بقلم : أ.د. سامر مؤيد عبد اللطيف
قسم الدراسات القانونية
حزيران 2020
“لا استطيع التنفس ” تلك هي الصرخات التي اطلقها جورج فلوريد الامركي من اصول افريقية وهو يلفظ انفاسه الاخيرة تحت اقدام الشرطي الابيض اثناء محاولة احتجازه في ولاية منيابوليس ، التي اشعلت لهيب الاحتجاجات الصاخبة في الولاية والعديد من الولايات الامريكية بما فيها العاصمة واشنطن ، وادت الى حرق واتلاف وسرقة العديد من المتاجر وتدمير سيارات الشرطة واصابة العديد من افرادها ، الامر الذي استدعى السلطات الى نشر قوات من الحرس الوطني قوامها خمسة آلاف عنصر في عشرين ولاية امريكية ، بعد أن عجزت الشرطة الأمريكية عن احتواء الاحتجاجات ، على الرغم من استخدام القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي ضد المتظاهرين واحتجاز اكثر من ألفين وخمسمائة منهم او من المتورطين بحوادث السرقة والتخريب .
لقد جاءت هذه الحادثة والاحتجاجات لتروي باسى قصة العنصرية المتجذرة في التاريخ الامريكي ، ولتشكو بالم بالغ الشرخ الغائر في النسيج الاجتماعي الامريكي من حالة التمييز العنصري وطمس الحقوق التي يعاني منها المواطنون الامريكيون من الاصول الافريقية في المجتمع الامريكي ؛ اذ لم تكن هذه الممارسة العنصرية والاحتجاجات ضدها الاولى من نوعها في التاريخ الامريكي الذي اعتاد على امثال هذه الاحداث في ([i]) ، ولن تكون الاخيرة باي حال من الاحوال طالما بقيت مسبباتها راسخة في بنية وثقافة المجتمع الامريكي ، وبمجرد النظر إلى الإحصائيات، نرى أن السود مازالوا يعانون من نفس المشاكل التي عانى منها أجدادهم ، فنسبة بطالة السود تقدر بثلاث أضعاف البيض، علما انهم يتقاضون أجرا أقل من البيض بمعدل 58% , وان ثلثهم يعيش تحت خط الفقر ، فيكون اكثر عرضة للمرض من غيره بمقدار الثلاثة اضعاف ويكون كذلك اكثر عرضة للتورط في الجرائم والسجن، حتى غدا اغلب السجناء من السود في الوقت الذي يمثلون فيه 15 % فقط من عدد السكان ([ii]).
وقد جاءت ازمة انتشار جائحة كوفيد 19 وما خلفته من اصابات بالغة بين صفوف الامريكيين وخسائر اقتصادية كبيرة رفعت من نسبة البطالة والفقر في المجتمع الامريكي ، لتصب الزيت على نار الاستياء الشعبي من اجراءات الحكومة وسوء ادارتها لهذا الملف وغيره ، بعد ان غدى التخبط والصدام وافتعال الازمات السمة البارزة لإدارة ترامب ، التي لم تنجح سوى في كسب الاعداء والتفريط بالأنصار. وما زاد في الطين بلة ، واجج من لهيب الاحتجاجات ، التصريحات المستفزة والقرارات القمعية التي واجه بها ترامب جموع المتظاهرين ؛ فتارة يصفهم بـ ” العصابات المخربة واللصوص والبلطجية” وتارة اخرى يدعو حكام الولايات الى اتخاذ اجراءات قاسية مع حركة الاحتجاجات.
وبكل الاحوال والصيغ ، فان هذه الاحتجاجات قد تميزت عن سابقاتها الكثيرة ليس في قائمة اسبابها المزمنة والمستجدة والمعبرة بجلاء عن ازمة مركبة وخانقة بات يعاني منها المجتمع الامريكي فحسب ، بل في سرعة انتشارها بين الولايات بصورة فائقة ، وفي اسلوب التعاطي العنيف معها من قبل الحكومة الامريكية ، وفي توقيتها المقترن مع ازمات اخرى مثل ازمة الوباء والكساد الاقتصادي العالمي فضلا عن اقترابها الوشيك من موعد اجراء الانتخابات الرئاسية الامريكية نهاية هذا العام .
وبنظرة مستقبلية سريعة لما ستسفر عنه هذه الاحتجاجات من نتائج وما ستخلفه من خسائر ، سنصل الى بناء افتراض قدرة السلطات الامريكية على احتواء هذه الاحتجاجات بما تملكه من قدرات وخبرات ، وبما سيفقده المتظاهرون من قدرة على الصبر والاستمرار ، خاصة بعد ان نجحوا في ايصال صوتهم وشكواهم الى الراي العام الامريكي والعالمي على حد سواء وان يفرضوا قضيتهم بقوة على الحسابات السياسية لصناع القرار في البلاد . وبكل الاحوال لن تمر هذه الاحتجاجات كسابقتها ، دون ان تقود الى اتخاذ سلسلة من القرارات والاجراءات الحكومية التي ستوفر المزيد من الحماية لحقوق المواطنين الامريكيين من ذوي الاصول الافريقية ، دون ان يعني ذلك تحقيق نقلة نوعية على مستوى نمط معيشتهم لاسباب تتعلق بالثقافة العنصرية السائدة في المجتمع الامريكي من جانب واسباب اخرى تتعلق بالوضع الاقتصادي المتازم في البلاد والذي سيجعل اي ادارة قادمة للبيت الابيض تركز على اولويات اخرى اهم بكثير من قضايا السود والاقليات الاخرى ، ولايستبعد ان تكون هذه الاحتجاجات مقدمة لاحتجاجات اخرى ستنشأ من رحم التمييز العنصري في المجتمع الامريكي والازمات الصحية والاقتصادية والاخفاقات السياسية المتلاحقة التي باتت اغلب فئات الشعب الامريكي تعاني من اثارها القاسية . ولا نطرح من حساباتنا المستقبلية بشأن ما ستخلفه هذه الاحتجاجات من نتائج وخسائر ، حساب كلفتها الاقتصادية بعد تراجع قيمة الدولار والدمار الذي لحق بالممتلكات والمتاجر في العديد من الولايات الامريكية ناهيك عن كلفة حشد القوات والامكانات لمواجهتها؛ هذا الى جانب ما خلفته من خسائر سياسية وانتخابية مؤلمة للرئيس الامريكي ترامب ومعه الحزب الجمهوري ، بعد ان فقد الكثير من رصيد التأييد الشعبي له حتى بين الانصار التقليديين من كبار السن والمحافظين ورجال الدين ، ما ينذر بعواقب وخيمة على صعيد معركة الانتخابات الرئاسية القادمة ولاسيما بعد ان اجاد الديمقراطيون توظيف الازمة وركوب موجتها وتصدرت قياداتهم جموع المتظاهرين، ولانتحدث عن الخسارة التي اصابت سمعة الولايات المتحدة وصورتها العالمية بوصفها قلعة الحريات والحقوق بعد لجوء سلطاتها الى اساليب القمع والعنف في مواجهة هذه المظاهرات .
وعلى قدر ما طرحته هذه الاحتجاجات من تحديات وصعوبات امام صناع القرار في الولايات المتحدة الامريكية ، فانها كانت فرصة ثمينة لمراجعة المواقف وترتيب الاوراق من جانب الناخبين والحكام على حد سواء ، ومن لم يستوعب دروسها ، سيكون الطرف الخاسر في المستقبل القريب .
[i])) عرفت الولايات المتحدة الأمريكية العديد من الاحتجاجات الضخمة والمظاهرات إضافةً إلى العنف المصاحب لها، عدا عن مئات بل ربما آلاف الحوادث العنصرية التي لا تفتأ تكرر نفسها، منها على سبيل المثال لا الحصر : ( لوس أنجلس.. 1965، نيويورك.. 1967، ديترويت.. 1967 ، اغتيال مارتن لوثر كينغ.. 1968. ميامي.. 1980 ،لوس أنجلس.. 1992 ، سينسيناتي.. 2001 ، فرجوسن.. 2014 وغيرها )
[ii])) عثمان فكري ، يحدث في أمريكا .. “لا أستطيع التنفس” ، مقال منشور في موقع بوابة الاهرام ، على الرابط : http://gate.ahram.org.eg/News/2412714.aspx بتاريخ 1/6/2020