومواجهة تداعياتها المقبلة
إن وصف منظمة الصحة العالمية لوباء كورونا بأنه ‘‘جائحة عالمية‘‘ يلخص كل فرضيات الاستهانة بهذا الوباء، فهناك من يرى بأنها أزمة تاريخية، وستكون اكبر ازمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية. هذه الازمة ستكون قاسية جداً على الدول التي تعيش حالات عدم الاستقرار على مستوى العالم، ولاسيما على نطاق منطقة الشرق الاوسط، والعراق على ‘‘وجه الخصوص‘‘، وتأتي خطورة هذا الوباء في العراق، ليس فقط بسبب تداعياته الاقتصادية وانخفاض اسعار النفط، بل في تداعياته الاجتماعية ايضاً. فالناس لا يمكنهم المكوث في منازلهم أكثر مما ينبغي، وهذا قد يكون دافعاً قوياً لكثير من شرائح المجتمع أن تلتحق بركب التظاهرات ‘‘التي من المؤمل أن تنطلق بعد تخفيف اجراءات الحظر‘‘. وقد تكون هذه الأزمة مداعاة لتفجير الصراعات والاحتجاجات؛ نتيجة لحالات الجوع والفقر واليأس، وربما تكون تلك الاحتجاجات مختلفة عن احتجاجات انتفاضة تشرين، أي بمعنى أنها ستكون بعيداً عن الاهداف السياسية. فضلاً عن ذلك، فأن أزمة كورونا من شأنها أن تعيد نشاط المجموعات المتطرفة والعصابات، ولاسيما أن تداعيات تلك الأزمة، قد بدأت بالفعل مع الازمة المالية والانخفاض الكبير في اسعار النفط، وتداعياتها على الوضع الاقتصادي العراقي، ورواتب الموظفين، والوضع المعاشي للمواطن العراقي بشكل عام، في ظل اجراءات الحظر. وهذا بدوره ستترتب عليه تداعيات اجتماعية في تصاعد حالات التفكك الاسري، وانتشار معدلات الجريمة المنظمة وغير المنظمة وتعاطي المخدرات وربما تزايد في حالات الانتحار، فضلاً عن النزاع العشائري، الذي يزيد من حالات التفكك الاجتماعي؛ وهذا من شانه أيضاً، أن يؤثر على دينامية ومستقبل النظام السياسي العراقي القائم والعملية السياسية برمتها.
المستوى الثاني: اقناع المتظاهرين بكابينته الوزارية وبرنامجه الحكومي
حقيقة الأمر، ستكون الإرادة الجماهيرية التي اطاحت بحكومة السيد عادل عبد المهدي، واعطيت أكثر من 700شهيد وأكثر من 25الف جريح، إرادة قوية وصلبة من شأنها أن تجاري كل وسائل القتل والترهيب، التي تعرضت لها منذ انطلاق انتفاضة تشرين (1تشرين الاول 2019) وحتى الآن. ولاسيما إن موقف المتظاهرين من السيد الكاظمي هو نفس الموقف من الزرفي ومن قبله، لكن بشكل متباين، إن لم يكن أكثر تشدداً؛ لكون الكاظمي كان ، وما زال، على رأس الجهاز الأمني الأول “المخابرات”، ويعرف اسرار الجهاز. قد يكون هذا التحدي، الاستحقاق الأكثر شراسة وأهمية بنفس الوقت إمام حكومة السيد الكاظمي، متمثلاً بمطالبه الوطنية المشروعية، التي تتلخص بالاتي:
الكشف عن قتلة المتظاهرين ومحاسبتهم
تحديد موعد اجراء الانتخابات المبكرة
متابعة استكمال قانون الانتخابي وفق الشروط المحددة والمطلوبة
الخروج بكابينه وزارية غير جدلية
الشروع بمكافحة الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية، وفتح ملفات الفساد ضد ما يسمى بحيتان الفساد وتقديمهم إلى المحاكم.
ارجاع الاموال المسروقة إلى خزينة الدولة العراقية
اتخاذ اجراءات حقيقية في حصر السلاح بيد الدولة وضبط حركة الفصائل الشيعية سواء المنضوية داخل الحشد الشعبي أو خارجه.
اطلاق سراح المتظاهرين المحتجزين بسبب التظاهر وتعويض عوائل شهداء التظاهرات والمتضررين جراء العنف الذي استخدمته القوات الأمنية وبعض المليشيات ضدهم
مغادرة المحاصصة بكافة أشكالها، وسيكون القضاء العراقي سنداً للكاظمي في هذه النقطة، ولاسيما أنه اصدر قراراً بعدم دستوريتها.
المستوى الثالث: مواجهة الازمة الاقتصادية وتداعياتها الكبيرة
من المؤكد بأن الأزمة الاقتصادية اصابت العراق، وإن تداعياتها (السياسية والاجتماعية) بدأت تظهر للعيان، وربما تتفاقم تدريجياً في ظل السياسات الحكومية المتبعة، وسط اجواء سياسية غير مريحة وحالة عدم استقرار ، فضلاً عن العلاقة بين المركز والإقليم. تداعيات هذه الازمة، بدأت إجراءاتها بشكل مبكر جداً، في ظل تعثر الحكومة العراقية بدفع رواتب الكثير من وزارات الدولة في شهر نيسان، وارتفاع سعر الصرف الدينار العراقي مقابل الدولار، وفرضيات اللجوء الى خزين البنك المركزي العراقي والاقتراض، فضلاً عن المصادر التي تؤكد على الادخار الاجباري، واستقطاع نسب معينة من رواتب موظفي الدولة، أو تلك المصادر التي تذهب إلى الاقتراض الخارجي، أو غيرها من الاجراءات التي اتخذت او ستتخذ بخصوص وقف المشاريع وخفض نسب الانفاق العام او وقف تجارة استيراد السيارات من الخارج؛ للحفاظ على العملة الصعبة. كل تلك الاجراءات، تنبأ بخطورة الازمة الاقتصادية الحالية، التي ستتحمل تكاليفها حكومة السيد الكاظمي. فكيف ستواجه الحكومة المؤقتة هذه الازمة في ظل الظروف الراهنة، بالتزامن مع الازمة السياسية والصحية، فضلاً عن ازمة الاحتجاجات…؟
المستوى الرابع: التوازن في العلاقات الخارجية
يبدو للوهلة الأولى، بان هذا الاستحقاق أو التحدي أقل خطورة من التحديات السابقة، لكنه بنفس الوقت يعد من اعقد التحديات وأكثرها جدلية، وهذا ما شاهدناهُ من خلال الحكومات العراقية السابقة التي تشكلت بعد عام 2003، فكثير ما كانت الحكومات العراقية تحسم إقليمياً ودوليا، ومن ثم تطرح على الشعب العراقي، من خلال مجلس النواب. وعلى ما يبدو بأن حكومة السيد الكاظمي لا تختلف عن سابقاتها بهذا الجانب، على الرغم من أن السيد المكلف قال بأن تكليفه: “هو مسؤولية وطنية مهمة وخطيرة والنجاح يقع على عاتق الجميع”. واذا ما اخذنا الحكومات السابقة بهذا المعيار، فأننا سنرى بأن أي حكومة أو رئيس الوزراء، الذي لا يوازن بين طرفي الصراع سيكون قريب من خط النهاية، وسيُطاح به وبحكومته، وهذا ما حدث مع السيد المالكي في ولايته الثانية والسيد عادل عبد المهدي، وربما لذات الاسباب ايضاً تراجعت بعض القوى السياسية عن دعم السيد العبادي لولاية ثانية، وامتعضت بعض القوى السياسية من تكليف السيد رئيس الجمهورية للنائب عدنان الزرفي؛ لهذا سيكون السيد الكاظمي إمام معادلة سياسية (إقليمية ودولية) صعبة للغاية، لاسيما في ظل الصراع الأمريكي – الإيراني، وتمرد الفصائل المسلحة على القانون العراقي، ومعاداتها لحكومة السيد الكاظمي.
ثمة من يرى، بأن السيد المكلف ذا ميول أمريكية، مكنته من رئاسة جهاز المخابرات في عهد حكومة السيد العبادي في العام 2016، وهذا الموقف أو الحكم يكاد يكون ظاهرياً، بناءً على خلافه مع الفصائل والمليشيات المسلحة القريبة من إيران، لكنه في الحقيقة، يتمتع بعلاقات واسعة مع الولايات المتحدة وإيران على حد سواء، الأمر الذي يخوله أن “يكون عامل تهدئة”، بالإضافة إلى أنه “مقبول لدى الأطراف والكتل الكردية والسنية”. وقد رحبت كل من الولايات المتحدة وإيران بالسيد الكاظمي في بداية تكليفه، وجاءت مواقفهما كالاتي:
موقف الولايات المتحدة الأمريكية: رحبت الولايات المتحدة بما وصفته اتفاقا بين القوى السياسية في العراق على تشكيل حكومة جديدة، مشددة على ضرورة أن تكون هذه الحكومة قادرة على التصدي لفيروس كورونا ودعم الاقتصاد والسيطرة على السلاح. وقد جاءت التصريحات الأمريكية، داعمة لسيد الكاظمي، سواء بعد تكليفه أو بعد منح حكومته الثقة داخل مجلس النواب؛ لذلك اعفته من استيراد الغاز لإيراني لمدة (120) يوم، في أول دعم لحكومته بعد منحها الثقة؛ وذلك بعد أن هاتفه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.
موقف إيران: على الرغم من أن طهران رحبت بالكاظمي عند تكليفه، من خلال المتحدث بأسم وزير خارجيتها “عباس موسوي، إلا أن قوى الدولة في أيران تعتقد أن الكاظمي وبحكم كونه رجل مخابرات يجيد لعبة التوازنات، ويمكن أن يحافظ على علاقة جيدة مع أيران دون العودة لسياسة التبعية التي أوصلت العلاقات بين البلدين لما هي عليه الان، التي كانت احد اسباب انتفاضة تشرين نهاية العام الماضي، كما أنه يمكن أن يخفف من حدة التوتر والتنافس الايراني – الأمريكي داخل العراق، الذي يسهم في إدامة التوتر بين الطرفين، بل وقد يكون مؤهلاً للعب دور إيجابي لحل الأزمة مع أمريكا. لكن هذا القبول قد يكون قبولاً مؤقتاً، ولاسيما أن هناك من يرى، بأن قبول إيران للكاظمي، جاء على مضض؛ وذلك بسبب الفجوة الذي سببها غياب سليماني عن المشهد السياسي العراقي، وفشل خليفته قاآني في جمع البيت السياسي الشيعي، فضلاً عن ظروف إيران الحالية، فاقتصادها منهك نتيجة العقوبات الأمريكية، وتعاني من مشاكل اجتماعية وسياسية داخلية عميقة تحتاج معها الى هدنة واستراحة تمّكنها من أعادة بناء مرتكزات قوتها الاستراتيجية؛ لهذا ربما يكون قبول إيران بالكاظمي، قبولاً مؤقتاً. فعندما تستعيد قوى التشدد الايديولوجي بعد سليماني قبضتها على النظام ستبدأ بإعادة حساباتها مرة أخرى، ولاسيما ان تهديدات القوى المؤدلجة وحلفاء الحرس الثوري الايراني في العراق، لم تنتهي بعد، وما زالت تحاول بين الفينة والأخرى انتقاد اختيار الكاظمي وسيرتفع صوتها أكثر حينما يرى قادتهم في أيران أنه آن الأوان لاستعادة أرث سليماني. أي بمعنى أن الاصوات الشيعية العراقية التي تعالت ضد الكاظمي، واتهمته بالضلوع في مقتل سليماني والمهندس، ستعود إلى الواجهة مع أول أزمة تصطدم بها حكومة السيد الكاظمي.
على الرغم من ذلك، نعتقد بأن عملية إدارة التوازن في العلاقات الخارجية، ولاسيما بين طرفي النزاع (أميركا وإيران)، تبدأ من خلال إدارة العملية السياسية الداخلية بشكل صحيح، ونجاح الحكومة في مواجهة التحديات الداخلية على الصعيد (السياسي والاقتصادي والصحي والأمني) فضلاً عن إدارة ملف الاحتجاجات والعلاقة بين بغداد وأربيل بشكل واقعي.
المستوى الخامس: التحدي الأمني وفرضية إعادة سيناريو “داعش”
على الرغم من أن ترتيب هذا التحدي قد وضعناه أخر التحديات أو الاستحقاقات، لكنه يعد من أهم وأخطر التحديات وأكثرها صعوبة، ولاسيما مع استمرار رفض الفصائل الشيعية المسلحة للسيد الكاظمي، وتنامي نشاط تنظيم “داعش” مؤخراً. حقيقة الأمر يبدو بأن إعادة سيناريو “داعش”، لعبة سياسية تجيدها بعض القوى السياسية والاطراف الفاعلة على المستوى (الداخلي والخارجي)، إذا ما فقدت سيطرتها على زمام الأمور في السلطة أو عندما تتهاوى شرعيتها شعبياً، وهذا قد يكون من أكبر التحديات التي ستواجه حكومة السيد الكاظمي، وعلى الأخير أن يواجهها بشجاعة، إذا ما اراد الحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع العراقي. فضلاً عن ذلك، سيكون ضبط ايقاع الفصائل والمليشيات المسلحة، وحصر السلاح بيد الدولة أو اتخاذ إجراءات حقيقة بشأن ذلك، من اخطر التحديات امام حكومة الكاظمي، وهو بذات الوقت يعد الاستحقاق الوطني لأكثرا أهمية في وضع اللبنة الأساسية في بناء الدولة العراقية سواء في هذه المرحلة أم في المراحل القادمة.
على الرغم من صعوبة التحديات أعلاه، إلا أن، وانطلاقاً من فرضية تحويل الازمات الى فرص، من الممكن أن تكون حكومة السيد الكاظمي أكثر واقعية في ملامسة إرادة وطموحات الشعب العراقي، وأكثر شراسة ضد العرف السياسي السائد منذ عام2003، وإرادة القوى السياسية، من خلال إعادة بناء الدولة العراقية، وفقاً لمتطلبات المرحلة الراهنة. واتخاد الاجراءات والتدابير اللازمة، التي من شأنها أن تخفف من وطأة وشدة الازمة الاقتصادية وأزمة كورونا، والازمات الأخرى، كحصر السلاح بيد الدولة، ووقف الاقتصاد الموازي، الذي تديره الاحزاب المتنفذة بالتشارك مع قادة القوى السياسية، ولاسيما أن السيد رئيس الوزراء، تعهد بمواجهة كل التحديات المقبلة على اسس وطنية. فكيف ستتعامل حكومة السيد الكاظمي مع تلك الاستحقاقات…؟