أ.د عدنان حسـين الخياط / باحث في الشؤون المالية
باحث مشارك في قسم ادارة الازمات
مركز الدراسات الاستراتيجية – جامعة كربلاء
لم تكن قيود حماية المنتج المحلي من ابتكار الدول النامية ، وانّما نشأت هذه القيود وطُبقّت في الدول الصناعية المتقدمة نفسها قبل أن تُطبق في الدول النامية ، على الرغم من أنّ الدول النامية هي أكثر حاجة لتطبيق مثل هذه القيود ، ولاسيّما عندما تتعرض منتجاتها المحلية الى منافسة غير متكافئة من المنتجات المستوردة تؤدي الى الحاق الأضرار بمشاريعها الانتاجية . ونشير في هذا المجال الى آراء الاقتصادي الألماني (فردريك لِيســت) ، الذي كان من رواد حماية الصناعة الوطنية في القرن التاسع عشر ، من خلال دعوته الحكومة الألمانية الى فرض القيود الحمائية على السلع البريطانية المستوردة التي كانت تشكّل عائقا أمام تطور الصناعة الألمانية ابّان النهضة الصناعية التي شهدتها أوروبا في ذلك الوقت . كما انّ مرحلة العولمّة بما حملته من دعوات لتحرير التجارة العالمية من القيود ، الاّ انّها لم تتمكن من جعل دول العالم تتخلى عن القيود الســعرية للاستيرادات وتقديم الدعم لتشجيع استهلاك المنتجات المحلية ، حيث تطوّرت نظم الضرائب الكمركية التي تُعد من أبرز أدوات القيود الســعرية التي تفرض على الاستيرادات ، فضلا عن سياسة الاعانات والدعم الحكومي للمشاريع الانتاجية المحلية التي ما تزال تُستخدم ، بشكل أو آخر ، في جميع دول العالم على اختلاف أنظمتها ودرجة تطورها الاقتصادي . وتُعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين في وقتنا الحاضر ، نموذجا للتعبير عن الأهمية الفائقة التي تُشكّلها مسألة حماية المنتج المحلي من منافسة المنتج المستورد ، اذ انّ الولايات المتحدة التي تُعدّ القطب الأكبر في النظام الرأسمالي العالمي ، والدولة الأولى التي تنادي بتطبيق قواعد حرية التجارة ، لم تتردّد في زيادة الرسوم الكمركية على المنتجات المستوردة من الصين وتطبيق الاجراءات التي تحد من الاستيرادات ، عندما شعرّت بأنها أصبحت تضّر بمصالح المشاريع الانتاجية الأمريكية ، في ظل انخفاض عناصر الكلفة في الصين وارتفاعها في الولايات المتحدة والتفاوت الحاصل في القدرة التنافسية في تجارة بعض الأصناف من السلع بين البلدين . ومن ناحية أخرى ، فقد أصبحت الدول الصناعية المتقدمة تتفنن في ابتكار الوسائل لحماية مشاريعها الانتاجية الوطنية وتوجيه قنوات الاستهلاك في بلدانها نحو زيادة مشترياتها من السلع المحلية والحد من استيراداتها من الخارج ، وذلك في ظل ما صار يعرف ب ( قيود الحمائية الجديدة ) التي أصبحت تفرضها العديد من هذه الدول على الاستيرادات من خلال استخدام الأدوات والمسوغات الرمادية التي تخفي في طياتها سياسات تجارية تؤدي الى وضع عوائق أمام استيراد السلع وفق أساليب غير مباشرة ، كالتوسع في استخدام معايير الصحة والبيئة والسلامة الاجتماعية التي تختلف معاييرها من دولة الى أخرى ، وفرض شروط ، أن تكون هنالك نسبة من المكونات المحلية من الدولة المستوردة التي ينبغي أن تتضمنها القيمة المضافة للسلع المنتجة في البلد المصدّر ، وكذلك لجوء بعض الدول المستوردة الى فرض القيود الطوعية على المصدّرين بغية الالتزام بتصدير حجم معين من الصادرات . والملاحظ انّ مثل هذه القيود أصبحت تمثّل سياسات تجارية جديدة لا تتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية ، على الرغم من انّها تنطوي على أهداف تتمثل في ســعي الدول للحد من الاستيرادات وتشجيع الصادرات من أجل دعم موازين مدفوعاتها وتوفير الظروف الملائمة لمشاريعها الانتاجية الوطنية لزيادة مبيعاتها واستخدام الموارد الاقتصادية وتوفير الوظائف للباحثين عن العمل ، وزيادة مساهمة هذه المشاريع في الناتج المحلي الاجمالي وفي عملية التنمية الاقتصادية عموما . ولذلك نجد انّه حتى بالنسبة لحكومات الدول التي هي أعضاء في منظمة التجارة العالمية ، ومنها دول نامية ، والتي تكون مطالبة بتطبيق قواعد حرية التجارة ومراعاة الأسعار التنافسية ومعايير الجودة في مبادلاتها التجارية ، تحرص على اعطاء الأولوية في مشترياتها الحكومية الى السلع االتي تنتجها مشاريعها الوطنية ، ومحاولة استخدام الأدوات الحمائية الممكنة من أجل توسيع نطاق الأسواق أمام هذه المنتجات ، فضلا عن نشر ثقافة تفضيل المنتج المحلي كسلوك اجتماعي تنموي من خلال اقامة المعارض التجارية والندوات للتعريف بالمنتجات المحلية ، وكذلك من خلال الدور الذي يمكن أن تقوم به وسائل الاعلام في اعداد البرامج الهادفة الى تعزيز الوعيّ المجتمعي لزيادة اهتمامه بشراء المنتج المحلي . ومن ثم ، فانّ المشتريات الحكومية التي تشكّل حيّزا واسعا من الانفاق الوطني ، ينبغي أن تأتي في مقدمة الاهتمام بالمنتج المحلي باعتباره يمثّل ضرورة تنموية في اطار دور الدولة الاقتصادي ومسؤوليتها تجاه قضايا التنمية والتطور . وعلى وفق هذا التوجّه فقد عملت العديد من دول العالم ، ولاسيما الدول النامية التي تحتاج مشاريعها الانتاجية الى هامش من الحماية والدعم الحكومي ، الى التأكيد على ضرورة تطبيق التعليمات المركزية والزّام وزاراتها ومؤسساتها ، ضمن قوانين الموازنات السنوية ، على شراء المنتجات المحلية ، حتى وان كانت أسعارها أعلى بنسب معيّنة من المنتجات المستوردة ، مع مراعاة الضوابط المتعلقة بالمعايير النوعية وشروط الجودة ، والزام المشاريع الانتاجية المحلية على تطبيقها كأحد الشروط في عقود المشتريات الحكومية ، مما أسهم في تحفّيز المشاريع الوطنية على زيادة الاهتمام بالمواصفات النوعية للمنتجات وفق ما تتطلبه عقود المشتريات . ويرى العديد من المعنيّين ، أنّ لجوء الدولة الى تفضيل منتجاتها المحلية في مشترياتها لا يندرج ضمن بند الدعم الذي يتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية ، حتى وان كان البلد عضوا في هذه المنظمة ، وانّما مثل هذه السياسة تندرج تحت بند التسهيلات والتشجيع الذي ينبغي أن تُمارسه الدولة تجاه المشاريع الانتاجية الوطنية باعتباره يمثّل عاملا محفّزا لعملية التنمية الاقتصادية ، فضلا عن أنّ ما تركّز عليه قواعد منظمة التجارة العالمية هو الدعم الموجّه للصادرات الذي يسهم في تشجيع الشركات الأجنبية المصدّرة للسلع على اتباع سياسة الاغراق السلعي ، وذلك بتخفيض أسعار صادراتها في أسواقها الخارجية والتعويض عنها بزيادة الأسعار في أسواقها المحلية ، مما يتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية ، ومن ثم فانّ المنظمة ســمحّت للدولة التي يُمارس ضدها الاغراق السلعي ، أن تتخذ الاجراءات اللازمة لازالة التأثيرات السـلبية على مشاريعها الانتاجية الوطنية التي تنجم عن هذا الاغراق في اطار أدوات السياسة التجارية التي تساعد على زيادة فرض الضرائب وتقديم الدعم والتسهيلات للمنتجات المحلية . وفي ضوء ما تقدم ، فانّ توجّيه المشتريات الحكومية في العراق نحو الاستيرادات وتفضيل العقود الخارجية ، دون مراعاة الاعتبارات التنموية وما يشكّله دعم المشتريات الحكومية للمنتجات المحلية من أثر بالغ في النهوض بواقع الصناعة العراقية ، قد أسهم في جعل المشاريع الانتاجية المحلية تفقد جزءا مهما من أسواقها ، كما شـجّع هذا السلوك على اتساع ظاهرة الاستيرادات في الاقتصاد العراقي وزيادة عمليات التحويلات والمدفوعات المالية الى الخارج . ويمكن الاشارة الى انّ جانبا مهما من التفوّق الظاهر في الأسعار التنافسية للمنتجات المستوردة والتي اسـتُخدمت للمفاضلة بينها وبين المنتجات المحلية ، انّما يعود في معظمه الى جملة من العوامل التي أسهمت في تراجع مكانة المنتجات المحلية في الأسواق العراقية ، ومن هذه العوامل نذكر ما يلي : 1.سياسة الاغراق السلعي والتمايّز الســعري الذي تتبعه الجهات المصدّرة للمنتجات الى الأسواق العراقية . 2.تراجع دور الضرائب الكمركية في العراق بعد عام 2003 ، كأداة مهمة في الحد من الاستيرادات وحماية المنتج المحلي . 3.انخفاض الدعم الحكومي المقدم الى الشركات الصناعية العامة وتأخر اجراءات اعادة الهيكلة وأعمال التحديث والتأهيل التي تحتاج اليها هذه الشركات ، مما جعلها تعاني من الكثير من المشاكل التي انعكسـت على قدرتها التنافسية . فضلا عن انّ بعض الشركات الصناعية في القطاعين المختلط والخاص قد توقّف عن الانتاج ، أو أنها أصبحت تعمل بأقل من حدود طاقاتها الانتاجية بسبب المنافسة غير المتكافئة التي تتعرض لها من المنتجات المستوردة . انّ أبسـط أنواع التسـهيلات والدعم الذي يمكن أن تقدمه الدولة للمشاريع الصناعية الوطنية ، هو التوجّه الجاد نحو شراء منتجاتها بغيّة تحفيّز عنصر المبيعات الذي يشكّل العامل الأساس في زيادة الايرادات وتطوير عمليات الانتاج ، وفق ضوابط لا تركّز على الأسعار التنافسية ، بقدر تركيزها على المعايير النوعية والاعتبارات التنموية من أجل النهوض بواقع هذه المشاريع . فعلى الرغم من تضمين بعض الموازنات السنوية للدولة بنود تتعلق بضرورة التزام الوزارات والمؤسسات الحكومية بالتوجّه في مشترياتها نحو المشاريع الانتاجية الوطنية ، الاّ انّ مثل هذا الالتزام قد تطلّب تشكيل لجّان من الجهات المعنيّة بهدف تقييم مدى الانحراف في الأسعار التنافسية بين المنتج المحلي والمنتج المستورد في ضوء ما تتطلبه عقود المشتريات من معايير نوعية ، ومن ثم فقد أصبحت عملية التطبيق الفعلي لتوجّه الدولة نحو شراء منتجاتها مرتبطة بالقرارات التي تتمخّض عن هذه اللّجان . ولذلك فانّ تفعيل تطبيق التعليمات المتعلقة بالمشتريات الحكومية من المنتجات الوطنية يتطلب تضمينه في قانون حماية المنتجات العراقية رقم (11) لسنة 2010 وذلك باجراء التعديلات اللازمة على هذا القانون ، بما تتطلبه الضرورات التنموية من الزّام بتوجيه المشتريات الحكومية نحو قنوات الشراء المحلية والحد من الاستيرادات ، حتى وان كانت الأسعار المحلية أعلى بنسـبٍ معيّنة ، وكجزءٍ من متطلبات الدعم الحكومي للمشاريع الانتاجية الوطنية للمساعدة على توسيع الأسواق أمام مبيعاتها وتمكينها من تطوير الانتاج والارتقاء بقدرتها التنافسية .